خمس ملاحظات حول قضية عزمي بشـارة / جمال زحالقة

لقد حددت اسرائيل المشروع السياسي لبشارة بأنه تهديد استراتيجي، ومن الطبيعي ان تعتبر بشارة نفسه خطراً استراتيجياً. وحين وضعت المخابرات الإسرائيلية هدفاً بتصفية عزمي بشارة بسبب موقفه السياسي الداعم للمقاومة، كانت الأرضية جاهزة وناضجة لضربة قاضية. لقد فوت بشارة هذه الفرصة عليهم، وهذا افقد الساسة الإسرائيليين صوابهم فراحوا يسنون القوانين الانتقامية منه، رغم علمهم أنه لا تؤثر عليه بتاتاً وهو حتى لا يكلف نفسه عناء التطرق إليها والرد عليها.

خمس ملاحظات حول  قضية عزمي بشـارة / جمال زحالقة

القضية، التي انفجرت قبل خمس سنوات، في نهاية آذار 2007، والتي اطلق عليها قضية عزمي بشارة، لم تكن ملاحقة سياسية عادية، كالتي تواجهها القوى الوطنية في الداخل عادة، وكالتي واجهها هو نفسه من قبل، بل تعدت ذلك الى محاولة التصفية السياسية، إن لم يكن أكثر من ذلك. فقد أرادت إسرائيل منها التخلص من عزمي بشارة الشخص نهائياً من خلال محاولة تلفيق تهم امنية خطيرة ضده، وزجه في السجن بحيث لا يخرج منه. التخلص من عزمي بشارة الشخص، هو خطوة ضرورية بهدف التخلص من عزمي بشارة النموذج، الذي شكل النقيض الكامل لنموذج "العربي- الإسرائيلي"، التي أرادت السلطة وعملت على تسويقه للأجيال الشابة.   

بدأت ملاحقة بشارة قبل ذلك بكثير، ولكن بركان الغضب الإسرائيلي انفجر ضد بشارة في تلك الفترة بالذات، بسبب موقفه من الحرب على لبنان ومن المقاومة، حيث وجهت له تهم مثل "مساعدة العدو خلال الحرب"، و "تقديم معلومات للعدو"، "التخابر مع عميل أجنيبي"، وخرق قانون مكافحة الإرهاب.  بالمجمل، تهم خطيرة يمكن للمحكمة الإسرائيلية أن تستند إليها لحبس عزمي بشارة لسنوات طويلة جداً.  فتهمة مساعدة العدو خلال الحرب هي وفق القانون الإسرائيلي تهمة "خيانة" عقوبتها السجن المؤبد أو الإعدام، وباقي التهم أقل من ذلك لكنها بالتأكيد تهم من النوع الثقيل. واعلنت الشرطة الإسرائيلية ان هناك قضايا أخرى خطيرة لم تفصح عنها. 
 
لقد استندت الأجهزة الأمنية في ملف بشارة إلى التنصت على الاتصالات الهاتفية، وبالأساس على تأويل المكالمات التي اجراها بشارة مع اصدقاء من صحفيين وسياسيين، ومنحها بعداً امنيا وحتى عسكرياً.  التهم ملفقة، لكنها في نفس الوقت خطيرة، خطيرة جداً، فعندما يتعلق الأمر بتهم أمنية تقبل المحاكم الإسرائيلية وتصادق على كل ما يقوله الشاباك الإسرائيلي.
 
لأن بشارة حمل مشروعاً ديمقراطياً مناهضاً للصهيونية، ولأنه طرح مشروعاً قومياً اكد على الانتماء وعلى الحقوق القومية، ولأنه شدد على حق الشعوب في مقاومة الاحتلال، ولأنه دعا الى تحدي الهيمنة الأمريكية والإسرائيلية، ولأنه واجه وتحدى وبنى حركة سياسية وحرض الشباب على التمسك بحقوقهم وعلى النضال من اجلها، لكل هذا لم تعد اسرائيل تتحمل عزمي بشارة ومشروعه السياسي، وبحثت عن طريق للتخلص منه شخصياً وتصفيته سياسياً، فلجأت الى فبركة ملف أمني ضده، من خلال منح تأويل أمني وحتى عسكري لمواقفه السياسية المبدئية الداعمة للحق في مقاومة الهيمية الإسرائيلية.
 
لقد هدفت اسرائيل من وراء ملف بشارة الى الانتقام منه وإلى تخويف الناس وضرب الحركة الوطنية.  فشلت هذه المؤامرة فقد افلت بشارة من أيديهم، والحركة الوطنية، وحزب التجمع في مركزها، تخطت التحدي وهي أقوى وأمتن وأكثر صلابة وتمسكاً بمبادئها.
 
المقاومة، كانت محور التهم التي وجهتها المخابرات الإسرائيلية (الشاباك) لعزمي بشارة، إذ لم تتورع الجهات الأمنية الإسرائيلية من نشر إدعاءات بأنه وجه صواريخ حزب الله خلال الحرب، وبأنه نقل معلومات عسكرية خطيرة للحزب، وبأنه كان على اتصال وتواصل مع وكلاء للمقاومة وغير ذلك من التهم ذات الطابع الأمني العسكري.
 
كانت تلك محاولة مفضوحة للمس بمكانة بشارة كمفكر وقائد سياسي وتصويره بأنه مجرد مخبر ينقل المعلومات عبر التلفون (الذي تنصتوا عليه)، وذلك لسحب الشرعية عنه وعن فكرة السياسي وعن الحركة الوطنية التي يقودها.
 
لقد اشهر بشارة موقفه السياسي الحازم ضد الحرب العدوانية على لبنان، ومع حق المقاومة في الدفاع عن بلدها، ولم تكن اسرائيل بحاجة للتنصت عليه لمعرفة موقفه. ما أزعج اسرائيل فعلاًَ هو حديث التلفزيون وليس حديث التلفون، فقد كان لبشارة دور حازم في حشد دعم وتأييد الرأي العام العربي للمقاومة، تبعاً للمقابلات التي اجراها، وللمقالات التي كتبها، والتي افقدت حكومة اسرائيل صوابها، على اعتبار أن هناك حرب وأنه يقف مع العدو، ويقدم له دعماً فعلياً له وزن وأثر. وقبل ان تنفجر قضية بشارة بأشهر طويلة تطايرت ضده نعوت مثل "خيانة"، "طابور خامس" و- "عميل للعدو"، بسبب مواقفه المعلنة ضد الحرب ومع الحق في المقاومة.
 
عزمي بشارة دفع ثمن وقوفه الى جانب المقاومة ودعمه لها، وقد فعل ذلك مرفوع الرأس واثقاً بصدق موقفه وعدالة القضية التي من أجلها تعرض لمحاولة التصفية السياسة ومن ثم المنفى الإضطراري.  من يعرف عزمي بشارة، يعرف أنه كان دائماً على استعداد لدفع ثمن مواقفه، وهو لم يختر في يوم من الأيام الطريق السهلة لسهولتها، ولم يتورع عن ولوج الطرق الوعرة إذا كانت هي الدرب الصحيح.
 
المنفى، الذي يعيشه عزمي بشارة هو منفى اضطراراي، كالذي عاشه الكثير من المناضلين ضد الإحتلال والاستعمار والعنصرية والفاشية. خلال القرن العشرين، وجدت قيادات مناضلة من اجل الحرية نفسها في حالة منفى، ليس لأنها اختارت بل لأنها اضطرت لذلك.  لا توجد أي حالة سلم فيها أي مناضل مطلوب نفسه لعدوه. السبب بسيط، لأن من يسلم نفسه لن يحظى بمحاكمة عادلة وسيكون مصيره إما القتل أو السجن الطويل.
 
سألت صديقي عزمي بشارة مرة: "ألا تعتقد ان المنفى سجن أيضاً؟"، قال: "هذا صحيح، لكنه أخف من السجن الإسرائيلي".  السجن، في هذه الحالة هو البديل الوحيد للمنفى القسري.
 
هناك من اعتقد بأن المنفى سيؤدي الى إضعاف الدور السياسي لعزمي بشارة وإلى نضوب انتاجه الفكري.  لقد حدث العكس تماما، صحيح أن بشارة في حالة منفى عن وطنه الفلسطيني، لكنه في حالة طبيعية في وطنه العربي وفي فضائه العربي، ودوره السياسي تضاعف قوة وتأثيراً، وانتاجه الفكري أصبح اكثر غزارة وتنوعاً. 
 
عزمي بشارة، اليوم هو أكثر المفكرين العرب تأثيراً على الواقع العربي، على الرأي العام وعلى الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج.  بهذا المفهوم، هو اليوم من أهم المفكرين العرب، وهو يحظى بشعبية واسعة في كل أرجاء الوطن العربي، وصوته كان مسموعاً بقوة ومؤثراً في ميادين التحرير والتغيير.
 
نكتب هذا الكلام ليس مدحاً للمنفى، بل للتأكيد على أن بشارة يعرف كيف يقلب الموازين ويحول اللعنة الى بركة.
 
الجامعة، كانت المحطة التي رسم فيها عزمي بشارة المعالم الأولى لفكره السياسي. في النقاشات الطلابية العاصفة، كان له دائماً موقفاً متميزاً، بعيداً عن التقليد وعن المألوف والمتعارف عليه، حيث تمرد على مواقف الحزب الشيوعي بكل ما يخص بالمسألة القومية وقضية الديمقراطية، وصارع الفكر القومي المنغلق والخطاب الخشبي والتوجه بالمواعظ للناس.  لقد شدد بشارة حينها، وكان كاتب هذا المقال شاهداً على ذلك، على أهمية الديمقراطية وعلى السياق القومي، ليجمع بينهما بشكل خلاق فيما بعد من خلال اطروحات فكرية وسياسية متميزة.
 
 
في النصف الثاني من السبعينيات، كان بشارة طالباً في جامعة حيفا وكان شريكاً في إقامة الاتحاد القطري للطلاب العرب وفي قيادته. من بعدها في الجامعة العبرية في القدس، قاد اشرس معركة شهدتها الحركة الطلابية في الداخل، وهي مواجهة اليمين الفاشي، الذي قام بملاحقة الطلاب العرب والاعتداء عليهم وحاول منعهم من ممارسة النشاط السياسي الوطني، وقام بالتحريض عليهم وتأليب الطلاب اليهود وإدارة الجامعة ضدهم.  قاد اليمين الفاشي حينها، من اصبحوا وزراء بعدها، مثل تساحي هنجبي، الذي اصبح فيما بعد وزيراً للقضاء، ويسرائيل كاتس، وزير المواصلات الحالي، وإبيغدور ليبرمان، وزير الخارجية الإسرائيلي اليوم.
 
اعتبر اليمين الفاشي وأقطابه عزمي بشارة عدواً شرساً وقاموا بالتحريض عليه واتهموه بدعم الإرهاب، وبدعوة الطلاب العرب إلى "حمل العصي والسكاكين"، لمواجهة أمن الجامعة وطلاب اليمين.
 
لقد وضع عزمي بشارة استراتيجية التصدي والمواجهة مقابل اعتداءات اليمين الفاشي وملاحقة سلطات الجامعة والأجهزة الأمنية, وكان شعاره أن الحركة الطلابية هي رأس الحربة في المعركة ضد الاحتلال وضد محاصرة الوجود الفلسطيني في الداخل.  وما من شك بأن الحركة الطلابية التي قادها استطاعت ان تتصدى لليمين الفاشي وأن تجند الطلاب العرب في الإطر السياسية الوطنية، وان تطور وعيهم السياسي ودورهم الوطني.
 
لقد تعرض بشارة، خلال وجوده في الجامعة إلى تهديدات بالاعتداء وحتى بالقتل، وكان عرضة لتحريض دموي، وتعالت اصوات عنصرية تطالب بإبعاده عن الجامعة والانتقام منه. لقد اختار بشارة طريق الصدام والمجابهة مع الصهيونية بتجلياتها المختلفة، وهذا ما جعله عرضة للتحريض والملاحقة، منذ كان طالباً، وبالأصح قائداً طلابياً في الجامعة.
 
الملاحقة، وحملات التحريض السياسي، التي تعرض لها بشارة، لم تتوقف منذ كان طالباً في الجامعة، يواجه يمينا فاشياً، وجهازاً أمنياً يحاول تدجين الشباب العربي.
 
بعدها، وحين أصبح محاضراً وباحثاً، وطلع بمشروع دولة المواطنين، بديلاً لنظام الدولة اليهودية، ومشروع "الحكم الذاتي الثقافي" للفلسطينيين في الداخل، بديلاً لنظام الوصاية، وصفته النخبة الثقافية في اسرائيل بأنه يحارب الصهيونية بسلاح الديمقراطية.  هو بالمناسبة لم ينف التهمة.
 
ولكن التحريض الشرس ضده بدأ حين قرر إقامة حزب سياسي وخوض الانتخابات البرلمانية.  اسس بشارة حزب التجمع، عام 1995، وكان قائده ومنظره السياسي والفكري.  حينها، بدأ الحديث بأن بشارة "يستغل الديمقراطية الإسرائيلية لتقويض الدولة من الداخل".
 
ما أثار غضب المؤسسة الإسرائيلية، وما دفع رئيس مخابراتها إلى القول: "ما يحدث في صفوف العرب في اسرائيل هو التهديد الإستراتيجي لوجود إسرائيل كدولة يهودية"، كان هيمنة الخطاب السياسي لعزمي بشارة، وفي مركزه مشروع "دولة المواطنين"، الذي حول مطلب المساواة من مطلب اندماجي إلى برنامج مناهض للصهيونية، حيث يؤكد هذا المشروع بأن المساواة للمواطن العربي الفلسطيني في الداخل مستحيلة، إلا إذا تحولت الدولة من دولة يهودية لليهود، إلى دولة ديمقراطية لجميع مواطنيها.
 
لقد رأت المؤسسة والنخب في اسرائيل بأن مشروع بشارة يشكل تهديداً أستراتيجياً على اسرائيل كدولة يهودية، فإذا تحقق مشروعه انتهت الدولة اليهودية.  لكن بشارة لم يكتف بالتحدي الديمقراطي، بل طرح وبقوة اكبر تحدي الحداثة القومي، الذي تمثل بمشروع تنظيم الفلسطينيين في الداخل كمجموعة متماسكة منظمة تنتخب قياداتها القطرية وتبني مؤسساتها الوطنية المستقلة، وتمثل أيضاً بمطلب الحكم الذاتي الثقافي، الذي يشمل أتونوميا التعليم والمجال الثقافي عموماً.  ترجمت اسرائيل هذا المشروع على انه تهديد استراتيجي ويقود الى دولة ثنائية القومية ونهاية اسرائيل كدولة يهودية.
 
لقد حددت اسرائيل المشروع السياسي لبشارة بأنه تهديد استراتيجي، ومن الطبيعي ان تعتبر بشارة نفسه خطراً استراتيجياً.  وحين وضعت المخابرات الإسرائيلية هدفاً بتصفية عزمي بشارة بسبب موقفه السياسي الداعم للمقاومة، كانت الأرضية جاهزة وناضجة لضربة قاضية. لقد فوت بشارة هذه الفرصة عليهم، وهذا افقد الساسة الإسرائيليين صوابهم فراحوا يسنون القوانين الانتقامية منه، رغم علمهم أنه لا تؤثر عليه بتاتاً وهو حتى لا يكلف نفسه عناء التطرق إليها والرد عليها.

التعليقات