عزمي بشارة: خواطر في زمن كورونا ولأزمنة أخرى (9)

يلخص هذا النص القصير الموجه ضد الشائعات والخرافات والداعي إلى الاعتماد على الحقائق تفاؤل فلسفة التنوير منذ القرن الثامن عشر والذاهب إلى أن الحقائق كفيلة بتحرير الإنسان فهي توفر الوضوح والراحة وتصحح السياسات الخاطئة وتوحد البشر.

عزمي بشارة: خواطر في زمن كورونا ولأزمنة أخرى (9)

نشر الدكتور عزمي بشارة، اليوم الإثنين، 6 خواطر أخرى عن أزمة فيروس كورونا المستجد الحالية ولأزمنة أخرى، كما كتب عبر صفحته في "فيسبوك"، وجاء في منشوره اليوم:

1. نُقِل بوريس جونسون أمس إلى المستشفى، وكان قد أعلن عن إصابته بالفيروس قبل 10 أيام. ليس تساهل رئيس الحكومة البريطاني في التعامل الوباء في البداية سبب مرضه. فالفيروس لا ينتقم ولا يستهدف من استخف به. ولكن تساهله، بوصفة رئيس حكومة يقرر السياسات العامة، يتحمل المسؤولية السالبة عن مرض الكثيرين ممن كان بالإمكان أن لا يصابوا لو اتخذت بريطانيا إجراءات مشددة منذ الإعلان عن تحول كورونا إلى وباء عالمي.

2. منذ عهد تاتشر يعاني القطاع الصحي العمومي من الإهمال. وقد أراد جونسون خصخصته. غالبا ما يكون إهمال القطاع العمومي في الصحة والتعليم بحرمانه من الميزانيات والإدارة السليمة والرقابة على الفساد مقصودا لإظهار فشله وتبرير خصخصته. هذا درس لدول أخرى، منها دول عربية.

3. نشرت "نيويورك تايمز" أنه منذ أن أبلغت الصين منظمة الصحة العالمية عن وجود الوباء/ العدوى فيها في بداية يناير حتى شروع الولايات المتحدة بإجراءات منها وقف الرحلات من الصين، دخل مطاراتها 430 ألف مسافر من تلك البلاد. هذه مسؤولية ترامب وليست مسؤولية الصين. وسبق أن نُشِر أن ترامب أوقف مشروعًا بحثيًا مشتركًا مع الصين في مجال الفيروسات والأوبئة، مقره ووهان نفسها. مفارقات عجيبة تلاحق الرئيس العجيب.

4. نجمت حالة الإنكار التي عاشها ترامب عن خشيته من معرفة الجمهور الحقيقة عن الوباء وأثر الإجراءات الواجب اتخاذها على الاقتصاد والأجواء العامة "المتفائلة" في عام انتخابات. أكثرت هوليوود من إنتاج أفلام الكوارث. ويظهر في بعضها حكام ولايات ورؤساء بلديات أخفوا وجود خطر محدق أو مؤشرات عن وقوع كارثة على الرغم من تحذيرات خبراء، لكي لا يتسببوا بالهلع أو يعرقلوا مشاريع اقتصادية، فتسببوا بمضاعفة الكارثة. ربما شاهدها ترامب ولكنه لا يذكر منها إلا أن خبراء وسيمين وقعوا في حب خبيرات وسيمات وأنهم أنقذوا البشرية معًا في الدقيقة الأخيرة.

5. في الهند الأقرب إلينا جغرافيا دعا رئيس الحكومة مودي (صديق ترامب ونتنياهو) إلى إضاءة الهنود الشموع معًا في جميع أنحاء البلاد في الوقت ذاته. ربما تجاوبت معه طبقة معينة. ولكن من نفس الهند وردت مشاهد مصورة لقاطني أحياء فقر يطردون بالعصي والحجارة طواقم طبية جاءت لإجراء فحوص أو للإرشاد. قيل إنهم يعتقدون أن الطواقم الطبية هي التي تتسبب بالوباء. ربما يفضلون أن لا يعرفوا، أو ربما يعرفون أنهم لن يعالجوا على أي حال، بل قد يحاصرون ويمنعون من العمل ويجوعون، فقط لمنع خطرهم عن الأحياء الغنية، وربما يعتقدون فعلا أن الطواقم الطبية تريد أن تلحق بهم ضررا. خطر في بالي ألف سبب لهذا السلوك الغاضب. ولكن، على أية حال، أوبئة الفقر والجهل والعنصرية الطبقية المنتشرة في تلك البلاد تقزّم كورونا بالتأكيد.

6. اختارت قناة "سي إن إن" مضمونا مناهضا للشائعات والخرافات لفاصلٍ تبثه في هذه الأيام بين البرامج مؤلف من جمل مختصرة وقاطعة، وإليكم النص مترجمًا (الأفعال بالعربية متعدية في بعض الجمل ولكن تركناها دون مفعول به):

في زمن اللا يقين الحقائق توفر الوضوح

في زمن الهلع الحقائق توفر الراحة

في زمن التضليل الحقائق تصحّح

في زمن الانقسام الحقائق توحّد

في زمن الأزمة الحقائق هي الأهم

يلخص هذا النص القصير الموجه ضد الشائعات والخرافات والداعي إلى الاعتماد على الحقائق تفاؤل فلسفة التنوير منذ القرن الثامن عشر والذاهب إلى أن الحقائق كفيلة بتحرير الإنسان فهي توفر الوضوح والراحة وتصحح السياسات الخاطئة وتوحد البشر. في هذه الأثناء أصبحنا نعرف أن هذا ليس صحيحا بالضرورة، وأن الحقائق قد لا تكون مصدر راحة ولا توحد الناس. ولا يكفي إدراكها لتحرر البشر. وعلى الرغم من ذلك لا يوجد بديل عن التمسك بالحقائق أساسا للتفكير العقلاني وصولا إلى الاستنتاجات الصحيحة، أما استخدامها فمسألة أخرى لا تتعلق بالحقائق وحدها ولا حتى بنهج التفكير العقلاني وحده. موضوع طويل لن أخوض فيه. لكن تفاؤل "سي إن إن"، الذي لا أساس علميا له، مشروع ومبرر لأنه موجه لمكافحة الشائعات والخرافات والشعوذة، أي أن المقصود منه التأثير بالاتجاه الصحيح.

التعليقات