بؤس الثقافة أم بؤس المثقفين: ماذا فعلنا "بـ" عزمي بشارة؟../ عبد الرحيم الشيخ*

بؤس الثقافة أم بؤس المثقفين: ماذا فعلنا

I. اجترار


"الاجترار رفض لمشروع الطَّعم الأول- الطُّعم. إذ الاجترار بحثٌ عن مشروع الطَّعم الأخير، الذي لا طُعمَ فيه، إذ يرضاهُ فاعلُ الاجترار بوصفهِ طَعماً غير إكراهي. ولذا، فالاجترار مغامرة كسولة لتقويض الشكل عبر تكريس الفحوى. الاجترارُ تشكيلٌ للفحوى.." قد يكون هذا التمرين البلاغي، أو شبيهه، هو ما دار في النسيج الخلفي لذهن شاعر فيلسوف، كنيتشه، حين صاغ مقولته بأن "البشر يفتقدون لأبسط مهارات البقر: الاجترار." وقد يصح توسُّل هذا التمرين للفلسطيني، الذي لا يدَّعي الشعر ولا الفلسفة، حين يمارس التمرين البلاغي ذاته وهو "يجترُّ" شكل المقولة الفلسطينية، بأطعامها الأولى، حتى الطَّعم الأخير، الذي لا طُعمَ فيه، لتكريس الفحوى. ولذا، فلن تنحاز هذه المقالة إلى تحويل "الاجترار" إلى فضيلة، إذ هي ليست مقالةً في علم الأخلاق. ولكنها تأخذ الجانب الأرحب من الطريق حين تنحاز إلى جعل "الاجترار" فضيلةً، وهي تُنجزُهُ.


 


ولعل مادة الاجترار، في هذا السياق، هي "بؤس الثقافة الفلسطينية"، ولعل مناسبته هي "بؤس المثقفين." أما عن مادة الاجترار، فأختارها، وقد عزَّ المثيل، من مقولات فيصل درَّاج في مشروعيه المفتاحيين "بؤس الثقافة" و"ذاكرة المغلوبين". وأما مناسبة الاجترار، فهي عدم وجود مناسبة، أي الصمت المقيت للسواد الأعظم ممن يشتغلون بحقل الثقافة الفلسطينية، اليوم، وإن لم يكونوا يقومون بمهمة المثقف، وإن لم يعرِّفوا أنفسهم،أو يعرِّفهم أحدٌ، على أنهم كذلك.. بخصوص "قضية" عزمي بشارة.


 


أقول: إن بؤس الثقافة الفلسطينية، اليوم، وهي لا تصنع شيئاً "بـ" عزمي بشارة، كقضيةٍ، لا كمثقفٍ وحسب، لينضاف إليه بؤس المثقف الفلسطيني، اليوم، وهو لا يصنعُ شيئاً "لـ" عزمي بشارة، كمثقفٍ، لا كقضية وحسب. وأسجِّلُ، هنا، مقترحات، في النظر والممارسة، قد تُخرِج الثقافة والمثقف من بؤسهما وهي تُعاينُ البؤس وتضادُّه عبر الحديث عن "قضية" عزمي بشارة بما فيها من ازدواج المعنى والمبنى: قضية المثقف، ومثقف القضية.


 


II. نظر


ولذا، تجدر البداية من معاينة "بؤس الثقافة" بأدوات فيصل درَّاج التي منحت نعوتاً للثقافة الفلسطينية، وموقفها من الذاكرة الجماعية والتاريخ وسياسات تدشينهما على أيدي المثقفين، أفضت إلى وصف هذه الثقافة بأنها "سياسة ثقافية في سياسة بلا ثقافة،" يَصْنُو فيها "الإجماعُ" "الشرعيةَ"، ويغدو فيها المثقف الأرضي/(الريفي)، نبيَ السلطوي السماوي/(المديني) ومؤسسَ قداستِه التي يغدو الخروج عنها، أو الكتابة خارج "شرعيتـ"ها، إلقاء بالذات خارج مملكة "الإنسانية."وبالتالي، فإن "نفي الثقافة" إنما يتم، فلسطينياً، من خلال "ممارستها."


 


يتوصَّلُ درَّاج إلى هذه المقولة عبر توسُّلهِ منظومة غرامشية في التحليل ترى إلى إمكانية قراءة علاقة الريف-المدينة من خلال أشكالها الثقافية، ومن خلال قراءةٍ في النتاج والممارسة الثقافية لمجموعة من المثقفين الفلسطينيين "المفتاحيين"، قراءةً نفذ درَّاج، عبرها، إلى نتيجة، مؤدّّاها: إن وعي المثقف الفلسطيني هو وعي ريفي بالمعنى الغرامشي، أي إنه وعي المثقفِ الجاعلِ ثقافتَهَ سُلَّمَه الذهبي، ولربما الحديدي الصدئ، نحو السلطة على اختلاف أشكالها. وبذا، فقد تحققت للثقافة الفلسطينية، والسياسة كذلك، هزيمة محققة إذ إن الحراك السياسي-الثقافي، الذي شهده المشروع الفلسطيني من خلال ترحاله في أربعة رياح الأرض، لم يغيِّر دوزان المعادلة الغرامشية، بل عمل أكثر فأكثر على تكريسها، فتجلت ريفية المثقف في مراكمة الريع الثقافي، وتحقيق الاعتراف الاجتماعي، وتمظهرت ريفية السياسي في مراكمة السلطة، وتحقيق الذات سلطةً لا مرجع فوقها عندما تحوَّلت النخبة إلى "نخبة مضادة". وبذا، فقد عاين درَّاج علَّةً ذاتية لتبلور وعي المثقف على هويته الوطنية، ذاكرةً وتاريخاً، هي "الهزيمة" بوصفها ناظماً لتراكمات الفعل السالب، أي "الفعل" المفعولي المزدوج: مرةً جرَّاء الشرط العام، الكولونيالية الإسرائيلية، الذي يفترض بأنه كان علة وجود السلطوي الفلسطيني، ومرةً جراء نزعة التريُّف الثقافي لخطبة ودّ السلطوي نفسه.


 


أما في "ذاكرة المغلوبين"، فقد طوَّر درَّاج علَّة الذات الجماعية موضوعياً عبر قرنِ وجودِ الذات الفلسطينة بوجود آخرها الضروري، وإن تأنَّثَ اسمه، "الصهيوينة." هنا،يشبّه درَّاج الذاكرة الفلسطينية "بالبيت القروي" دون أن يُرمنسها، بل يحيلُ قارئه إلى الذاكرة كممارسة قروية تعبّر عن تجواله بين "المعرفة" و"الوشاية"، ويقول عن تلك الممارسة إنها: "معرفةٌ بفلسطين ومَن كتبَ عنها، ووشايةٌ باستقامة الأحكام أو باضطرابها".كما يؤسسُ أن هذه "الذاكرة كُتبت أو تمت محاولة كتابتها بأقلام مختلفة، وإن توحَّد موضوعها"ذلك "أن الواحدَ المتجانسَ، والسعيدُ بتجانسه، لا وجودَ له، "ولكأن درَّاج، يرجِّع حكمة عزمي بشارة المتكئة على مقولات بندكت أندرسون، أن "الذاكرة بعد انفراط عقد الجماعة، هي أيديولوجيا."ولذا، فإن درَّاج، في "ذاكرة المغلوبين"، ينفي وجود مثال مثالي في الكتابة كما في الممارسة، و يشكّل ذاكرة فلسطينية من تسعة أسماء فلسطينية أخرى "مفتاحية"، ويؤسس أن الوطنَ هو مبتدأ الذاكرة، الجماعيةِ، وإن كوَّنَتها أقلامٌ فردية. كما إنه يحقّب الذاكرة المقدَّسة، أو تكاد، ويدنيها من أخيها العلماني، أو يكاد، أخيها غير الشقيق: التاريخ، فيقول: "ذاكرةٌ كهذه تخلَّقت في الصراع أو شهدت عليه، تكون تاريخيةً، وإن اهتز معنى التاريخ لدى من انتسبَ إليها. ولعل تاريخية الذاكرة، وعمرُها قرن من الزمن تقريباً، هو ما يجعلُها طليقةً ومحاصرةً في آن. محاصرةٌ، وقد حدد الغزو الصهيوني موضوعَها، وطليقةٌ، وهي تقاومُ الحصارَ، وتستلهمُ المستقبلَ الآتي."


 


عبر هذين المدخلين في التشخيص الدرَّاجي، يمكن القول بأن "بؤس الثقافة" ليس صنو "بؤس المثقفين"، بل نتيجتُهُ، بالمعنى الفلسفي للنتيجة. أي، إن المثقف البائس، الذي انهزمت روحه، قبل انهزام مشروعه، هو ما أََرْوَثَ في الثقافة بؤسَها، وأورث في مشروعها هزيمته. ولكن، أليس للهزيمة تاريخها؟ بل، أليس للهزيمة من يؤرِّخها؟ أقول (مجترَّاً): قد تحيل الهزيمة إلى ازدواج الفاعل في الفعل السالب، إذ هو الغالب المزهو بنصره، وهو، في الآن نفسه، المغلوب الذي مسَّته "فتنة المنتصر"، وأعاقته أن يكون هُوَ هُوَ، منهزماً لا مهزوماً. غير أن تدوين ذاكرة الهزيمة-ولربما تدشينها، لأن الهزيمة،كالنصر، مشروعٌ، لكنما أملاه الآخرون وقبلت به الذات- يحيل إلى فرادة الفاعل الذي يبكي زمناً مضاعاً توَّجته الهزيمة، أو يؤسس لزمن خارج تقويم المتنصر قد يتكلل بتحرر جدل "العبيد" من جذل "السادة."


 


هنا، يجدر القول، إن استحضارَ تشخيصِ بؤسِ الثقافة وبؤس المثقفين، كتسجيلين شائهين لمشروع الهزيمة، ليس من باب إلقاء اللوم على بنية الثقافة أو فواعل البنية المنتقلين، تباعاً، إلى خندق المفعولية الذميم. بل للتأسيس بأن الثقافة، ابتداءً، هي قضية للمثقف، ولكن المثقف حين يمارس قضيته وينافح عنها، ينحالُ، هو، إلى جزء تأسيسي من القضية ذاتها. إنه يفعل الفعل الثقافي، فتصير الثقافة امتداده، ويصير هو امتدادها، من غير سوء. وبالتالي، فإن المبالغة في التنظير لدور المثقف، هنا، تغدو خارجةً عن السياق، إذ بغض النظر عن التفصيلات التاريخية والجغرافية التي منحت للمثقف نعوته (انتحارياً، وقديساً، وعضوياً، وتقليدياً، وكونياً، ومدمراً، وعاماً، ولا خاصاً... أو واحداً منها وحسب) فإن جماع هذه النعوت ينتج المثقف بوصفه قابلةً لا خالقاً، وبوصفه متحولاً أبدياً من سادنٍ للبرزخ الذي بين السلطة ومفاعيلها، إلى فاضح لأقنعتها في جغرافيات المكان والخطاب، ومن داعية للحرية وحسب، إلى منحازٍ لفكرة اللا-سلطة. وبذا، فإن كل هذه التوصيفات تحيلُ إلى المثقف المشتَهى وهمّه البدئي الذي هو إنجاز مشروعه كمثقف، أي عبور عتبة التنوير التي تُخْرِج المثقف من فرادنية فعل التنوُّر (المثقَّفية) إلى جماعيَّة فعل التنوير (الفعل الثقافي) الذي من خلاله، ومن خلاله وحسب، يتمكّنُ المثقف من فضح بُنى الشر السلطوية، ووضع أجندة أخلاقية لمقاومتها والمشاركة في إنجاز هذه الأجندة.


 


فأين موقع عزمي بشارة، إذن، قضيةً ومثقفاً، من هذا الجدل؟ ماذا فعل عزمي بشارة للقضية؟ وماذا فعلت به القضية؟ وماذا فعلنا بعزمي بشارة-القضية، لا بـ "قضية" عزمي بشارة في زمان تحوُّل "النخب" إلى "نخب مضادة"؟


 


أقول (مجترَّاً): إن وحدة الدفاع عن الخير الفلسطيني الخاص، هي وحدةٌ للدفاع عن الخير الإنساني العام، وهي قنطرةُ الخروجِ بما صار يُعرف اليوم بـ"قضية بشارة" من حدِّ التهمة إلى حدِّ الاتهام."ليس مطلوباً من الفلسطيني تبريرُ كونِهِ غيرُ صهيوني"، هكذا تكلَّم عزمي بشارة، وهكذا نكرر اليوم. لم نخسر حداثَتَنا، ولم نختر منافينا..لم ندفع الشهداءَ، والأسرى.. ولم نتجرع الظلم ستين عاماً كي يُحاكمَ جُرحُنا على عدمِ تقاطعهِ مع حصرية جُرحِ الصهيوني وفكرتِهِ الشوهاء عن ذاته وعن الآخرين. ولذا، ينبغي الخروجُ من حدِّ التهمة إلى حدِّ الاتهام عبر تحويل هذه المحاكمة لعزمي بشارة، وللوجود الفلسطيني الأصيل على أرض فلسطين المحتلة عام 1948، إلى محاكمة للضمير اليهودي، إن وُجِدْ، ومثيله الإنساني، على الخطيئة التاريخية التي ارتكبت بحق الفلسطينيين ولا تزال.


 


لكن الخروج من حدِّ التهمةِ والنقوص، إلى حدِّ الاتهام والإدانة، لن يكون بغير تعريف أولوياتِ الخير الفلسطيني العام، وتدشين، أقصرِ السبل إليه. وهنا، أقول (مجترَّاً): أما أداةُ الماس في هذا التعريف، فـ"فلسطينيتنا"، وأما أعلى أولوياتِ الخير العام فـ"بقاؤنا"، وأما أقصرُ السبل إليه وأنبلُها، فـ"وحدتنا"... ولا بقيةَ، إلا التفاصيل. إن فلسطينيتنا لن تزالَ تُحَتِّمُ علينا صياغةَ إحداثياتِ الحبكة الفلسطينية بوضوح لا يعرفُ التلعثمَ، ومواصلةَ حملها للعالم على نحو يسهم في تحقق خيرنا العام.


 


III. مِراس


 


أما إحداثيات الحبكة التي لن نملَّ من تكرارها، فخطيئةٌ- محنة، هي نكبة العام 1948 وما ترتب عليها من إجهاضٍ لحداثتنا وتشريد لأهلنا. وتكفيرٌ- خلاص، هو إنهاء الاحتلال، وإقامةُ الدولة، وضمان العودة. وأما أولويات الأجندة، فيتصدرها تعيين ساحةِ الاشتباك ومحورِه على نحوٍ يمكِّنُنا من كسب معركة الدموع في حربنا مع آخرٍ تُعَرِّفه، زوراً، الدمعةُ، كسباً يدحض مقولات التكافؤ الأخلاقي، بل ويعيد الاعتبار إلى مقولة التفوق الأخلاقي للضحية الفلسطينية التي لن يضيق بها خطاب الضحية وأن ضاقت به. ولذا، ندعو إلى صدِّ هذه الهجمة على عزمي بشارة: مشروعاً، وفكرةً، وشخصاً، عبر تحويل القضية إلى ملف إدانة لإسرائيل فكرةً ودولةً، وذلك على مستوياتٍ ثلاث:


 


فعلى المستوى الفلسطيني- العربي :يجب ترجمةُ "قضية عزمي بشارة" إلى "مشروع عزمي بشارة" وليس إلى "جريمة عزمي بشارة." وإن تلك الترجمة لا تتم إلا عبر التأكيد على الحقيقة التاريخية بأن المشروع الصهيوني الحصري بإقامة دولة إسرائيل كدولة لليهود، هو نقيض وجودي للمشروع الفلسطيني بتأسيس حداثة الفلسطينيين ودولتهم على الأرض التي تم احتلالها، وبالشعب الذي تم تشريده، وبالثقافة التي تتواتر المحاولات لطمسها وإجهاض محاولات تسجيلها التاريخي. وعليه، فإن إبراز هذا التناقض، والعمل على فضِّه عبر محاربة دولة الاحتلال من قبل من هم خارجَها من الضحايا الفلسطينين، أو محاولة تغيير طبيعتها العنصرية من قبل من هم داخلها من الضحايا ذاتهم، يُعدُّ وفاءً للمشروع الوطني الفلسطيني، والإنساني، لأنه انحياز لمسألة الحرية والعدل، وحرب على الاحتلال والظلم. ولذا، فإنه يترتب على ذلك عدم اتخاذ موقف الدفاع، بل اتخاذ موقف الإدانة وتحويل ملاحقة عزمي بشارة والتصفية السياسية والوجودية لعرب فلسطين المحتلة عام 1948 إلى محاكمةٍ مفتوحة للاحتلال ونظام الفصل العنصري غير المعلن- إسرائيل. فمن يجب أن يُحاكم هو وريثُ "رب الجنود" الذي دعا إلى الحرب، لا وريثُ "خطيبِ الجبل" الذي دعا إلى إيقافها. إن مَن ينضح فاشيةً ويطالب بإحقاق كابوس هرتزل عبر الحفاظ على دولة الاحتلال الإسرائيلي كدولة لليهود، هو من يجب أن يُحاكم، لا من يطالب بالمساواة ويوحِّد بين هوية النوع الإنساني ويدافع عن قضية العدل والحرية عبر تكريس نفسه لإدناء يوتوبيا "دولة كل المواطنين" من توبيا "المواطنين" الذين بلا دولة ولا مواطنة كاملة، أي للعمل على تحويل إسرائيل من دولة تُشرعِنُ العنصرية في مؤسساتها القضائية والسياسية، إلى دولة تتحقق فيها المساواة حسب مقولة "دولة لكل مواطنيها" التي كان، وسيظل، من شأنها أن تنفي وصمة التناقض الوجودي بين "ديمقراطية" إسرائيل و"يهوديتها".


 


أما على المستوى الإسرائيلي-اليهودي: فينبغي وضع الضمير الإسرائيلي بخاصة، والضمير اليهودي عامة، في امتحان النضال ضد إبقاء إسرائيل كـ"جمهورية سادة" و"فقاعة قيصرية"، وذلك عبر تحويل الوجود اليهودي من ذريعة لارتكاب دولة الاحتلال جرائمَها إلى عبء إنساني عليها، ومن صوتٍ لتأييدها، إلى سوطٍ لإدانتها وذلك عبر التأكيد على إن بقاء إسرائيل دولةً لليهود هو الخطر الاستراتيجي الأكبر عليها وليس العرب، كما صرح رئيس "الشاباك" الذي بدأ هذه الحملة الفاشية السافرة ضد بشارة والعرب. إن الخطر الحقيقي على اليهود هو هوسهم بشفرة الدين والقومية التي جعلت الديمقراطية الإسرائيلية ديمقراطية غالبين، لا تتسع للمغلوبين ولا لـ"أقدامهم السوداء." إن الضمير الجمعي لإسرائيل، ويهود العالم، اليوم، في اختبار حاسم توجه فيه النداءات إليهم، لينتصروا للمغلوبين والمضطهدين على الحق. مطلوب الآن، وهنا، وقف هذه المهزلة وإصدار بيان للمثقفين وغير المثقفين يدين نظام جرائم الحرب الإسرائيلي، ولا يدين من دعا إلى وقفها. ومطلوب من الضمير الجمعي اليهودي أن ينهض من على طاولة المشرحة ويعود إلى الحياة بعد سبات طال أمده وتعددت مراثيه حين سمحَ للكيان الصهوني الفاشي المتاجرة بدم الضحية اليهودية على حساب ضحية أخرى هي الفلسطيني الجديد الذي لم يتوقف صلبُهُ يوماً واحداً منذ قيام دولة الاحتلال.


 


وأما على المستوى العالمي :فينبغي تعميم العمل في السياقين السابقين بحيث تُحوَّل جريمةُ محاكمةِ عزمي بشارة وشعبهِ إلى فرصة لتعرية فاشية دولة إسرائيل وعنصريتها في الساحات الشعبية، والأكاديمية، والبرلمانية العالمية. إضافة إلى ذلك، ينبغي القيامُ بحملة إدانة مضادة تستثمر أجواء "عولمة القانون الدولي" لملاحقة مجرمي الحرب (من شارون إلى خالوتس) لفتح بوابة الملاحقة القضائية لمجرمي الكيان الصهيوني الذين رُفعت ضدهم الدعاوى ومذكرات الجلب في أكثر من دولة، بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية أو جرائم حرب على امتداد حرب إسرائيل المفتوحة ضد الفلسطينيين والعرب.


 


IV.معرفة


 


هكذا أرى الردَّ على سُعار ما في آخرِنا من وحشٍ ونحنُ نحافظ على إنسانيتنا نحنُ، ونحاولُ إعادته هو إلى أرض الرشد ونحنُ نردعُهُ، ونعلنُ معرفَتَنا لذواتِنا التي لا تكف عن مديح الحياة وهي تعلنُ معرفتَها بمن يدشِّنُ للفلسطينيين مشروع حداثتهم وزمنهم الخاص. وهكذا نعرفُ عزمي بشارة، ونعرِّفُهُ. عزمي بشارة: اسمٌ يأخذنا، طوعاً، إلى باب المجاز حين تحيلنا ثُنائيتُهُ إلى أرضِ الفلسطينيِّ الأولِ-الناصرة: عزماً وبشارة. واسمُ يؤكِّد أن قضيةَ "المضطَّهدين من أجل البِّر" واحدةٌ. واسم يبوحُ بجمالية الرمز وقوامِ قنطرِتهِ إلى أرض الخير وهو يَعِدُها بأيام الحصاد، ويُعِدُّها. واسمُ يستعيدُ صورة الزمن السعيد، وهوَ يُنجِزُهُ، ويعيدُ إليهِ الجدوى حين يقرنُ العزم بالبشارة... لكنه اسم،آخر، لن تزال المؤسسة الثقافة الفلسطينية، رسمية وغير رسمية، مدينة له ببعض الواجب، إن عزَّ الوفاء: أن تستثمر في "مثقف القضية" كل ما بوسعها لتُخرجَ "قضيةَ المثقف"-فلسطين مما هي فيه من بؤس.


 


بالأمس قلتُ، إن زمانَ الأنبياء انتهى.. مضى وانقضى. اليوم أقول (مجتراً): إن أيامنا هذي زمانٌ للنبوُّات. أسراً، وصلباً، قضى أنبياءُ الزمانِ، ومضوا، لكن الفكرة انتصرت من غير سوء. واليومَ أعلنُ (غير مجترٍّ): أن أصحاب النبوَّات يُحَاكمون لأنهم يعصونَ أوثانَ المدينةْ، ويدشِّنونَ زمانَهُم. زمنَ الفلسطيني المغاير، ضرورةً، لزمن آخره النقيض. إنها حكمةُ الوقتِ تعلمنا أن زمن "السادةِ" لا يتسع لأقدامِ "العبيدِ" التي في الأرضِ، ورؤوسِهِم التي عندَ الله. إنها حكمةُ الوقت تُعَلِّمُنا أن زمن مَنْ يُكْرَهُونَ ويُضطَهَدونَ على الحق، لا يُعرَّف بُخطى من يُكرِهونَ ويضطهِدوَنَ على الباطلْ، لكنَّهُ يَعرِفُهْ. ونحنُ نعرفُ عزمي بشارة، ونحبُّهُ لأننا نعرفُهُ، ونعرفُ "قضيَّتَهُ"/قضيَّتنا. ونعرِفُهُ لأنه ينحاز إلى خيرنا العام وخيارنا في الحرية والحياة.. فطوبى للناصري الأول، وطوبى للناصري الأخير. طوبى للفلسطيني الأول الذي لن يزال دمُهُ، على خشب الصليب، يُدنينا إلى ما فينا إنسان، ويدينُ ما في آخَرِنا من وحش. وطوبى للفلسطيني الأخير الذي سيظلُّ ملحَ هذي الأرضِ، وخيطَ قِماشتها الأصيلَ، كما كان مواطُنُهُ الناصريِّ. فطوبى للفلسطيني الأول وطوبى للفلسطيني الأخيرْ.


 


التعليقات