ما بعد بعد عزمي بشارة../ د.عمر سعيد

ما بعد بعد عزمي بشارة../ د.عمر سعيد
يحرم الشرع الاسلامي رد الزوجة لعصمة زوجها، بعد أن طلقها ثلاث مرات صحيحة، إلا بعد أن تتزوج من غيره، وذلك لتنفير الرجال من التساهل في شأن الطلاق. وللتحايل على هذا الحكم الشرعي، فقد ابتكرت بعض الفئات الاجتماعية وظيقة "المحلل" وهو بطل مسرحية زواج مدفوعة الأجر، تجسد صناعة تشويه قيم الزوجية ومجالاً بائساً للافادة من مصائب الآخرين. بهذا الدور، يكون "المحلل" أشبه بمحطة لتحليل الحرام وتحلية نكهته. وقد أطلق عليه الرسول الكريم (ص) صفة "التيس المستعار"، كتعبير عن استقذاره لفعلته وطبيعته. هؤلاء "المحللون" كانوا عندها قلة في مجتمعاتهم، لأن مهمة كهذه تفترض من منفذها أن يكون "متحللاً" من عبء الكرامة الشخصية وثقل الضمير.

في زماننا هذا كثر "المحللون" السياسيون حتى صاروا جيشا عرمرما، وتزدان أكتاف بعضهم بنياشين وهمية تستدر الشفقة حيناً والضحك احياناً أكثر. "تحليلات" بعضهم لا بد أن تأخذك في رحلة ممتعة إلى رحاب عالم "المحلل" إياه، خاصة حينما يكون "المحلل" شاعر بلاط بامتياز وينطبق عليه ما قاله شاعرنا الفطين أحمد فؤاد نجم:"حرباية يا ابن الحرامية مية المية"، أو سياسياً مسكونا بهاجس التنافس مع عزمي بشارة حتى صار مقلداً بارعاً، ليس للحن خطابه فقط، وانما لحركاته ونبرة صوته ولا أدري بماذا أيضاً.

قصتنا مع "المحللين" طويلة ومضنية، تبدأ مع قرار التقسيم و"تحليل" الوجود اليهودي الكولونيالي في بلادنا، واحتساب ذلك تعبيراً عن حق تقرير المصير لمجتمع المهاجرين بعد أن تحولوا، خلال بضع سنوات، إلى أمة تجيز له "الماركسية اللينينية" ممارسة هذا الحق(؟!)، و"تحليل" إدانة العمل الفدائي مع انطلاقته الأولى، و"تحليل" انزال العلم الفلسطيني والدوس عليه وعلى رافعيه لمنع أبناء الحركة الوطنية (أبناء كيننغ وقتها ؟!) من العبث بحرمة الأخوة العربية اليهودية، أو بحجة التطاول على قرارات "القيادة المسؤولة"....... الخ الخ والقائمة طويلة. وبالمناسبة، فقد استحضرت مؤخراً، إلى حياتنا السياسية تلك المنظومة المصطلحية البائدة (قيادة تحمي شعبها، قيادة مسؤولة وغير مغامرة، شعب له قيادة...) وذلك، على ما يبدو، لتؤدي دوراً قد يكون الأخطر في حياة حركتنا الوطنية في الداخل، خاصة لتوقيتها ودلالاتها في ضوء الملاحقات المخابراتية ضد عزمي بشارة وتقاعس نفس الاطراف في التصدي لهذه الحملة (إن لم يكن أكثر من ذلك).. وذلك في أحسن الأحوال.

غني عن التاكيد أن إسهامات عزمي بشارة الوطنية والفكرية المتميزة تستدعي الاحترام البالغ، ليس فقط لزخمها وعمق تأثيرها على أنساق الممارسة السياسية والإبداعية في ساحتنا، وإنما، بالذات، لكونها تعتمد فكراً علمياً منهجياً قطع الطريق بوجه التيار التحريفي، وتجاوز المألوف لدى المدرسة المحلية التقليدية، والتي راوحت في مكانها وتخبطها ردحاً طويلاً من الزمن، متأثرة بانهيار المرجعية الشيوعية، وبروز مرجعيات الإسلام السياسي.

لقد شق عزمي بشارة ورفاقه عصا الطاعة لسطوة المدرسة التلفيقية التي تعتمد التلقين الحزبي والإشاعة والتدليس المعرفي طريقاً أساسياً لحضورها. مع ذلك، فالمجال النقدي واسع لإجراء تقييم جذري للكثير من آراء ومواقف بشارة المثيرة للجدل حتى في أوساط التجمع نفسه، وهو أمر مطلوب بل وواجب، لكن سهام التطاول المنفلت التي يوجهها بعض الكتبة الصغار من الذين بنوا "مجدهم" على فتات أفكار الآخرين، والمستكتبين المذعنين الذين ألحقوا العار بالفكر والاجتهاد العقلي، وغيرهم ممن لم يقرأ في حياته كتابا جديا واحدا حتى ينبري يوزع الإجازات الفكرية على خلق الله، أو أصحاب العروش الانتهازيين الذين امتهنوا "التحليل" بحسب الطلب...وغيرهم، فهؤلاء ينبغي على الشرفاء مواجهتهم وفضح دوافعهم المستورة.

وما دمنا في موضوع "التحليلات" السياسية، فإنه يحق لنا أيضاً أن ندلي بدلونا في هذا المضمار، "فليس هناك أحد أفضل من أحد"، فنقول: إن حركتنا الثقافية المحلية، بشقيها الفكري والسياسي، قد شهدت في العقد الاخير انقلاباً نوعياً في طبيعتها وأساليبها وذلك عبر هيمنه شبه كاملة لخطاب التجمع ورؤيته السياسية. إن هذا التحديد لا يغفل ولا يقفز عن منجزات الأطراف الأخرى في حلبتنا الثقافية وأثرها في حركة تطوره وانبنائه. والتجمع من جهته لا يدعي أن هذا الخطاب السائد قد تشكل هكذا فجأة مع ظهوره، بل هو حصيلة لتراكم نضالي معرفي طويل أسهمت فيه أطراف وطنية كثيرة، بينما تمكن التجمع من شحنه وتحديد ملامحه الحقيقية، فخلصه من تناقضاته الداخلية ونسق بنيته المنطقية، مستفيداً من اجتهادات نوعية وقدرات قيادية فذه لرئيسه الدكتور عزمي بشارة.

وامعانا منا في التوضيح نقول إن مصطلح "الخطاب" يعني بالدرجة الأولى ذلك الفضاء الفكري الثقافي التي تتولد في أحشائه حركة إنتاج المعرفة والنصوص والبرامج وكافة الأنشطة الإبداعية. أي أن "الخطاب" هو البنية العامة المتخفية وراء تلك الممارسات والإجراءات الفكرية والسياسية، حيث يستدل عليه ( أي الخطاب) من خلال قراءة علمية للنتاجات الفكرية المتعددة وبضمنها البرامج الحزبية. أما قراءة النصوص لوحدها فتظل مرهونة بعقل القارئ نفسه وأسيرة مقاصده خلال عملية التفاعل والاستقراء.

هذا بالتحديد ما يفسر انزعاج ناشطي "الجبهة" وغيرهم حينما يدعي التجمع لنفسه هذا الإنجاز، وذلك لثقتهم أن برنامجهم السياسي يتضمن – حتى قبل ظهور التجمع - تصوراً مشابهاً في كثير من الأحيان لما يعرضه حزبنا، بل ويتقاطع معه في بعض من أهم القضايا النضالية الراهنة. هذه المفارقة الذهنية دفعت ببعض القيادات الحزبية والمثقفين إلى العمل على تعطيل هذا التصور أو تسخيف فعله وأثره النضالي، لكنها في واقع الامر انساقت، من حيث تدري أو لا تدري، في استحقاقات هذا الخطاب، ولا يهمنا هنا درجة صدقهم أو كذبهم، ذلك لأن النتيجة المتحصلة في الحالتين قد عكست استحالة تجاهله أو مقاومة سطوته الناجزة خارج وعيهم.

من الواضح أن المؤشرات السياسية القادمة من جهة تلك الأطراف لا تبشر خيراً لنا، وقد تكون مقدمات لمصادمة حامية الوطيس حول مشروع الحركة الوطنية في الداخل، بغية إعادة عقارب الساعة للوراء، أي إلى سابق عهدها من سيادة لخطاب الاندماج المؤسرل، مدفوعين بتقييم خاطئ عن أوضاع التجمع وقدرته على البقاء المؤثر في ساحتنا المحلية بعد قضية عزمي بشارة. لذا سيكثر "المحللون" لاستباحة حرمة هذا الخطاب بشتى الوسائل، وهو ما ينبغي على التجمع التنبه له في مؤتمره الخامس وايلائه الاهمية المناسبة. وبطبيعة الحال فإن حزبنا ورفاقنا في حركة أبناء البلد هم المعنيون الحقيقيون بهذه المسألة والأكثر كفاءة وجهوزية للدفاع عن مشروعهم الوطني، ويتعين علينا البدء الفوري بمد جسور التعاون والتحالف فيما بيننا كخطوة أولى في هذا المسعى.

التعليقات