المساحة الرمادية ما بين "واقعية" النسر والدجاجة../ مصطفى طه*

المساحة الرمادية ما بين
للواقعية ألف مدخل، أكثرها ذلاً هو مدخل التسليم بالأمر الواقع على ما فيه من هوان، و"بالخبز وحده يحيا الإنسان" تصبح برنامجًا انتهازيًا بعد اسقاط كلمة "ليس" منه، فلقمة الخبز تصبح هدفًا بغض النظر إن كانت مغموسة بالذل، وبغض النظر أكان الرغيفُ كاملاً أم فتاتًا.

والواقعية قد تعني عند البعض أيضًا التسليم المهين لمعادلة الراكب والمركوب في معادلة التعايش قبل العيش، وفيما لو تذمر المركوب لإنزال الراكب عن ظهره يصبح متطرفًا بفعل الواقعية الملتفة بعقد النقص.

والواقعية قد تعني أيضًا أنّ مقولة "حُط رأسك بين الروس وقول يا قطّاع الروس" "دهاء سياسي" بمنظور البعض، فيما هو في الحقيقة معلقة خنوع وانتهازية حقيرة تنشئ جيلاً مهزومًا يعشق العبودية كما يعشق الحر الحياة.

والواقعية قد تعني أيضًا أنّ الحياة قد تستغني عن "ال" التعريف وتتعايش معها بفعل واقعيتها الجبانة، ولا ضير إن كانت حياة ذليلة علاقتها بالآخر علاقة العبد الذليل بسيده، بمعنى أن نصبح مجرد دجاجات تلتقط العلف من تحت حذاء العلاّق ونقرقر شاكرين حاسدين أنفسنا على "النعمة"، أو مجرد نعجات نسبّح بحمد الجزار وهو يقودنا نحو المسلخ، المهم أن نبقى أحياء بمعنى حياة لا الحياة.

والواقعية قد تعني أيضًا أن تصبح السياسة مجرد "فذلكات" لغوية وتلاعب بالمصطلحات ضمن المساحة الرمادية الفاصلة ما بين المبدئية والإنتهازية، ما بين عقليتَيْ النسر والدجاجة، فيصبح الموقف هو مجرد تسجيل الموقف من باب رفع العتب، وحين يتعارض الموقف مع الممارسة العملية على الأرض، أو حين يتضح التناقض ما بين الموقف الرسمي والشعبي، أو حين يتبين أن كلمة الحق يُراد بها باطل أحيانًا، نستعين بالفذلكات اللغوية التبريرية "البايخة" عادةً والمكشوفة غالبًا لتظهر الانتهازية أكثر انتهازيةً وكأنّ معركة الوجود التي تخوضها الحركة الوطنية مجرد مسابقات في الإنشاء اللغوي.

الف مدخل للواقعية كما قلنا، ونستطيع أن نسهب في أبواب الواقعية الانتهازية هذه لو أردنا، ولأننا لسنا من طلاب هذه المدرسة ونعتز لأننا كذلك، نختصر ونقفز لمدرسة الواقعية الأخرى، واقعية الحركة الوطنية.

واقعية تتمرد على الواقع الذليل وتحاول تغييره مع وعينا المسبق أنه أسهل لنا أن نكون طلابًا في المدرسة الأولى ومع هذا نرفضها مع علمنا أنْ لا بُدّ من ثمن بفعل هذا الاختيار ومع هذا نمضي وهذا أجمل ما في هذه المدرسة التي عنوانها التحدي بخطاب "ارفع رأسك يا أخي".

واقعية تُصر على انتزاع لقمة الخبز ولكنها في الوقت ذاته ترفضها اذا كانت مغموسة بالذل وترفض مجرد التفكير بمقايضتها بالكرامة الوطنية حتى لو كُنا بأمسّ الحاجة للقمة الخبز هذه "فنجوع ونعرى ولا نركع".

واقعية تقرف وتشمئز من "ثقافة" "امشي الحيط الحيط وقول يا ربي السترة" لأنّ كبرياءها يقول: ان الكف يلاطم المخرز ويستطيع الصمود والانتصار عليه أيضًا اذا ما آمن بإرادة الصمود لأنها نصف الطريق نحو الصمود، وتسبح ضد التيار وهي تدرك بكامل وعيها حجم وقوة اندفاع التيار المعاكس، ومع هذا تسبح واثقة بجدوى السباحة، ومؤمنة بإرادتها أنها ستنتصر في النهاية، مراهِنة على ما تملك من عزيمة فولاذية أولاً، وعلى الاف الشرفاء الذين سيشكلون سياج الحركة الوطنية ورموزها ثانيًا، وعلى عمق إدراكها لحجم وأهمية المشروع الذي تحمله ثالثًا وبهذا المعنى لن تسمح بالتفريط بما أنجز مهما وأيًا كان الثمن.

لو كان قائد حزبنا د. عزمي بشارة رقمًا إضافيًا عدديًا مجردًا في حلبة الصراع لما تعرّض له أحد، ولو كان المشروع الذي مثّله وشكّل محركه الأساس مجرد مشروع أو مشروع مجرد لما تعرض لعشرات محاولات القمع منذ تأسيسه من قِبَل المؤسسة المخابراتية وأعوانها من والمُخبرين والعملاء الصغار على اختلاف أنواعهم من أشباه السياسيين وأنصاف المثقفين وأرباع الصحافيين وأشباه بعض الصحف اللقيطة.

ولأنّ الرفيق د.عزمي بشارة كان ولا زال صرخة في زمن الصمت بما مثّل من مشروع أتت الهجمة، ولأنّ الصرخة أصبحت مشروعًا واقعيًا على الأرض تبنته معظم الجماهير العربية الفلسطينية في الداخل، بدليل الوثائق الصادرة عن المؤسسات الشعبية ومؤسسات المجتمع المدني مؤخرًا، يحاولون أن تنتهي الهجمة بضربة قاضية، ولأنّ ما ميّز د. عزمي بشارة عن آلاف المفكرين على طول الوطن العربي أنه أصبحَ ظاهرة (باعتراف كبار المثقفين العرب) لم تقتصر على غزارة الإنتاج الفكري الملفت للنظر، وانما ايضًا بطرح مشروع جدي على الأرض، فأحرج الصهيونية في عقر بيتها حين سلّط الأضواء الكاشفة على التناقض الكامن في طبيعة الدولة بحكم تعريفها، تناقضًا لم تعد تحتمله "ديمقراطية" اسرائيل حين أظهرها أوهى من بيت العنكوت بعدما بانت مخالبها وأنيابها بين الدموع وسقط القناع عن وجهها الحقيقي، والتهم الملفقة إنما جاءت من هذا الباب، ومن هذا الباب فقط.

مهما يكن من أمر، فمَن لم يستوحش الطريق لقلة السائرين فيه لم ينحنِ فكم بالحري والسائرون به كثرٍ اليوم. ومن غرّد خارج السرب سيصمت اليوم عجبًا، والسرب بمعظمه يردد تغريده. فإذا كانت واقعية مدرستنا تطرفًا بهذا المعنى، وإذا كان التطرف تهمه بهذا المنظور فهي تهمة لا ننكرها وشرف لا ندّعيه، ولو لم أكن تجمعيًا فوالله لتمنيت أن أكون اليوم بالذات بقيادة ظاهرة نعتز بها اسمها د. عزمي بشارة.

التعليقات