حتى لو لم أكن فلسطينيا../ علي جرادات

حتى لو لم أكن فلسطينيا../ علي جرادات

أذكر أنه في العام 1987، أي بعد مرور أربعين عاما على قيام دولة إسرائيل (النكبة)، خرج علينا شموئيل توليدانو الذي عمل مدة سبعة عشر عاما كمستشار للشؤون العربية لرئيس الوزراء الإسرائيلي بمعزل عن لونه الحزبي، بتصريح عنصري مِن العيار الثقيل، كان له وقع الصاعقة، خاصة على العرب الفلسطينيين خلف الخط الأخضر. يومها قال توليدانو هذا بالحرف: "هؤلاء العرب الذين عاشوا بين ظهرانينا مدة أربعين عاما، لم يعودوا حطابين وسقاة، بل أصبحوا عرباً وفلسطينيين أيضا". هكذا بلا خجل أو وجل أو رتوش، لخص توليدانو فكر هرتزل وفعل بن غوريون وهدفهما ومَن تبعهما مِن القيادات الإسرائيلية في إلغاء الشعب الفلسطيني وإقامة دولة "يهودية الطابع" على حسابه، وكأن الفلسطينيين ليسوا أصحاب البلاد الأصليين.

وقبل مدة، ومع إقتراب حلول الذكرى الستين لقيام دولة إسرائيل (النكبة)، خرج علينا ديسكين رئيس جهاز المخابرات الإسرائيلي العام (الشاباك) بفظاظة عنصرية، وأعلن أن العرب الفلسطينيين خلف الخط الأخضر يشكلون خطرا إسراتيجيا على دولة إسرائيل، ما أدى إلى إنطلاق حملة تحريض عنصري جديدة، الحملة التي، وإن تركزت ضد عزمي بشارة، إلا أنها أخطر وأوسع، ولا يمكن فصلها عما يسكن القيادات الإسرائيلية مِن سعار القلق على "يهودية دولة إسرائيل" ك"مقدس" صهيوني إستراتيجي ثابت، وكأساس عنصري قامت عليه دولة إسرائيل.

ذاك "المقدس" الذي أذكر تأكيد باراك على مدى "قدسيته" بالقول: "إسرائيل إما أن تبقى دولة يهودية، وإما أن تصبح كومة نووية". وهذا ما ترجمه باراك كرئيس للوزراء ووزير للدفاع على الأرض، حين أعطى الأوامر بقتل ثلاثة عشر شابا عربيا فلسطينيا في عرابة وسخنين والناصرة في هبة أكتوبر 2000، وذلك في أعقاب خروج جماهير الجليل والمثلث والنقب في تظاهرات سلمية لإسناد إنتفاضة جماهير الضفة والقطاع.

صون الطابع "اليهودي لدولة إسرائيل" والحفاظ عليه في وجه تهديد العامل الديموغرافي الفلسطيني، لم يعد مجرد هدف إسرائيلي ثابت، تستند إليه المخططات الإسرائيلية الإسراتيجية العامة، بل أصبح هاجسا يوميا يسكن القيادات الإسرائيلية، ويحرك تكتيكاتها، تماما كما كان يسكن مؤسسو دولة إسرائيل، وهو ما أفضى إلى ما ارتكب بحق الفلسطينيين مِن مجازر مخطَّطة قلَّ نظيرها، وأدت إلى تشتيت نصفهم ويزيد في أرجاء المعمورة الأربعة فضلا عن إبتلاع أرضهم والسيطرة عليها بقوة الحراب.

وللمرء أن يتخيل ما سيفضي إليه تجدد هذا القلق المسعور مِن إجراءات عنصرية ضد الفلسطينيين عموما، وضد فلسطينيي 1948 خصوصا، تتجسد اليوم ضد الدكتور عزمي بشارة، وذلك عبر تلفيق أمني يتهمه ب"الإخلال بأمن الدولة"، حاله في ذلك كحال مَن سبقه مِن قيادات عربية فلسطينية رائدة بدءا مِن حبيب قهوجي ومنصور كردوش مرورا بصالح برانسي وإنتهاء بالشيخ رائد صلاح فضلا عن أولئك الذين لا يتسع المجال لذكر أسمائمهم، والحبل على الجرار. ولا غرابة في ذلك، خاصة حين نتذكر كيف إستخطر البروفسور آرنون سوفير مستشار شارون السابق للشؤون الديموغرافية بلوغ تعداد فلسطينيي 1948 أكثر مِن تعداد ثلاث دول عربية مجتمعة هي قطر والكويت والبحرين.

بعد ستين عاما على قيام دولة إسرائيل (النكبة)، وفي ضوء ما يتعرض له الدكتور عزمي بشارة وفلسطينيي 1948 عموما مِن هجمة شرسة، ولكي لا ينسى أصحاب هذه الحملة المسعورة حقائق التاريخ، حري تذكيرهم ومَن يدعمهم، وفي واشنطن تحديدا، أنه:

كان لليهود "مسألتهم" و"كارثتِهِمْ". فتَظَلَّموا محقين برغم أن "مسألتهم" لم تَكُن بالكامل رغما عن خرافة "تفوقِ عرقهِمْ"، بل بفضلها. وأنهم "إنعتقوا" مِنْ اضطهادِ "أغيارهِم" عبر إختطاف جزءٌ منهم لحريتنا نحن الفلسطينيون الأبرياء من مسأَلتهِمْ وكارثتهِمْ. فإبتُلونا بذلك كما معاصر التاريخ بدولة نكبتنا. وإبتلوا أنفسهم حين حولوا "حريتهم" إلى نفي تَحَرُّرِهم، لأن "شعبا يضطهد شعبا آخر لا يمكن أن يكون هو نفسه حرا".

إنها دولة "إسرائيل" (نكبتنا) التي فصلت، وما زالت تفصل بين "الحريةِ مِنْ" الاضطهاد وبين نفيه كثقافة وممارسة، لأنها قامت أصلاً على خرافة "تفوق عرقها" و"دونية أغيارها"، وولجت التاريخ مِن باب إنكارِ المساواة بين البشر، فكان جلباب "تحررها" هراء هراء حتى ينقطع النفس. ولا يلغي هذه الحقيقة نجاح القيادة الإسرائيلية بدعم أمريكي في إلغاء القرار الدولي الذي ساوى بين الصهيونية والعنصرية، وذلك في بداية حقبة تربع واشنطن أحادياً على عرش السياسة والعلاقات والمؤسسات الدولية، وتحول تلك المؤسسات إلى ملاحق لوزارة الخارجية الأمريكية.

كيف لا؟!!! وقد إقتلعوا من التاريخ مسألتهم، وزرعوا فيه قضيتنا. ولا ندري، ولا يَهُمُّ أن ندري، إنْ كانت مسألتهم أعقد مِن قضيتنا، أو إن كانت "كارثتهم" أقسى مِن نكبتنا.

أما عن ديموقراطية دولة إسرائيل، فلا ندري لماذا تثور ثائرة قياداتها على الدكتور عزمي بشارة حين يقول: إسرائيل ليست دولة ديكتاتورية، بل ديموقراطية، ولكن لليهود، وليس لكل مواطنيها؟!!!. أليس هذا هو الأساس الذي قامت عليه دولة إسرائيل؟!!!. وأليس هذا هو الأساس الذي تخشى القيادات الإسرائيلية عليه مِن الخطر الديموغرافي لضحاياها سكان البلاد الأصليين؟!!!. إذاً، أين هو ذنب الدكتور عزمي بشارة حين يقوده وعيه الديموقراطي المنسجم، فضلا عن وعيه الوطني والقومي الأصيل، إلى تشخيص ديموقراطية دولة إسرائيل على أنها "ديموقراطية لليهود مِن مواطنيها، وليس لكل مواطنيها"؟!!!. وهل كان لأسياد أثينا الدولة (مثلا) أن ينزعجوا مِن وصف ديموقراطيتهم ب"ديموقراطية الأسياد" حيث لم تتسع للعبيد مِن مواطنيها؟!!!.

عزمي بشارة لم يفعل أكثر مِن الدعوة إلى إعادة وضع هرم الفهم الديموقراطي المنسجم على قاعدته، ولا تجوز محاكمته، وإن كان يحق للقيادات الإسرائيلية محاكمته، فإن قيادات دول الديموقراطية الغربية التي تدعم إسرائيل، وتفصل بين الدين والدولة في نظمها تستحق المحاكمة أيضا.

عزمي يستحق ثناء كل ديموقراطي منسجم ودعمه حتى لو لم يكن فلسطينيا، لأنه ساهم بإبداع في فضح بؤس الديموقراطية الإسرائيلية وزيفها، حين أكد أن فلسطينيي 1948 ليسوا "حطابين وسقاة"، بل فعلا سكان البلاد الأصليين، وعربا فلسطينيين كانوا، وما زالوا، وسيبقون، ولن يكونوا غير ذلك يوما شاء مَن إبتلع أرضهم، وأقام دولته على حساب نكبتهم أم لم يشأ. فالمساومات مشروعة في السياسة لتسوية صراعات بعينها في ظل ميزان معين للقوى، أما المساومة على حقائق التاريخ والجغرافيا وقيم الثقافة الديموقراطية المنسجمة فلا تجوز، ونظن أن في هذا مكمن تميز عزمي مِن جهة، وفيه يكمن سر الهجمة الإسرائيلية المسعورة عليه، خاصة وأنه يساهم في تعميم خطاب وطني قومي أصيل وديموقراطي منسجم، ومِن داخل بطن الحوت أيضا.

جدير ذكره أن هناك كثيراً من غير العرب ومن بينهم يهود وإسرائيليون قد وقَّعوا على عرائض التضامن مع الدكتور عزمي. وفي هذا تأكيد على أن عزمي لا ينفخ خطابا ديموقراطيا منسجما في قربة مثقوبة، بل نفخه، وما زال ينفخ فوق ما في القربة مِن نفخ هو تراكم حركة تحرر وطني ديموقراطي كانت أولى أطروحاتها "دولة فلسطين الديموقراطية العلمانية" التي لا تمييز فيها ضد الدين والمعتقد، وذلك كحل ديموقراطي للصراع، والتشابك القسري الظالم بين المسألتين اليهودية والفلسطينية، بدل الحل الصهيوني العنصري الذي قام على فرضية إمكانية إلغاء حقائق التاريخ والجغرافيا، ووجود الشعب العربي الفلسطيني واحدة مِن هذه الحقائق الثابتة التي لا يمكن إلغاؤها، شاء ذلك الفكر العنصري المسعور ضد عزمي هذه الأيام أم أبى. ذاك ما كنت سأقوله حتى لو لم أكن فلسطينيا.

التعليقات