د. بشارة على المفترق البرلماني والفكري../ علاء حليحل

د. بشارة على المفترق البرلماني والفكري../ علاء حليحل
لا ضير من التوقف قليلا، بعد المصادقة على قانون شلل الأطفال (البوليو) بالقراءتين الثانية والثانية في الكنيست، قبل فترة وجيزة، عند إسهامات د.عزمي بشارة على المستوى البرلماني، وعند إسهاماته المستقبلية المرجوة منه، سياسيًا وفكريًا بالأساس. وسأتركز في هذه العجالة في عمل ودور النائب بشارة، من دون التقليل من أهمية ورقي عمل نواب التجمع الآخرين، وبعض من النواب العرب الآخرين.

فمنذ أن دخل النائب د. عزمي بشارة الكنيست عضوًا عن „التجمع الوطني الديمقراطي” في 29 أيار 1996 وهو يشكل تحديًا، ليس في مقابل السلطة الإسرائيلية وأذرعها، فحسب، بل على مستوى العمل البرلماني وإنجازاته.

فدخوله إلى الكنيست شكّل علامة فارقة ونقطة تحوّل في العمل البرلماني عند الأقلية العربية في الداخل، على جميع المستويات. فهو لم يأتِ بأنماط عمل مهنية وجديدة ومبتكرة، فحسب، بل جاء، منذ يومه الأول، بتوجه لم يكن مسبوقًا في النشاط البرلماني: ممارسة مهنية، مثابرة، فاعلة ومؤثرة، وفق نهج وفكر متكاملين، تزاوجا معًا وتمخّضا عن تحوّل الشعار والفكر السياسيين إلى خطة عمل فعلية، سيأتي يوم ويقرأهما الباحثون على أنهما نقطة تحول غير مسبوقة في حياة العرب في البلاد.

في نظرة غير شاملة، وربما هي نظرة الطير السريعة، يمكن أن نسجل المفارق الرئيسة التي أفرزها عمل النائب د. بشارة، فيما يخص حقوق المواطنين العرب، وتمثيلهم، نيابيًا وسياسيًا: قانون التمثيل الملائم للعرب في إدارة الشركات الحكومية وقانون تمثيل ملائم للعرب في الوظائف الحكومية، وقد وصف رجال قانون كبار هذين القانونين على أنهما ثورة دستورية، حيث تثبت فيهما ولأول مرة „الحقوق الجمعية” للعرب في قانون إسرائيلي، والذي جاء ليغير واقعًا عنصريًا وتمييزيًا كان مبنيًا على إقصاء العرب من إدارة المؤسسات الهامة والكبيرة في الدولة، ومنعهم من التأثير على سياساتها، كما يجدر؛ وطرح الوزن النوعي للأقلية العربية في البلاد في المعركة السياسية الانتخابية من خلال الترشّح لرئاسة الوزراء، في العام 1999، وتحصيل مطالب وإنجازات كثيرة لم تكن لتتحقق لولا الارتقاء من سياسة ردّ الفعل إلى سياسة المبادرة والفعل وتوضيح ثوابت العمل السياسي وحنكته، على الصعيد المحلي، وعلى الصعيد الدولي، حيث عاد الترشيح لرئاسة الحكومة بفوائد لا تُحصى من حيث تعريف العالم على الأقلية العربية الفلسطينية في البلاد ومشاكلها وخصوصيتها؛ وتمرير قانون شلل الأطفال (البوليو) بحيث شكل هذا إنجازًا غير مسبوق، وهو يمكن أن يُعد في سجل أيّ برلماني في البلاد كتتويج كبير لنشاطاته الطويلة والكثيرة، لإنصاف هذه الشريحة المظلومة من المجتمع، عدد كبير منها هم من العرب الذين وقعوا ضحية التطعيمات السيئة التي قدمتها الدولة لهم.

كما أنّ التعامل مع تجربة النائب بشارة البرلمانية من منظور الإنجازات العينية على مستوى القوانين هو تعامل منقوص جدًا، إذ أنّ نشاطه البرلماني امتدّ على أكثر من 10 سنوات، قدم فيها وطرح مئات القضايا، في مجمل القنوات البرلمانية المتاحة، حيث حوّل مسألة المطالبة بالحقوق وإصلاح الغبن إلى منهاج عملي ومهني، صار الكثيرون يقلدونه وينحون منحاه، ومن هنا تبرز أهميته البرلمانية من ناحية رفع مستوى العمل البرلماني إلى مناحٍ لم تكن مطروقة من قبل، وقد أدى أداؤه المتميز والبارز إلى دفع سائر القوى السياسية العربية لرفع مستوى العمل البرلماني وطرقه ومهنيته، اقتداءً بالنهج والخطاب الجديدين.

ومن موضع التقييم والرؤية إلى الخلف، يجدر بنا أيضًا أن نروم الرؤى إلى الأمام، وأن ننظر أيضًا إلى الجوانب الأخرى من شخصية ونشاط وتميز النائب بشارة، وبالأساس على المستوى الفكري والإبداعي. فإلى جانب بصماته التي لن تُمحى على العمل البرلماني والمطلبي والحقوقي، سجّل د. بشارة علامات أخرى لا تُمحى في السجل الفكري والسياسي على المستوى الدولي والإقليمي والمحلي الفلسطيني. فكتبه وتحليلاته ومواقفه التي صارت على كل لسان وفي كل مواقع صنع القرار، وصارت منارة يُحتذى بها وبوصلة يُهتدى بها، أسّست لنهج فكري ونقدي قلما يتكرر في حياتنا جميعًا، وجاء دوره الطليعي هذا في أعسر الأوقات التي يمر بها العرب والمسلمون، اليوم.

وقد يجوز لي أن أنظر إلى المرحلة الحالية وإلى الأيام القادمة الصعبة، من خلال شقين اثنين: شق تطور وثبات نهجه البرلماني وترسيخه على مستوى غالبية النواب العرب وعلى مستوى نواب التجمع الممتازين، بالأخص، وشق ازدياد الحاجة إلى مفكر ومحلل بقامة د. بشارة، وفي ضوء بروز الحاجة إلى التفرغ للمساهمة في المهام الصعبة التي تواجه الأمتين العربية والإسلامية. أضف إلى ذلك تأثير العمل البرلماني الشاق على إبداعات د. بشارة الأدبية والفكرية والفلسفية-السياسية، بعد أن ثبت إنجازاته وبصماته.

من هنا فإنّ مهمة التفرغ للتحديات الكبيرة التي تواجهنا، إقليميًا وعالميًا، من خلال الكتابة والفكر والعمل والسعي والإرشاد، لا تقلّ أهمية عن العمل البرلماني، الذي أبدع فيه د. بشارة، وربما تزيد قليلا، في ظروفنا التي نحياها اليوم، خصوصًا أنه حالة متميزة متفردة على المستوى العربي والعالمي العام، وأصدقكم القول إنني أرى أنّ إسهامه الكبير في أيامنا وظروفنا الحالية والقادمة يجب أن ينصبّ بشكل أساسي على المستوى الفكري والسياسي، الدولي والإقليمي.

التعليقات