رأس د.عزمي بشارة../ د.محمد أمارة*

رأس د.عزمي  بشارة../ د.محمد أمارة*
لا شك أن الدكتور عزمي بشارة وحزب التجمع يمران بأوقات عصيبة ومفصلية سواء على الصعيد الشخصي أو المصير السياسي للحزب والفكر الذي يمثله. ولكن الأحرار من أبناء الشعب الفلسطيني في الداخل والذين لديهم المسؤولية والحرص على مصلحة الجماهير العربية مهما كانت انتماءاتهم السياسية ومواقعهم يمرون أيضا بمرحلة صعبة. تبدو الهجمة بظاهرها على الدكتور عزمي والتجمع ولكن في باطنها تستهدف كل من يجرؤ أن يتحدث أو يتحدى أو يناقش قضايا تتعلق بالدولة وجوهرها تعتبر بمثابة "بقرات مقدسة" بالمفهوم الإسرائيلي. وعلينا أن نكون صفا موحدا لمواجهة هذه الحملة لمنع الانفراد بأي حزب أو تنظيم, وهي معركة الجميع وليس فقط ممن ينتمون للتجمع (وكاتب المقال ليس منتميا للحزب).

لماذا رأس بشارة؟
لن أقوم في هذه العجالة بعملية تحليل معمقة، فليس هذا المكان لذلك. ولكن أريد أن أثير بعض الملاحظات التي ستساعدنا على وضع الحدث في سياقاته الصحيحة.

لم يكن الدكتور عزمي بشارة الأول ممن طرحوا قضية الوطن والمواطنة، لكنه هو من نجح بإثارة النقاش الجماهيري في المجتمع الإسرائيلي وترسيخ فكرة المواطنة كخطاب سياسي متحد وليس اندماجياً في العقد الأخير، وتحدى الأسس التي ترسخت في دولة إسرائيل، كدولة يهودية-صهيونية وما لها من إسقاطات على المجتمع الفلسطيني في الداخل. عندما كتب الدكتور عزمي عن الموضوع وتحدث كأكاديمي كأن هنالك تسامحاً إسرائيلياً ما مع الطرح لأنهم اعتقدوا أن هذا الطرح سيبقى نظريا وفي بطون الكتب... فأجريت العديد من المقابلات مع الدكتور عزمي في اللغة العبرية في الراديو والتلفاز. ولكن الأمور انقلبت رأسا على عقب عندما تشكل حزب التجمع ونجح بدخول الكنيست سنة 1996. حينها بدأ يدرك الإسرائيليون أن مسألة "دولة كل مواطنيها" المطروحة لم تعد حبرا على ورق، وإنما هنالك من العرب من أخذ على عاتقة هذه المسالة بجدية: الانتقال من مرحلة التنظير إلى مرحلة تحدي الواقع ومواجهة قضايا جوهرية ترى الغالبية العظمى من اليهود في إسرائيل بأنها من المحرمات طرحها. بمعنى آخر ظهر الاختلاف في تحويل الجدل الأكاديمي إلى مشروع وبرنامج سياسي يحرج الصهيونية في جوهرها وديمقراطيتها. بطبيعة الحال، لم يهدأ بال المؤسسة، وإنما استعملت الأساليب المختلفة لنزع الشرعية عن القيادات العربية الملتزمة والنوعية. فالأمثلة كثيرة. فعلى سبيل المثال، الحملة الشعواء التي قامت بها المؤسسة على القيادات العربية، وبخاصة الدكتور عزمي بشارة والشيخ رائد صلاح خلال وبعد هبة أكتوبر 2000، ومحاولة منع التجمع وأحزاب عربية أخرى من خوض الانتخابات سنة 2003، وكذلك زج الشيخ رائد صلاح في السجن لمدة 30 شهرا بعد عمليات تحريض سافرة ضده وضد الحركة الإسلامية وضد الجماهير العربية.

يبدو أن المؤسسة الإسرائيلية بدأت تدرك أن الفكر الذي يمثله عزمي بشارة بدأ ينتشر ويتجذر بأشكال وصور مختلفة بين الجماهير العربية، ويلقى بعض التأييد من شخصيات يهودية وإن كانت قليلة. وبدأت المؤسسة الإسرائيلية ترى بالفكر والنهج الذي يتحدث عن مواطنة جوهرية، والتأكيد على هوية قومية، دون أن تصطدم إحداهما بالأخرى تحديا وإحراجا لها. وبدأ التأكيد على خطاب أن الفلسطينيين في إسرائيل هم أبناء هذا الوطن، ملتحمين به عضويا، ونفسيا، وتاريخيا، وثقافيا، ولديهم رؤية واضحة للتواصل مع الشعب الفلسطيني والأمة العربية، كل ذلك تحول إلى أبجديات في الخطاب السياسي الفلسطيني بالداخل، بدأت المؤسسة الإسرائيلية ترى أن بشارة وغيره من القيادات يشكلون تحديا حقيقيا لها، وظاهرة يجب أن تزول من المشهد السياسي والثقافي الإسرائيلي.. وتعتقد المؤسسة بأنه لربما بزوال قيادات عن الساحة السياسية بحجم الشيخ رائد صلاح والدكتور عزمي بشارة، سوف تستطيع إرباك الجماهير العربية، وأنها بعمليات الترهيب والتخويف تعيد العرب إلى أيام الحكم العسكري، في محاولة جديدة لبناء "العربي الجيد"؛ أو العربي-الإسرائيلي المدجن والمفصل على مقاس الدولة اليهودية-الصهيونية.

لماذا الآن؟
لا شك أن المتتبع للشأن الإسرائيلي يلمس بوضوح أن قيادة إسرائيل الحالية ضعيفة، وغير قادرة على القيادة، وفاقدة إلى الشرعية "الأخلاقية" (هذا ما تدل علية الاستطلاعات)، وأنها زجت الدولة بمغامرة الحرب ضد لبنان، وخرجت غير منتصرة فيها. تلك الدولة التي اعتادت على أن تفوز ب"الضربة القاضية" على الجيوش العربية. هذه الحرب، أقل ما يُقال فيها، أنها أفقدت إسرائيل قوة الردع. تريد إسرائيل- التي لا تحتمل أية هزيمة- أن تعيد هيبتها في المنطقة، وذلك عن طريق ترميم قوة الردع.

وجاءت النصوص التأسيسية التي صدرت عن عدة مجموعات عربية لتعبر عن نضوج سياسي واجتماعي ولتثير ثائرة الإسرائيليين، حتى الذين يتغنون بالليبرالية، ليدعوا أن العرب أعلنوا الحرب على الدولة. وفهم الكثير منهم أن هذه المبادرات جاءت بتزامن بعد حرب لبنان، بعد أن خرجت إسرائيل ضعيفة، وبدأ العرب "يتطاولون" على الدولة. طبعا، هذه المبادرات بدأ الإعداد لها منذ سنوات طوال، وأكدت جميعها أنها تريد بناء الشراكة مع الأغلبية اليهودية ولكن بما يضمن للمواطنين العرب مساواة جوهرية وحقوق فردية وجماعية ومدنية، والى جانب الإنصاف التاريخي.. هكذا تبدأ المصالحة التاريخية وهكذا يكون المشترك كبير بين المجتمع اليهودي والفلسطيني في البلاد.. أكدت جميع النصوص على استعمال الأدوات القانونية لتحقيق الأهداف علانية وبشفافية. وأكدت أنه لا مساومة على الهوية الوطنية والقومية ولا على مبدأ التواصل مع شعبنا الفلسطيني وأمتنا العربية.

تصادف نشر هذه النصوص التأسيسية بعد الحرب على لبنان، وفي سياق التعاطف العربي في الداخل مع المقاومة وليس مع إسرائيل، ونتائج الحرب التي فقدت إسرائيل بها قوة الردع. رأت المؤسسة، كما هو حال الغالبية اليهودية، أن هنالك حاجة لإعادة الردع في الداخل ضد كل عربي يتحدى الدولة بمفهومها وممارساتها الحالية، وجوهرها. فكان المرشح الأول على القائمة لهذه المرحلة (وليس الأخير) الدكتور عزمي بشارة لمحاولة ردع داخلية.

وكانت المخابرات هي رأس الحربة لبناء عملية الردع في الداخل، كما هو الحال مع الجيش في الخارج. بمعنى أن معالجة قضايا سياسية يعتبرها العرب قضايا عادلة، تُعتبر قضايا غير شرعية من قبل الأغلبية تحت الغطاء "تهديد أمن إسرائيل". فحسب هذا المفهوم فإن العرب هم تهديد أمني واستراتيجي. فرأينا التصريحات الواضحة والقوية تأتي من قبل أطراف مخابراتية تدعي "أن العرب يشكلون خطرا إستراتيجيا على الدولة" وأن عزمي بشارة "ظاهرة يجب اجتثتاها".

وتطل علينا أذرع الدولة بالنصوص التي تلفظ بها الدكتور عزمي بشارة خلال الحرب لحياكة الرواية، وأثبت يا عزمي، أنت ومن حولك، أنك برئ؟ وأن تواصلك مع أبناء شعبك كانت من باب مشروع!!

وبدون حتى إجراء المحاكمة، ألم يقل الشارع الإسرائيلي كلمته ضدك وضد ما تمثله؟ يكفى متابعة الصحف، ليست اليمينية فحسب، وإنما صحف مثل هآرتس "اليسارية"، وردود الفعل من مئات القراء يوميا لنعرف أن الحكم قد صدر. "أنت متهم بالخيانة العظمى"!!!
لماذا؟ لأنك طرحت مشاركة مع الأغلبية من نوع آخر؟
لماذا؟ لأنك عبرت عن آراء خارج إطار ما تقبله التعددية في الدولة اليهودية.
لماذا؟ لأنك تواصلت مع أبناء شعبك وأمتك؟
وصدر الحكم قبل بدء المحاكمة.

ما العمل؟
نقول لمن يريد أن يعرف، أننا نقرأ الواقع ونفهمه جيدا. زال الحكم العسكري، لربما إداريا وهيكليا، لكنه لم يزل ذهنيا وإجرائيا، والوسائل المتنوعة المستعملة نعتبرها امتدادا له.

المطلوب هو الانتقال من مرحلة التنظير إلى مرحلة بناء إستراتيجيات وآليات للوقوف أمام المد المؤسساتي الذي سيطال المجتمع العربي بأكمله بأشكال وصور مختلفة. طرحت العديد من التصورات كنصوص تأسيسية، وحان الأوان لبناء أدوات قابلة لان تكون مؤثرة وفاعلة.

تقف الجماهير العربية في الداخل معك يا دكتور عزمي لأنك تمثل قضية عادلة، وفكراً واضحاً، والقضية ليست قضيتك وحدك فحسب وإنما قضية الجماهير العربية.

التعليقات