في وقائع خطاب د.عزمي بشارة وفبركة الملفات الأمنية../ يونس العموري

في وقائع خطاب د.عزمي بشارة وفبركة الملفات الأمنية../ يونس العموري
مرة أخرى تنكشف حقيقة الدولة العبرية بكافة مؤسساتها، حيث انها تجتهد هذه المرة لأن تسكت الصوت العربي القومي المنبعث من قلب الناصرة وحيفا والقدس، هذا الصوت الذي تطور لدرجة أنه أحرج ما يسمى بالمؤسسة الديمقراطية الإسرائيلية بعقر بيتها، كاشفا عن حقيقة عنصريتها وأسلوب تعاطيها والقضايا المعاصرة وحقيقة صناعة وصياغة المفاهيم السياسية والاجتماعية وحتى الفكرية القائمة على إلغاء الآخر وترسيخ مفاهيم الأبرتهايد، وان حاولت مرارا وتكرارا إنكار هكذا تهم كانت على الدوام واضحة بالوقائع الحية والملموسة في مجتمعات الدولة الناشئة والمسماه بدولة اليهود ذات الطابع الإحلالي للشعب الأخر والأصيل...

مرة أخرى تحاول تل أبيب تغير قواعد اللعبة بعد أن عجزت بالتطويع والتركيع وطمس ومحو الهوية العربية الفلسطينية للشريحة العربية التي تعيش بموطنها الأصلي... بعد أن فشلت كل محاولات التدجين والتهجين لحرف الفكر العربي المتبلور في العمق الإسرائيلي، وكان اللجوء وكما هي العادة دائما في الدول المعتمدة على نظم الإبرتهايد بإدارة شؤونها الداخلية وحتى الخارجية على تركيب وفبركة الملفات الأمنية اعتمادا على أساليب العسس وأجهزة المخابرات، التي نعلم كيف تعد ملفاتها وماهية التعليمات الصادرة من المؤسسة السياسية لها للتعاطى وأي شأن من شؤون الفكر الحر المناهض والمتناقض وفكرة الدولة العنصرية.

إذن هكذا كانت بدايات الحكاية، وهذه هي بداية قصة الدكتور عزمي بشارة والدولة الإسرائيلة فهو الصوت العربي القومي المتصالح والفكرة العروبية القائمة على الفعل الديمقراطي والمتفاهمة والحداثة والمناهضة لكل اشكال العنصرية والديكتاتوريات التي لا تقل خطورة عن فكرة الاحتلال ذاتها، وتلك النخب التي تمارس الفعل السياسي والثقافي على أرضية الواقعية السياسية المتصالحة او المنسجة وفكرة النظام العالمي الجديد واخواتها بكافة الأقاليم والقائمة على تقسيم المقسوم وشرذمة المتشرذم والتي يقف على رأسها المشروع الشرق الأوسطي الجديد.

إن النمط الفكري للدكتور عزمي بشارة والذي بات مزعجا للنخبة الإسرائيلية الحاكمة في تل ابيب تبلور على اساس الفكرة العروبية القومية الديمقراطية والمحددة بالضبط اتجاهات الفعل النضالي الكفاحي والمتشبثة بالهوية الحضارية، والعالمة والعارفة لمحددات الصراع وجوهريتها في المنطقة والقابضة على الفكرة وغير المنطلقة بعبثية التفكير والمصالحات الوهيمة مع فكرة الإحتلال بالأساس... تلك الفكرة التي طورها فكر الدكتور عزمي بشارة مانحا لتفكيره حرية الإنعتاق من أوهام امتلاك الحقائق دون سواه والواقف بصلابة الناقد لأخطاء المسار الوطني والعروبي بالتاريخ المعاصر والمنتقد حتى للفعل النضالي حينما يفقد بوصلته واتجاهاته الصحيحة والسليمة.

يتمحور جهد عزمي بشارة الفكري الأساسي على العلاقة بين القومية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية ومحاولة المزاوجة بينها في فكر يمثل تياراً ديموقراطياُ للمجتمع العربي. وينسجم جهده السياسي مع هذا العمل الفكري، خاصة في تعميق مفهوم المواطنة وعلمنته وفصله عن الانتماء الاثني او العرقي او الديني .

ويعتبر مشروعه السياسي ( دولة المواطنين) إضافة الى محاولة دمقرطة واحياء الفكر القومي العربي ومصالحته مع اللبرالية والعدالة الاجتماعية علامة فارقة في العمل السياسي أدت الى ارتباك شديد في تناول العلاقة مع العرب في الداخل في المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة، والى إعادة صياغتها على مستوى الخطاب السياسي السائد في الساحة العربية. وقد ترجم د. عزمي بشارة افكاره هذه من خلال العمل البرلماني بحيث شكل هذا النشاط باقتراحات القوانين والقضايا التي فتحها، والمتعلقة بتحديد معنى المواطنة المساواة وفصل الدين عن الدولة، قفزة في العمل البرلماني العربي في اسرائيل وتحدياً كبيراً للعنصرية والآراء المسبقة وبنية الدولة وحقيقتها.

إذن هذه هي أصل الحكاية... صوت الغضب المتبلور على شكل الصرخة العربية المنطلقة من حيفا تأتي هذه المرة لتقض مضاجع حكام تل ابيب... صرخة كاشفة عن حقيقة دولة اسرائيل معريا اياها من كل اشكال الأصباغ التي لطالما حاولت التمظهر فيها...

د. عزمي بشارة جاء ليكشف اللثام عن حقيقة الواقع العربي في الدولة الإسرائيلية ومتطلباتها واضعا النقاط على الحروف، بعيدا عن ممارسة الفعل السياسي الإحترافي في دهاليز الكنيست او مؤسسات الدولة فقط... بل انه قد تجاوز وكسر قواعد اسرائيلية لطالما حكمت وتحكمت بالأقلية العربية القومية بالدولة العبرية، وأحالتها إلى مجرد تجمع بشري يحيا على هامش المجتمع الإسرائيلي بهدف إظهار إسرائيل لنفسها وكأنها دولة ديمقراطية فعلية تحمي حقوق الأقليات، وكانت أن انطلت هذه اللعبة على الكثير من صُناع القرار والموقف السياسي في المنطقة والعالم بأسره...

اعتقد أن النمط الفكري والسياسي للدكتور عزمي بشارة ومن خلال حزب التجمع قد وضع الجملة في سياقها الطبيعي والصحيح لماهية الوقائع الفعلية للأقلية العربية في إسرائيل، حيث تم تشريح تلك الوقائع وحقائق تداعيات الصراع والتنازع ما بين المفاهيم ومسارات فعلها في مسار الدولة الإسرائيلية ذاتها، ومدى التناقضات التي وقع ومازال يقع فيها الكثير ممن يتعاملون والشأن السياسي العربي الفلسطيني اليومي في العمق الإسرائيلي. وقد جاءت أطروحة الدكتور عزمي صادمة مخيفة ومزعجة للمؤسسة الإسرائيلية بكل تنوعاتها واشكالها... تلك الأطروحة التي اعتمدت على أصل الأشياء أولا وعلى تسمية الأشياء بمسمياتها الحقيقية ثانيا، وعلى متطلبات المجتمع العربي المنسجمة والفكرة الوطنية وانتماءاتها وواقع محيطها ثالثا، كأن يكون الطرح بسياق الفكرة السياسية وتفاعلاتها بضرورة أن تحظى الأقلية العربية في اسرائيل بالحكم الذاتي الثقافي والديني، وكأن تقوم الأطروحة على ضرورة أن تحدد الدولة هويتها وشكل مسارها وتعاطيها والمجتمعات المتعددة فيها. ومن هنا كانت أطروحة بشارة قد قامت على أساس أن الدولة لكل مواطنيها، وقد جاءت هذه الأطروحة والتي رفضتها المؤسسة الإسرائيلية لتعزز المفاهيم العنصرية لدولة إسرائيل، وبالتالي كان من المطلوب تدمير هذا المنحنى التفكيري العربي الوطني المتصاعد والمتبلور على شكل النظام والبرنامج السياسي المنسجم أولا وانتماءه الوطني والعربي القومي، والمتصالح مع فكرة الدولة والمتشبث بالحقوق والرافض للتهميش.

اعتقد أن د.عزمي بشارة قد استطاع ان يربط ما بين الفلسطينين في بوتقة الأطروحة السياسية الفكرية بعناصرهم الثلاث: الفلسطينيون في إسرائيل وفلسطينيو الضفة وغزة ثم قضية اللاجئين على اعتبار ان هذه الأجزاء الثلاثة وحدة متكاملة غير قابلة للمساومة والإهمال. ومنذ اتفاق أوسلو حذر بشدة من اعتبار المشكلة الفلسطينية شبيهة بمشكلة الأكراد، وهذا يعني تقسيم الشعب الفلسطيني لأقسام مختلفة خاملة منعزلة. وهنا تكون القضية قد انتهت دون أن تحل كمشكلة قومية متكاملة.

ولعل أطروحة بشارة وإدراكه بضرورة التواصل مع المحيط العربي وفك العزلة التي فرضت على المجتمع العربي الفلسطيني في العمق الإسرائيلي، ونجاحه بهذا الصدد قد اشعلت الضوء الأحمر عند المؤسسة الإسرائيلية حيث أنها أدركت ما معنى أن ينمو ويتطور الشعور القومي العربي لدى فلسطيني الداخل، وتحديدا إذا كان التفاعل سيقوم مع الممانعات العربية وعواصمها، وبالتالي نشوء علاقات طبيعية وإنسانية مع المؤسسات القومية العربية الممانعة للغزوة الإستعمارية للمنطقة العربية ولما لهكذا نتائج بإنعاكاساتها على طبيعة وكينونة تطور الفهم االحضاري للمجمتع العربي الفلسطيني في الداخل.

لهذه الأسباب ولكون أطروحة الدكتور عزمي بشارة قد صارت عبئاً على المؤسسة الإسرائيلية ولم تعد تحتمل تداعياتها وتفاعلاتها، تنقلب المعادلة وتتغير قواعد اللعبة في الدولة الإسرائيلية والمجتمع العربي وبالتالي كان لابد من أن تصدر الأوامر الى المؤسسة الأمنية لتبدأ بفبركة الملفات الأمنية بحق د.عزمي بشارة.

التعليقات