مع عزمي بشارة../ عبير عثمان*

مع عزمي بشارة../ عبير عثمان*
مرة أخرى، وكما دائما، عزمي بشارة في المواجهة. ولو كانت المسألة مرتبطة بنبأ أو شائعة استقالة د.عزمي بشارة من الكنيست ونفيها أو عدم نفيها لقلنا، حسنا، لا بأس، هذا يحدث ولكن لأن كل من يتابع الهجمة البشعة على الحركة الوطنية في الداخل يعتقد أن هذه شرارة أو شارة انطلاق هجمة أوسع وأشرس، تجدنا مدفوعين كمحبين مخلصين لهذه القامة الفكرية العربية العملاقة للوقوف ومنذ اللحظة معه في مواجهة ربما لا نستطيع من موقعنا أن نكون فاعلين فيها بأكثر من إعلان التضامن بالكلمة مع بشارة حتى قبل أن نعرف إلى أين سيسير هؤلاء في هجمتهم بعد أن اعتبر الشاباك عرب الداخل خطرا استراتيجيا وبعد أن تم تحذير بشارة من تحضير ملف له.

يحدث هذا في إسرائيل ولا يمكن أن يحدث في غيرها، في إسرائيل حيث الصهاينة والقراصنة الذين قرصنوا وطنا وانتزعوه من بين عيوننا العربية، وفي إسرائيل يحدث كل ما هو خارج الأخلاق فإسرائيل لا تدركها ولم تدخل تلك في قواميسها. لذلك لا نستغرب ونحن نراقب ما يحدث لعرب البقاء عندما نعرف بأن عزمي بشارة مستهدف أكثر فأكثر من قبل إسرائيل وأجهزتها، فمن المنطقي والطبيعي بمنطق "اللامنطق" الذي قامت عليه إسرائيل أن يكون الأمر كذلك. فبشارة هو الرجل الذي فضح زيف ديمقراطية إسرائيل وهو من رفع فكرة دولة المواطنين التي لا يمكن أن تروق لإسرائيل اليهودية، وبشارة بما يمثله ومن معه في هذا الخط الوطني هو من يقول مرة فمرة أنا عربي فلسطيني، وبشارة هو من حمل مشروعا لعرب الداخل، وهو المُّصر على التواصل القومي معنا في دول العداء لإسرائيل، وهو المتضامن مع المقاومة والمقاوم بطريقته، وهو المفكر القومي العربي الذي يقول كلمته من داخل عش الدبابير فيما لا يجرؤ كثر على قولها على مسافة أميال من ذاك العش.

بشارة هو المدافع الدائم عن حق الشعب الفلسطيني وضد كل من يتعرض لهذا الشعب.. هو المنحاز لحق الناس في الحياة والخلاص والعودة.. وهو صاحب المشروع الوطني الذي لا يكل البحث فيما يوفره الواقع من إمكانيات للعمل في إطارها وتوسيعها شيئا فشيئا باتجاه خلق واقع آخر مغاير.

وإذا كنا لا نستغرب الهجمة الجديدة على الدكتور عزمي بشارة من قبل الصهاينة وأجهزتهم وربما توقعناها جميعا، خاصة بعد عدوان تموز وموقف بشارة منه وزيارته لاحقا إلى سورية ولبنان، وتضامنه مع المقاومة والكثير من المؤشرات كانت واضحة على أن شيئا سيحضر، لعل أبرزها إثارة موضوع سحب الجنسية وغيرها من المؤشرات المتلاحقة، فإننا دون شك نقف حائرين أمام كم الحقد والتعسف الكلامي "الإشاعي" الذي يمارسه بعض عرب الداخل بحق هذا الرجل.

دائما كان عزمي بشارة عرضة للنقد غالبا "غير النقدي" وكانت جرأته في طرح رؤيته الخاصة لعرب الداخل كذلك. واجد شخصيا أن بشارة يستحق مكافأة مختلفة..

رجل يسابق الزمن بين واجبات عدة تنطلق من دائرته في الداخل وتتوسع باتجاه العالم العربي كله.. ناقد باحث في كل تفصيل من تفاصيل إعاقة النهضة.. لا يخاف أن يبدو قاسيا أحيانا في نقده، لكنه حكيم ماهر استطاع أن يُشّرح بدقة وعبقرية نادرة جسدا يأكله التخلف. يسابق الزمن لكي لا يتأخر مقاله، ويحرص على الوقوف عن قرب على واقع القرى والبلدات العربية في الداخل، ويحارب في الكنيست من اجل عرب الداخل الذين خرجوا من القواميس العربية قسرا بعد أن تجاهلتهم تسويات السلام الزائف فحمل لهم مشروعا خاصا، ويفضح عنصرية إسرائيل بكل الوسائل الممكنة..

وتراه عبر الفضائيات ينبه ويحلل الواقع السياسي وبين هذا وذاك يبحث عن متسع من الوقت لينجز كتابا فكريا فلسفيا أو كتابا تحليليا بالضرورة يحمل الكثير من الجديد لان بشارة مفكر متجدد. وبين كل مشاغله ومتاعبه يجد ساعة صمت وتأمل ليسكب على صفحة بيضاء بعضا من رواية لا تبتعد عن كل ما سبق يحّملها قسوة الواقع ووجع الغربة في إسرائيل وهو التواق إلى مكان آخر في نفس المكان المسروق في وضح النهار ويأخذه خياله وزخم الواقع ليتخيل إنسانا يعيش كظل ويمارس حياته كظل على وقع حالة الغربة في المكان المسروق والمُغّرب والذي سُحب من تحت أقدام العرب.

ليس على أي كان من عرب الداخل الذين ناضل من اجلهم بشارة أن يستبيحوا هذا الاسم الكبير إذا كنا نحن كعرب نفخر به كمثقف عربي كبير فما بالكم انتم؟ سُئل مرة بشارة ماذا نستطيع أن نسمي عرب الداخل غير عرب 48 فقال "المهم آلا نسميهم عرب إسرائيل مع أن بعضهم فعلا عرب إسرائيل".

مع أنني لا أعرف الدكتور عزمي ولم التق به أبدا لكنني قرأته جيدا ومن هنا استطيع أن اجزم بأن ما يؤرق بشارة أكثر من حياكة ملف "شاباكي" حوله هو انطلاق الشائعات ضده من قبل بعض عرب الداخل واعتقد أيضا أنه مثلي يؤمن بمقولة لا كرامة لنبي في قومه. وهنا أورد رأيا للدكتور بشارة في هذه الحالة إذا كان هو لا يريد أن يقول شيئا حاليا.

يقول الدكتور عزمي في كتابه أطروحات عن النهضة المعاقة في جزئية تحت عنوان نقاش الكلام ونقاش المتكلم : "الطامة الكبرى أن الإشاعة لم تعد تقتصر على مجرد تعبير عن حضارة شفهية زائلة بل باتت مكتوبة، فالواقع المتخلف ضمن الحداثة يستخدم أدوات الحداثة في نشر التخلف أي أنه يستخدمها ليشيع بدل أن ينشر."
"يوفر واقع التخلف في الحداثة أدوات صحافية من دون أن يوفر بالضرورة صحفيين أو صحافة".

طبعا يشمل هذا بالدرجة الأولى معيار الأخلاق المهنية التي إن غابت تتحول الصحافة فقط إلى صفحات صفراء لا معنى لها إلا الإثارة أو الانتقام " والثأر " من شخص لا يعجب أصحابها لسبب ما وتتحول إلى وسيلة أو سلاح بيد محارب يستهدف خصما بلا أخلاق ولا رادع.

ولان الإشاعة اليوم تستخدم أساليب الحداثة من صحافة وانترنت فإننا نتوقع المزيد من التخلف عبر أدوات الحداثة والمزيد من انعدام الأخلاق الصحفية والمزيد من النشر الفاقع لشائعات إن بدأت فإنها لا تنتهي، وللأسف الناشر هنا يكتب بالعربية ليبث شائعة صهيونية ضد شخصية عربية .

بشارة مفكر وإنسان خلوق ومناضل لا يجبن ولا يتراجع وإذا شاء اختيار ساحة للنضال من بين ساحتين يخوض فيهما معركته الحالية كمثقف وسياسي فاتركوه يختار ساحة الثقافة إنها اليوم أشد وطأة.

واتفق مع كل من يقول بأنه لم يكن في يوم من الأيام وجود بشارة في الكنيست ميزة له بالعكس اعتقد انه كان مربكا لقامة فكرية بحجم بشارة، وكان مربكا لأنه احتاج إلى التوفيق بين كونه سياسيا ومثقفا، هذان اللذان غالبا ما يشبهان الخطين المستقيمين الذين إن توازيا فأنهما لا يلتقيان.

لأننا في العالم العربي المتعب اليوم والمثقل بهمه من الماء إلى الماء نعيش مراحل الإنهاك من الفشل والإخفاق بعد مئة عام من الصراع مع إسرائيل والصهيونية، فإننا بحاجة لعزمي بشارة المفكر العربي أكثر من السياسي، حيث يستطيع كثر أن يكملوا ما بدأه بشارة في العمل السياسي فهو ليس وحده في هذا الميدان ولا يعني غيابه عن الكنيست نهاية الحركة الوطنية كما يروج البعض في الداخل ولكن لا يستطيع حتى قلة أن يكونوا في موقع بشارة الفكري والفلسفي والإبداعي..

التعليقات