د.بشارة: الدولة الوطنية القوية تعود والعرب مجتمعات من دون دول

ليس بالضرورة ان يلتزم المفكر العربي الدكتور عزمي بشارة العنوان الحرفي لمحاضرته التي عقدت عند التاسعة من مساء أول من امس الاثنين، في مسرح المدينة.

د.بشارة: الدولة الوطنية القوية تعود والعرب مجتمعات من دون دول

ليس بالضرورة ان يلتزم المفكر العربي الدكتور عزمي بشارة العنوان الحرفي لمحاضرته التي عقدت عند التاسعة من مساء أول من امس الاثنين، في مسرح المدينة. فهذا المحاضر الذي لا يقرأ من ورقة مكتوبة، والذي لبى دعوة مسرح المدينة والحملة الاهلية لاحياء الذكرى الستين للنكبة/لبنان، ومجموعة »عائدون«، تشعب في »حديثه« الى جمهوره الذي حضر بالمئات وضم سياسيين ومثقفين واعلاميين وناشطين ابرزهم الرئيس سليم الحص والسفير عباس زكي والامين العام للحزب الشيوعي د.خالد حدادة، لينــصت اليه طوال ساعة متحدثا عن الحرب الباردة والحرب في جورجيا وعودة مفهوم الدولة الوطنية وانتهاء القطب الاحادي لمصلحة الدولة العظمى والدول الكبرى. ورغم أنه شهر رمضان وتوقيت المحاضرة عند التاسعة ليلاً، ضاقت القاعــة بالناس على ما يجري عادة حين يحاضر بشارة في لبنان. ومع ذلك فقد تجمع الكثيرون عند مدخل المسرح حيث وضــعت شاشة اضافية كانت تنقل وقائع المحاضرة من داخله.


وترافقت المحاضرة التي تفتتح سلسلة نشاطات في مسرح المدينة مع معرض صور يروي بعضا من محطات السيرة الفلسطينية الطويلة منذ ما قبل الحرب العالمية الاولى مرورا بالتهجير ونصب الخيم »المؤقتة« في المخيمات في لبنان والاردن وسوريا وصولا الى ايامنا هذه.


ورحبت مديرة مسرح المدينة نضال الاشقر، بعزمي بشارة، كما قدمه الزميل صقر ابو فخر الذي قال انه يشعر »ببعض الحرج في الحديث عن بشــارة ومصــدره الخشية من امتداحه لعلــمي برفضــه بقوة المادحين مثلما لا ينفك ساخرا ممن لا هم لهم الا التعرض له احيانا بانحطاط واحيانا بوضاعة بدلا من التضامن معه في وجه العسف الاسرائيلي الذي طـاوله بقسوة.


وتابع ابو فخر: »لم يكتسب بشارة مكانته في النضال من اي ارث عائلي بل من المقارعة اليومية للإحتلال في سبيل حرية شعبه وحقوقه القومية والتاريخية، ولا ريب في ان له نصيبا مشهودا في تشكيل الصورة الراهنة للفكر العربي، فمنذ ان اقتحم الحياة الفكرية العربية في الثمانينيات وهو يقود في ثناياها مجادلا وصانع افكار ومخربا للمسلمات العتيقة. لقد اشعل الكثير من المعارك الادبـية والفكرية فظــهر كأن هوايته الوحيدة ابتداع الافكار والتصدي للمشكلات الكبرى التي تعج بها هذه البيداء العربية«.


بشارة


ومما جاء في محاضرة بشارة: ما نشهده اليوم من انتهاء مرحلة الاحادية القطبية بدأت سيرورته في نهاية التسعينيات، لكنه انقطع بسبب احداث ايلول .٢٠٠١ نحن لا نشهد في جورجيا حدثا استثنائيا مغايرا للتطور الذي جرى منذ نهاية التسعينيات. كان العالم بدأ يضيق ذرعا بمفهوم الاحادية القطبية حتى في الغرب. دول الاتحاد الاوروبي ودول العالم الثالث ايضا، والاهم من الاثنين المحافظون في الولايات المتحدة الاميركية كانوا على قناعة بان العالم القديم (صراع القطبين والمهمة التاريخية في مواجهة الشيوعية انتهيا ولا مبرر للاستمرار في المواجهات).


في العام ١٩٩٩ تعين فلاديمير بوتين رئيسا للحكومة ودخل الشيشان مقررا استعادة هيبة الدولة العظمى وبقناعة تامة من قبل الاجهزة الامنية الروسية التي كان يمثلها بانه ما لم يتوقف هذا الانفلات الحاصل والذي اودى بجمهوريات البلطيق التي انضمت الى الناتو، وجمهوريات آسيا الوسطى التي بدأت تتحول الى قواعد عسكرية اميركية، فان هذه العملية ستدخل روسيا نفسها، وستبدأ حركات انفصالية في روسيا نفسها، مما جعله يدخل غروزني ويقضي على الحركة الانفصالية نهائيا العام .٢٠٠٠


هذا الفعل الذي قام به بوتين منحه صعوده الى رئاسة الدولة المرتبط بالنزعة القومية الروسية لمحاولة استعادة روسيا عبر مخاطبة شعور الدولة العظمى الذي كان قائما، ومن دون ايديولوجيا كونية تسعى الى حل قضايا الانسان. لم نكن امام صعود تيار يسعى الى بديل ايديـولوجي من نظام السوق الرأسمالية كما كان الحال مع الشيوعية بل امام رجل امن متحالف مع جهات في الدولة تعلم ان الخصخصة والخضوع لإملاءات البنك الدولي تعني سيطرة المافيات. نحن امام صعود الوطن القومي الروسي.


العودة الى هذه الصيرورة المنقطعة بعد ١١ ايلول، هل هي عودة الى تعددية قطبية وحرب باردة، وما هي الحرب الباردة؟ لم تكن تلك حربا باردة الا في اوروبا، وهذا ما كان متفاهما عليه حتى في أسوأ لحظات الحرب. لكن دماء افريقية واسيوية وعربية وحتى اميركية سالت بغزارة في تلك الحرب التي كانت حقيقية بين المعسكرين. مناطق النفوذ اقتسمت بين الدولتين في اوروبا فقط اما في باقي المناطق فكانت صراعات دموية جداً.


ما يهمنا هو اننا نتحدث عن معسكرين عالميين يتصارعان جوهريا على حلول القضايا البشرية. الصراع حينذاك ان المعسكرين كانت لديهما ادعاءات بان لديهما حلولا بديلة لقضايا البشرية جمعاء.


ماذا عن الان؟ نحن نشهد حالة كهذه: دولة عظمى واحدة هي الولايات المتحدة، وهناك دول اخرى تحاول ان تكون دولا كبرى وان لم تكن كبرى. هناك روسيا التي تحدثنا عنها والتي تحاول ان تكون دولة كبرى، والصين ايضا وهناك الكثير من الجهل والغباء في الحديث عنها، حيث الموقف العربي المهزوم ينتظر الخلاص من الخارج وان الصين ستأتي لترتيب امورنا. الصين لن تأتي لترتيب امورنا بل للبحث عن نفط مثلها مثل غيرها. نحن نتحدث عن دولة في حالة تراكم راسمالي أولي ليس فيه اي جانب مشرق ان لجانب حقوق الانسان او عمالة الاطفال او البيئة او عمل السخرة. نمو رأسمالية قوية جدا باقل قدر من التكلفة ذات مشاعر قومية لا تضاهى لا عند العرب ولا عند غيرهم، لأنها حضارة ممتدة ومغلقة منذ آلاف السـنوات مع تجانس ثقافي شبه كامل. وهناك نشأة الهند والبرازيل. ما الذي ينتــج الان؟ عودة الدولة الوطنية القوية التي تمــارس السيادة وتقول للولايات المتحدة ان مدها يتوقف عند مصالح هذه الدولة الوطنية. روسيا قالت لأميركا في جورجيا توقفي. كذلك الصين قالت للولايات المــتحدة وفي ما يخص حقوق الانسان وغيرها من القضايا.


هناك منظومة عالمية تطرح قيما بديلة لقيم الغرب. نظام القطب الواحد مستمر لكن ظهر له تحديات ودول كبرى ذات سيادة. الصين لا تقول للعرب ان لديها وصفة سحرية افضل من الرأسمالية لحل مشاكلهم، بل لديها مصالح. تقول انا موجودة لذلك ولمن يريد مواجهة اميركا فان لديه هامش حركة اوسع.


أنا أكيد ان هذا التطور في بدايته وانه سيكون سريعاً. هذا سيتيح مجالا اوسع لتحالفات لمن لديه ارادة سياسية جدية. في المستوى الاعلى روسيا والصــين والهند، لكن انظروا الى السلوك التركي. تركيا تحاول ان تصنع وان تتجاوز خلافات تاريخية عميقة. عبد الله غول يزور ارمــينيا من اجل مصالحة اذربيجان وارمينيا لأنه لديه مشكلة في مرور انابيب النفط في روسيا والحل بمرورها في اذربيجان وارمينيا، لذا يحاول مصالحتهما ومصالحة تركيا وارمينيا، اضافة الى استخدام الخطاب الاسلامي من اجل اكتساح صناعته للخليج والعالم العربي، حيث مكانها الطبيعي للمنافسة. البرجوازية التركيــة علمانية لكنها راضية بالخطاب الاسلامي من اجل هذا.


لننظر ايضا الى ايران كيف تتصرف كدولة. لذا حتى في محيطنا القريب هناك اعادة اعتبار للدولة الوطنية وممارستها السيادية وفرض ارادتها في ما يتعلق بمصالحها الاقتصادية والوطنية. اين هو الواقع الذي ننظر فلا نجد دولة؟ في العالم العربي الذي لا يستطيع استثمار الوضع الجـديد عالميا لأنها ليست دولا ولا تخطط استراتيجياً وليست متشاورة مع نفسها على الاقل على هذا الصعيد. نحن نشهد عودة الدولة الوطنية. الدول التي نجحت اقتصاديا هي التي لم تستمع الى وصفة البنك الدولي بل اتبعت الوصفة التي اتبعها الغـرب في القرن التاسع عشر من اجل النجاح. اما الدول التي طبقت الوصفة فــهي الآن مديونة والزراعة فيها مدمرة وتحولت الخصخصة فيها الى فساد وافساد. يقولون الحماية الجمركية ممنوعة وفي الوقت نفسه يرفعون جدارا جمركيا على منتجاتهم الزراعية التي تتدفق على الدول التي من المفترض انها لا تملك الا الزراعة التي انتهى امرها.


انظروا كيف انه في ظل الفراغ المتوقع ان تتركه الولايات المتحدة نتيجة تآكل هيبتها بعد العراق كيف تتصرف ايران وتركيا. تجتمعان لتنسيق دوريهما في العراق الذي يتوقعان له فراغا امنيا اذا انسحبت الولايات المتحدة. من ايران وتركيا؟ حفيدتي الصفويين والعثمانيين يتفقان ونحن، الذين لا علاقة لنا بالأثنين، نتبادل الاتهام بالصفوية والعثمانية، وهم، الصفويون والعثمانيون، يرتبون امورهم تاركين لنا الهبل الطائفي المذهبي.


العرب ليسوا دولاً بل مجتمعات. والمجتمع بلا دولة هو نظام الغاب. المجتمعات العربية ساهمت بدون دولها (حالات المقاومة اللبنانية والعراقية والى حد ما الفلسطينية) في تناقص هيبة اميركا وتآكلها والدول العربية تحاول التقليل من هذه المساهمة.


في ١٩٩١ كان التنظير بالاطنان انه، وبما ان اميركا طلبت من اسرائيل عدم الرد على صورايخ صدام فقد انتهى دور اسرائيل الوظيفي في المنطقة. الآن اسمع هذا الكلام من جديد مع توقع مجيء باراك اوباما الى الرئاسة وانتهاء مرحلة بوش، مع ان اوباما احرج اسرائيل كلها بكم من القبلات التي ليست متعودة عليه، بينما بعض العرب يعتبرون انه يتكتك من اجل الوصول مع أنه صرح بنياته مباشرة. لا يمكن توقع ان يكون اوباما جيدا للعرب ما لم يكن هناك ذاتا سياسية اسمها العرب. ليست القضية الفلسطينية على اجندته اصلا بل همه الاول ابعاد شبهة الاسلام عنه. وهو لن يجلب مؤسسة بديلة من المؤسسة الموجودة بل هو يحاول اقناعها بقبوله فيها. النقاش هنا هو في كيفية ان يكون عمل العرب السياسي، في اجبار اميركا على تحسين صورتها عندك وليس العكس. ينبغي اعادة الاعتبار للفكرة العربية بمعنى انها ديموقراطية ضد الشرذمة والانقسام والطائفية وبمعنى تثبيت السيادة الوطنية الذي لا يتناقض مع المواطنة.


ما يجب ان يطرح الان هو قدرتك على وضع اجندتك الوطنية على الطاولة العالمية.



"السفير"


التعليقات