صدور "نشيد الأنشاد الذي لنا" لـ د.عزمي بشارة عن المركز الثقافي العربي في بيروت والدار البيضاء..

صدور
صدر في هذه الأيام عن المركز الثقافي العربي في بيروت والدار البيضاء "كتاب نشيد الأنشاد الذي لنا" بقلم د. عزمي بشارة. وقد سبق أن نشر الإصحاح الثامن منه في يوم ذكرى النكبة.

وقال المركز بمناسبة صدور الكتاب:

تعبير عن النصّ، وعن الروح بملكات التعبير الفنّي وبالصورة الأدبية، الشاعرية، وبجمالية اللغة والصورة معاً. هذا ما يراه عزمي بشارة في "نشيد الأنشاد الذي لنا".

نص أدبي نسج بهذه الخصوبة، اي بالتعبير الجمالي الحسي الراقي لغةً وصورةً، إنه إيقاع يصور ويعبر عن مشاعر وهواجس إنسان على لسان عاشقة في علاقتها مع محيطها الإنساني والطبيعي، بما فيه من مشروع شخصي وعام وفجيعة شخصية وعامة، وبما فيه من تفاصيل الحياة. يرتبط المؤلف بها متأثرا متابعاً للتفاصيل عارفاً بكل ما تحمله، هذا ما فعله بشارة أيضاً في عمليه الأدبيين السابقين، الصادرين عن المركز الثقافي العربي: "الحاجز" و "حب في منطقة الظل".

يستخدم الكتاب إيقاع اللغة وجماليتها للتعبير عن حالات حنين، وحب، وعشق، وحلم وخيبة، ووقفات مواقف وجودية أخلاقية... وكلها على لسان الحبيبة في العلاقة مع الذات والمحب من تفاصيلها الصغيرة اليومية الى التسامي الذي يلامس المقدس الى اقتحام الطارئ الغريب وولوج الاغتراب الى عالم المحبين وتكيف النفوس والمجتمعات الميتة مع الظلم والكذب.

والأداة لهذا كله هي معارضة أدبية جمالية لنص كنعاني قديم يكاد يكون أغنية أفراح حسية شديدة الارتباط بطبيعة المكان بين أغاني الرعاة وردود المزارعين تستحضر روح الإله تموز الذي ورثته التوراه في سفر تحت عنوان "نشيد الأنشاد الذي لسليمان".

ولا يُخفى هنا ما يحمله هذا العنوان "نشيد الأنشاد الذي لنا" من إحالة على نشيد سليمان وترجمة الحالة الحسية في العلاقة مع طبيعة نفس البلاد إلى صراع أجيال مع ذلك النص الذي يعتبره المؤلف من تراث البلاد وليس من الطارئين عليها، فهو يتصارع معه ويترجمه الى حالة روحية وحسية بلغة حواس عصرنا فاتُخذت الحياة الحسيّة أبعاداً أخرى في الروح.

هذا نص أدبي إيقاعي ( إيقاعية!! كما يقترح المؤلف في البداية)، إنه حوار الذات مع ذاتها، ومع الموجودات، والايقاع نص يقاوم التشظي والغربة والاغتراب في علاقة حب ترتب الحلم والأسطورة على مكان يتجدد في بقائه.

.يسر المركز الثقافي العربي أن يضع بين أيديكم هذا النص الأدبي الفني "نشيد الأنشاد الذي لنا"، بقلم عزمي بشارة.

ولأن وصول الكتاب الى البلاد يحتاج الى بعض الوقت، فقد وافق المؤلف على نشر إصحاحين إضافيين، هما الثاني والثالث، من الكتاب في موقع عــ48ـرب. أما البقية فسوف يجدها القارئ في الكتاب، وهو مؤلف من تسعة اصحاحات وملحق من تسعة هوامش.

قال لي:
لكِ نكهةٌ، لم أصادفْ مثلها
ليس نهداي "رمّانًا ناضجا"
ولا "خِشْفَتي ظبيٍ ترعيان"
ليست شفتايَ سوسنا
وإن خابَ ظنُّ سُلَيمانَ
فأنا عبقُ فيجَنِ الجليلِ المنثورِ
على حبّاتِ الزيتونِ
ميرميّة مفروكةٌ على كفّين
أنا تبغُ جنوبِ لبنانَ
وشمالِي فلسطين
يدبغُ الأصابعَ والشاربَيْن
زهرُ ليمونِ الساحل
وجبلِ عامل
رائحةُ تفّاحِ الجولان
ما تبقّى من غوطةِ دمشق
زهرة الشرق
نوّارُ اللوزِ
يعزفُ الأبيضَ بالأبيضِ
أنا بعدَ الربيعِ
قلقُ انتصافِ العامِ
ووخزُ السؤالِ
عن تسارعِ الأيامِ
عن تدهورِ الأحوالِ
عما جرى
عن المصيرِ، عن المآلِ
أنا في تشرينَ لونُ البرتقالِ
وفي كانونَ
حادي القوافلِ
من السندِ والهندِ إلى المهدِ
بذهبٍ ومرٍّ ولبان
ما لبث يعطِّرُ الطريقَ
إلى بيتِ لحمَ العتيقة
حتى حوصِرَت بجدران
أنا فوْحُ خليطِ الجوزِ واللوزِ والسكّر وأعواد القرفة وجوزة الطيبِ
وماء الوردِ
شذا خلطِ كعكِ العيدِ
بفرحِ ولدٍ سعيد
مُسِحْتُ بدهنِ العودِ
سيدةً عليهِ وأميرةً له
أنا عطرٌ صباحيٌّ
يتلألأُ في قطراتِ الندى
على أوراقِ الليمون
أنا فلٌ في الزَّرِيعةِ المنزليةِ
حبقٌ في صفائحَ لوَّنها الفقراءُ
على مداخلِ بيوتٍ صغيرةٍ
يسكنُها مؤقّتا منذُ ألفِ سنة
مهجَّرون في بلادِهم
ولاجئون في بلادنا
ابنةُ تلك البيوتِ أنا
كانَتْ خيامًا، وكبِرَتْ صفيحًا
وشاخت اسمنتًا صريحًا
كنتُ الياسمينَ على
فسحةِ الأملِ
كنتُ غطاءَ الفضيحة...

أنا رشفةٌ صباحيّة
تقرأُ سرَّ الحياةِ
بفنجان قهوةٍ عربيّة
صفنةُ أهلِه على الشرْفَة
تنهيدةُ تلك البيوتِ الصغيرة
طرَبُ التجاويدِ القرآنيّة
وفيضُ التراتيلِ الشجيَّة
والشعرِ العربيّ
وحبُّ النبيّ
وأبي الطيِّب المتنبي
وعمرَ والحسينِ وعليّ
وخالدٍ وصلاحِ الدين
وابنِ عربيّ
ويوحنا فمِ الذهب وسمعانَ العموديّ
وأبي العلاء والبحتريّ
أنا وِشاحُ الحسناواتِ
وقدود الموشَّحاتِ
أنا الخجلُ الشرقيُّ
والشبقُ الخجولُ
أنا في صيفِنا القائظِ
نسمةٌ عليلة
تَعْـثُرُ لوالدِي كلّ يومٍ
على سببٍ للعيشِ
لا تعدمُ وسيلةً وحيلَة
فمزاجُه مزمنٌ
يسائلهُ عنِ المعنى
بعدَ كلِّ ظهرٍ
قبل كل قيلولة
أنا استغفارُه
من هذا الزمانِ
بعد نشرةِ الأخبارِ
وتنهيدتُه المهمومةُ الطويلة،
كيف يجرُؤُ
أن يـبحثَ في أيِّ مكان
عن نكهةٍ مثيلة...

بردْتُ فغطّاني
مرضْت فداواني
ضعفْت فضمّني
يئستُ فشدَّ من أزري
جزعتُ فمنحني نفْسَه ملجأً
تعبتُ فغسلَ رجليَّ بنقيعِ الورد
وأسقاني ليمونا بماءِ الزهرِ
انهرتُ فلملمني
خلعتُ جسدي على بابِه
لفّ جسدَه حول ما تبقّى
من روحي
ثم قدّم لي الشايَ الداكنَ
في كؤوسٍ زجاجيّة صغيرة...

وسادتي يسارُه تعانِقُني
يمينُه تغطّيني
تلفُّ خاصرتي النحيلةَ
تُطَمْئِنُ وسطي
تدفئُ معدةً مقروحةً
تحملُ خوفَ الأمّهاتِ الشرقيّات
على أطفالِهنّ من الهواء...

استسلمتُ له
غبتُ بين يديه
اختفيتُ في صدرِه
غرقتُ في عينيه
لفَظَتْ وحدتي أنفاسَها الأخيرة
انطويتُ عليه وعلى نفسي
متّ وقرعتُ أبوابَ الجنّة
وقمتُ من بينِ الأمواتِ
ولدت من رحِمِه من جديد
وهو الآن نائمٌ
فلا توقِظْنَه يا بناتِ فلسطين
أستحلفُكُنَّ بالقدسِ وبالحرمِ،
بما استعصى على الهدمِ
بالصابر على الضيمِ
بالثائر على الظلمِ
في المنفى وفي الداخل
بمن تبقى في غزة من الساحل،
لا تنبِّهْنَه
أمهِلْنَني كي أعدَّ القهوةَ
أمهلنني لأقرأَ الجريدةَ
قبل أن يصحوَ
فأجدَ كلاما عاديّا
لتمرير الوقتِ
ريثما يبدأُ بالحديثِ
فلا أسمعُ
أتأمّلُ شفتيه
ويحضنُـنا الصباحُ...

كان الكلامُ من فضّةٍ
بعدَ تأملِّ شفتيهِ
صار الكلامُ من طربٍ
ليبقَ الصمتُ من ذهبٍ
من يهتمُّ بالذهبِ؟

هكذا يـبدأُ العاديُّ الذي فينا يومَه. نأبى أن يندسَّ بـيننا في بدايةِ النهارِ شيءٌ آخرُ غيرَ مألوفِنا.
تميـتـنا الغيرةُ وتُحْيـينا. ويملكُ أحدُنا الآخرَ. لا نبحثُ عن شخصيـتِـنا المستقلة ولا تغرينا تعابيرٌ مثلُ حقِّ الاختيار. واحدُنا عبدٌ للآخر. كلٌّ منا سيّدُ الآخر. هوانـا غيرةٌ، وغيرتُـنا هوًى. وليس فيـنا حرٌ سيّدٌ على جسدِه. نـتمسّكُ بفرديّـتـِنا وحرّيّـتـِنا حين يحضرُ الآخرون، أمّا في حضرتِـنا فتفقدُ الحرّيّةُ معناها بمحضِ إرادتها وإرادتنا.

نحن تـقليعةٌ قديمةٌ
مثل أهلِنا الذين
وقعوا في الحبّ
من بدايةِ الزيارة
وتبادلوا الرسائلَ
واختاروا لبعضهم أشعارا
ورافقهم صِبْيَةُ العائلةِ
في نزهةِ الخطَّاب
خَفَرًا أو وشاةً صغارا
لم يقبلوا يوما تفاهاتٍ
تجترُّها الأفلامُ والأقلامُ
مثلَ أنَّ الحبَّ يعني
ألا يقدَّمَ الحبيبُ للحبيبِ
إذا أخطأَ اعتذارا
ثم أحبّوا بعضَهم على الشرفة
مع فنجانِ قهوةٍ وسيجارة
وتبادلوا الرأيَ صباحا
بشأن وجبةِ الغداء
بالكاد غادروا الدار...

عبثا بحثْنا عن العادي
الذي فُقِد
لم نقبلِ الخسارة
عبثا نبشنا كلَّ زاويةٍ
عبثا قلبنا كلَّ حجرٍ
فما عثرنا على
حبٍٍ على الشرفةِ،
إذ وُطِّنَت في البيتِ
فورَ السطوِ،
وحلَّت محلّّ أهلِنا
الحضارة
القفرُ للقادمين الوافدين، وما بينَ القرى لهم أيضا. لم تنجُ بقعةٌ للاعتزالِ والتوحّدِ، ولا للاكتئابِ. لا وحدةٌ أو عزلة إلا صودرت، أو خصوصيّة إلا أمّمت...
قال لي:
عرفتُكِ حالما لاحَ المحيّا
شبّهتُكِ بحلمٍ عادني
في صبايَ
وجدتُكِ حينما سُرِقَت
من تحتِ وسائدِنا الأحلامُ
استعدتُكِ بعدما أُبْعِدت
من زمنِ البلادِ تلك الأيامُ
كلّما اغتربتُ عمّا حلّ بنا
حولنا،
كلّما سُحِبَت
الأرضُ من تحت الأقدام
توطّنتِ فيّ وتوطّنتُ فيكِ...

عناقُنا عزلةُ واحدٍ
وحدةُ اثنين
يخِـزُنا القلقُ في أكتافِنا
بردٌ يؤرّقُ ظهورَنا
ويكاد يقتحمُ الصدورَ
أدَرْنا ظهرَنا للمُطْلَقاتِ
وتجاهلنا اللا نهايةِ
لكنّا عجزنا
عن التخلي
وما تنكَّرنا لأحلامِنا المسلوبة
قال لي:
كم تشبهين أمَّك التي وضعَتْكِ من حلمِها في حلمي. لا أشبِّهُكِ بحسناءَ. لا أشبّهك بنجمةٍ في أفلام الرجال. لا أقارنُكِ بمغنّيةٍ رقميّةٍ محمّلةٍ في "فيديو كليب". لا أشبِّهكِ بشخصيّة من صناعة الأحلام.
صناعةُ الأحلامِ
وصنعةُ تقريظِ الكلامِ
مهارةُ من يحلُمون
ومن لا يحلُمون
وأنتِ حلمي الذي صنعني
ما أجملَكِ دونَ مواصفاتٍ ومعايير
ما أحسنَكِ دونَ لغوِ المقاديرِ
والقواريرِ والعقاقير
والفيتاميناتِ وقشورِ الخيار
المتجمّعةِ في صباحيّةِ إفطار
في مقهى مجمَّعِ تسوُّق
ما أحلاكِ، وما أحلكَ شعركِ
وما أنسبَها زينةً شفّافةً
تُظهرُ ألوانَكِ
ما أنعمَ مخملَك دون مساحيق
حطّمتُ في هيكلكِ
أصنامَ عبادةِ الناسِ للبشرِ
وكسرتُ تحت قدميك
سلاسلَ ذهبيّةً صنعوها لكِ
لتدوسي عليها
ضاقَت نفسُكِ بالتقاليدِ
فغادرتِ حيَّك صاغرةً للتقاليع
وعدتِ إليكِ
متمرّدةً عليها...

في ملكوتكِ الأرضيّ
فاحَ لُبانُ محرابِك
وعشّشَ بَخُورُكِ
حيث ينطوي
أيُّ شيءٍ مني على ذاتِه
وسكن عودُكِ في شعري
وفي خَلَدي
وفي كلِّ جرحٍ في النفسِ
ما أروعَ حضورَك
ويا لروعِ إغلاقِ البابِ على غيابِكِ
خشبيّ جفافُ الحلقِ
ينذِرُ بعاقبة الفراقِ
بوجعِ الشوقِ
أعراضُ الحنينِ
تلوح كالأقدارِ في الأفقِ
وعكةُ الانفصال ثقيلهٌ
ينوءُ بحملِها الصدرُ
أعِدُّ قلقي
لساعةِ وداعٍ
ليس كمن يودّعُ
بل كمن يترقبُ
أن يلجَ فتحةَ البابِ
أن يتسلّلَ القدرُ...

لا شفاءَ للنفسِ
من عادةِ التمنّي
أن تعودَ عجلةُ الزمنِ
أن يغيّرَ الوقتُ وجهتَهُ
أن تتسمرَّ إلى الأبد
لحظةُ القبلةِ
على إطار بابٍ نصفِ منفتحٍ
بغصّتِها ودمعتها الساخنة اللائمةِ
هكذا تكلّم حبيبي
عبثا أتذكّرُ متى وأين...

جزِعةٌ تلك النفسُ المدركةُ عجزَها
أن تجعلَ الزمانَ يدور بنا
يعيدُنا إلى السريرِ
أن يعودَ على أعقابِه
أو ينسدَّ مجرى الزمنِ
ليفيضَ الحبُّ على ضفّتيه
كان يكفي الصبا
أن يرمقَ اللحظةَ
بعينين ضاحكتين
كي تجمدَ في المكانِ...

تقولون واهمةٌ
تمنّي النفسَ طورا،
وأطوارا تواسيها
صرّةُ العشقِ ما زالت معلّقةً
على صدري أيقونةً
ما انفكّت محمّلةً
بعطرِه المرِّ على نهدَيّ
ما زال قرطُ الوجدِ
تميمةً مكتوبةً
تعويذةً معقودةً
كالجمر تحت غيابِه يتوهجُ
حرارة أنفاسِهِ
تدغدغُ عنقي
ما زالت أشواكُ غيرةٍ مجنونة
أدمت جَنانَه
خاتَمًا يلفُّ خاصرتي
لوعةً تغلّفُ لوعتي...
ما زالت أغنيةً على صدري
وقصيدتين معلّقتين على أذنيّ
ما زال القفرُ يزهرُ كما أزهرَ
احتفاءً بقدميّ على الثرى
وأنا أمشي لتأخذاني إليه...

التعليقات