** في «المسألة العربية» لعزمي بشارة../ تهامة الجندي

-

** في «المسألة العربية» لعزمي بشارة../ تهامة الجندي
ما هي البدائل والحلول النظرية والعملية لحالات الضعف والتشرذم والقمع والتخلف التي تعاني منها المنطقة العربية عموما، سؤال كبير يطرحه ويجيب عنه كتاب الدكتور عزمي بشارة «في المسألة العربية- مقدمة لبيان ديمقراطي عربي» الصادر حديثا عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، ففي فصوله العشرة بحث جاد وجديد من نوعه لفهم ارتكاسات المشروع الحداثي ومعوقات التحول الديمقراطي على المستوى العربي من خلال ربط الفكرة القومية بالديمقراطية، أو كما كتب المؤلف في مقدمة كتابه هو: «محاولة لتقديم حل ديمقراطي للمسألة القومية ومقاربة قومية للمسألة الديمقراطية».

يرى الدكتور بشارة أن الديمقراطية ترتبط بتنفيذ مهام وطنية منها، بناء الاقتصاد الوطني، ومنها حسم مسألة الهوية وشرعية الدولة، وهي تعني حكم الأغلبية في نظام تمثيلي منتخب يتم تداوله دوريا بطرق سلمية، وتعني أيضا الفصل بين السلطات، واستقلالية القضاء ومجموعة حريات وحقوق مدنية مضمونة دستوريا، وحق الاقتراع دوريا لسلطة تشريعية، وفي هذا السياق يميّز المؤلّف بين تأسيس الديمقراطية وإعادة إنتاج النظام الديمقراطي، ويرى أنه بالإمكان إعادة إنتاج الديمقراطية بدون ديمقراطيين، لأنها تصمد وتتطور بغض النظر عن قيم الشخوص التي تدير دفة الحكم، فقواعد وأسس الحكم قد أُرسيت، وقد نشأ لها حرّاس في القضاء والصحافة والمؤسسات الأخرى، ولكن لا يمكن تأسيس أو إنشاء نظام ديمقراطي في مرحلتنا التاريخية المعاصرة من دون ديمقراطيين مؤطرين ومتورطين في عملية إنتاج الديمقراطية فكرا وبرنامجا-ص 22 - 23- ويلاحظ هنا أن: «الديمقراطيين تاريخيا وفي وعي شعوبهم وطنيين، وليسوا عملاء أو متعاونين مع دول محتلة، ويشكل تجريد المصطلح من هذا السياق الوطني والقومي في ممارسة الداعين للتدخل الأجنبي من أجل التغيير معضلة حقيقية للمسألة الديمقراطية وإضرارا بقضيتها» -ص29-.

لقد تمت عملية تأسيس الديمقراطية كما نعرفها الآن جاهزة في الغرب بالتدريج عبر –100- ¬150 عاما وعلى موجات وفي بعض الحالات موجات دموية، لكن لم يعد بوسع دول أخرى أن تبدأ من جديد، ومن يؤسس الديمقراطية اليوم لا يستطيع أن يتجاهل النموذج الديمقراطي الليبرالي القائم، لا يستطيع أن يتجاهل مثلا حق المرأة في الاقتراع، والنظريات حول الديمقراطية جاهزة وتتطور باستمرار منذ القرن التاسع عشر، ولا تحتاج إلا إلى من يتبناها ويحوّلها إلى برنامج عمل، ولا حاجة إلى أن يعيد الإنسان العربي وغير العربي اكتشاف ديمقراطيات أخرى، مع التنويه إلى أن الديمقراطية في الحالة العربية هي قضية سياسية نضالية تحتاج إلى ديمقراطيين مؤطرين كقوة فاعلة ومؤثرة تملك مشروعا يقف على أرضية المجتمع ذاته، كما تملك تصورا واضحا للقوى الديمقراطية والقيم التي تلتزم بها، وبرامج ممارسة سياسية تتفاعل مع ما هو قائم بهدف تغييره باتجاه معلن ومعلوم وملتزم به سلفا.

وفي بحثه عن أسباب تعثر الانتقال إلى الديمقراطية على المستوى العربي يحدّد الدكتور بشارة مجموعة من المعوقات تبدأ بالدولة الريعية: وهي الدولة التي تعتاش على عائدات من الخارج لا يُوظّف فيها عمل اجتماعي جدي، مثل بيع مادة خام دون توظيف عمالة اجتماعية -تصدير النفط والمعادن الأخرى- أو من خدمات استراتيجية -معونات أجنبية مقابل تحالفات سياسية استراتيجية وخدمات أمنية وغيرها- أو من ضرائب تجبى على تحويلات من الخارج كعائدات قوى عاملة في الخارج، وهذا لا يطاول طبعا العائدات الناجمة عن تصدير المنتجات الزراعية لأنها ناجمة عن تصدير منتجات من الاقتصاد الوطني استُثمر في إنتاجها جزء أساسي من العمل الاجتماعي، وتتميز الدولة الريعية بقطاع دولة واسع يشكل عبئا على الاقتصاد الوطني وعلى الطبقات الفقيرة، ويعيق عملية تشكيل مجتمع ينتج اقتصاد الدولة ويدخل معها في علاقة جدلية، أي المجتمع التعاقدي.

ثاني معوّقات التحول الديمقراطي يجدها الباحث في القبيلة، ولكنه على خلاف رأي بعض المستشرقين والكثير من الباحثين العرب الذين يجدون في القبيلة سببا للتخلف وحداً للتمييز بين ثقافة الغرب والعالم الإسلامي يجعل الانتماء للمكان مميزا للأولى والانتماء للنسب والسلالة مميزا للثانية، على اعتبار أن ما يميز القبيلة كتشكيلة اجتماعية متنقلة في المكان أنها جماعة لم ينفصل فيها السياسي عن الاجتماعي وعن الاقتصادي، ولم ينفصل فيها الفرد عن الجماعة إلا بمعنى تفرده كعضو فيها، على خلاف ذلك يرى بشارة أنه حالما تتوطن القبيلة يصادر المكان جزءا منها ومن ولاءاتها المنصهرة في وحدة واحدة، ويرى أن القبيلة قد تغيرت بتحولها إلى عشيرة غير متنقلة في المكان، وفي الكثير من الحالات اضمحلت، وحيث بقيت غيّرت من ملامحها ووظائفها بشكل جعلها متأثرة ببنى اجتماعية وسياسية غير عشائرية، بقدر ما هي مؤثرة فيها، وتتنوع هذه الوظائف من الحفاظ على التضامن فيها لغرض الحفاظ على الذات، وحتى الحفاظ على إمكان تأجير ولائها واستخدامها كقوة عسكرية على يد أنظمة مقابل امتيازات أو أموال، وقد توظف الوظيفة التضامنية ضد قبيلة أخرى شبيهة، وقد يتم استخدامها لحماية أفرادها من بطش السلطة المركزية -ص114- وفي كل الأحوال بقي استمرار القبيلة كقوة اجتماعية تضامنية فاعلة دليلا على أمرين: ضعف الدولة المركزية كدولة متماسكة وقادرة على عملية بناء الأمة، ودليلا على عدم تفرد الأفراد على شكل مواطنين لهم حقوق ويعتبرون المجتمع والدولة تعبيرا افتراضيا عن تعاقدهم، وفي هذا السياق يرى الباحث أن لا سبيل لبناء الديمقراطية عربيا من دون تفتيت هذه البنية سياسيا ورفضها ومنع تثبيت شرعيتها الجديدة، أو منحها شرعية كوحدة سياسية في إطار تعددي باسم الديمقراطية، ولا يتم ذلك من دون الإصرار في التشريعات والإجراءات القانونية وطرق الانتخابات على مبدأ المواطنة والانصهار حقوقيا في المجتمع المدني، وهو في حالة الديمقراطية الوجه الآخر للأمة.

من المعوقات الأخرى التي يتطرق إليها المؤلّف هي إشكالية الهوية الثقافية، هل هي هوية إسلامية أم عربية؟ ويعود تاريخ بروز هذه الإشكالية إلى الفترة الممتدة ما بين عام النكسة 1967 وانتصار الثورة الإسلامية في إيران، حيث ظهر نوع من الإسلام الحركي الذي قام بتحويل العقيدة الدينية إلى هوية وانتماء أشبه بالقومية الإسلامية في مواجهة القومية العربية.

وفي هذا الإطار يؤكد الدكتور بشارة على الهوية العربية، ويوضح أن الفكرة القومية العربية لم تكن كما يدعي المستشرقون وبعض الإسلاميين نتاج جهد أقلياتي للانتماء إلى الأكثرية العربية في بلاد العرب ضد الهوية الإسلامية للإمبراطورية العثمانية، فالعروبة أكدها القرآن الكريم حين ميّز بين لفظ الأعراب –البدو- والعرب، ووصف ذاته بأنه قرآن عربي، نزل حكما عربيا، أي حكمة عربية، وقد فعل ذلك الرسول عليه السلام حين قال: «حب العرب من الإيمان وأما الأعراب فقد ذمهم الله».

والعروبة كانت قائمة على شكل لغة وثقافة وعصبية قبل المرحلة القومية في الدول الإسلامية المتعاقبة بما فيها العثمانية، وكانت العروبة آخر من تمرد على الإمبراطورية العثمانية، وهي خلافا للقومية التركية وقبلها الفارسية لم تنجح القومية العربية في إقامة دولتها، والعروبة لم تكن عنصرية، ولم يدع فقهاء وعلماء المسلمين في حينه مثل هذا الادعاء ضدها، بل كان هذا ادعاء التدين الحركي السياسي في مراحل متأخرة فقط، حين طُرحت العقيدة بشدة وتطرف كأساس لولاء الأمة في مقابل الرابطة القومية العنصرية المثيرة للفرقة بين الشعوب، وكان أول من طرحها أبي الأعلى المودودي، وهو من أصل هندي، وحتى تٌرجمت أفكاره إلى العربية لم يكن الموقف الإخواني من القومية العربية بهذه الحدة.

ينوه الدكتور بشارة إلى أن المواطنة بالمفهوم الحديث تتعلق بعلاقة الفرد مع الدولة باعتبارها منظومة حقوق وواجبات، يُفترض أن تكون شاملة ومتساوية، وأن تتضمن حريات مدنية وحقوق مشاركة سياسية وحقوق اجتماعية يمكن منحها ولا يمكن انتزاعها كعقوبة، فهي ليست ملك الحاكم ولا الجماعات، فعلى خلاف مفهوم المواطنة كعضوية في جماعة، المشتق عن التعريف اليوناني أو الأرسطي في الـ«البوليس»، على خلاف ذلك المواطنة الحديثة هي عضوية في الدولة التي لا تعكس حقوقيا بالضرورة جماعة حتى وإن كانت تمثلها ثقافيا أو إثنيا، وهو مفهوم حديث تطور مع بناء الدولة عبر الحركات القومية ومثقفيها، ويعني عمليا أن علاقة الفرد مع الدولة لا تمر عبر العشيرة، ولا تمر عبر الطائفة، بل عبر علاقة فرد - ¬دولة، وفقط حين لا يوجد وسيط بين المواطن والدولة غير مواطنته وحقوقه، وبعد أن تُؤسس أمة مدنية، يصح القول إن الحقوق الجماعية لجماعات معترف بها داخل الأمة لا تمس بمبدأ المساواة بين المواطنين، بمعنى حق الجماعات في امتلاك وإدارة أوقاف مثلا، حقوق جماعية طائفية، الاعتراف بالزواج والطلاق الديني ومحاكم دينية طوعية محددة الصلاحيات من مختلف الأنواع، فهناك فرق بين الاعتراف بتعددية ثقافية وأخرى طائفية تقوم على أساس المواطنة المتساوية، وبين تحويل هذه الجماعات إلى جماعات سياسية تحلّ محل تعدد الأحزاب، ومحل تعدد الآراء والبرامج والمشاريع حول مصلحة الأمة ككل، وإذا لم ترس التعددية الثقافية على أسس حقوق المواطنة المرتبطة بالمواطن الفرد، فقد تتحول إلى حظائر مغلقة وغيتوات دينية أو إثنية ينعدم فيها وجود المجتمع المدني، أو يتحول إلى سوق لعقد الصفقات والتسويات بين طوائف محبوسة في هاجس هويتها وتجانسها.

يعرّف بندكت أندرسون القومية بأنها «جماعة متخيلة»، والمتخيل هنا حقيقي بقدر ما يعكس وجود بنية اجتماعية سياسية، فالقوميات ليست قائمة منذ الأزل، ولن تدوم إلى الأبد، وهي بالتأكيد ليست ظاهرة فوق التاريخ والجغرافيا، القوميات تُنتج تُصنع تُبنى وتتشكل، وعموما بدأ تشكلها في القرن السادس عشر، وأبصرت النور في القرن السابع عشر مع نشوء وتوطيد دولة الملكية المطلقة الأوروبية وتطور الطبقة الوسطى في رحمها وصراعهما مع عالمية الكنيسة، أما القوميات المتأخرة فقد قامت بفعل الحركات القومية في القرن التاسع عشر، وليس العرب وحدهم في نادي القوميات التي وصلت متأخرة، بل يشاركهم فيه الأتراك والطليان والألمان وغيرهم، وليس على الباحث أن يثبت أن القومية كانت قائمة منذ ما قبل التاريخ كي يثبت حقها في دولة، فلم تكن أي من الأمم الأوربية قائمة في الماضي، بل تشكلت تاريخيا وحديثا، والقومية واقع حديث، ومفهوم حديث عند العرب وعند سواهم، ويتم إسقاطها بأثر رجعي على التاريخ القديم عند العرب وعند غيرهم.

إذاً، ما الذي يميز الحالة العربية؟ يتساءل الدكتور عزمي بشارة، ويجيب عن تساؤله بوجود استثنائية تعيق تشكل الأمة وتعوق الانتقال إلى الديمقراطية في الآن ذاته، وهو ما يسميه بـ«المسألة العربية».

وتتجلى الاستثنائية العربية أولا في أن القضية العربية لم تُحلّ كقضية قومية، ولا يمكن بناء نظام سياسي مستقر وديمقراطية بقضية قومية غير محلولة، ليس هذا فقط، بل إن شرعية الدول العربية القائمة لم تُحلّ بعد، ويمكن اعتبار الدولة البوليسية والحدود الموجهة ضد المواطن العربي نوعا من ردّة فعل على عدم شرعية الدولة، أو على الأقل على أزمة الدولة العربية، كما يمكن اعتبارها جزءاً من معادلة المجتمع القوي والدولة الضعيفة -ص170-.

ويعتبر المؤلّف أن القومية العربية قبل مرحلة بناء أمة المواطنين، هي حاجة عملية لتوحيد غالبية الشعب حتى في الدولة القطرية كي لا ينهار إلى طوائف وعشائر، وهي ليست مجرد إثنية، بل جامع ثقافي من الدرجة الأولى يقوم على عناصر موجودة مثل اللغة المشتركة والتعبيرات المختلفة عن تطلعات سياسية مشتركة لها تاريخ حديث وقديم، وحتى بعناصرها الرومانسية ليست القومية العربية مجرد حالة رومانسية، بل هي حاجة عملية ماسة وبراغماتية للوصول ليس فقط إلى مجتمع حديث، بل أيضا لتزويد المواطن بهوية ثقافية جامعة تحيّد غالبية الطوائف والعشائر العربية على الأقل عن التحكم بانتماء الفرد السياسي، وحتى ولم تقم على أساسها دولة عربية واحدة ¬فدرالية أو غير فدرالية¬ فان الدول العربية لا تستطيع الاستغناء عنها في عملية بناء مواطنة وأمة مواطنية للعرب وغير العرب، كما أنها تشكل أساسا لتعاون ووحدة دول عربية في المستقبل على نمط الاتحاد الأوربي.

وعليه فإن القومية العربية تملك بعدا ثقافيا وأخلاقيا، يتغلغل في الحياة العامة ومعاييرها والحيز العام ومقاييسه ومرجعياته الأخلاقية من عنوان الشعور بالواجب أي تحديد الجهة التي يشعر المواطن بالواجب اتجاهها، وتحديد حامل الحقوق، والفرق بين الحقوق وبين المكرمات السلطانية والامتيازات المتأتية عن العضوية في جماعات عضوية، وربما أدرك ساطع الحصري وقسطنطين زريق والرزاز وغيرهم من القوميين الأوائل هذا البعد، إذ رأوا أن أزمة المجتمعات العربية أخلاقية في جوهرها، وأن التجدد القومي يجب أن يرافقه تجدد أخلاقي، وان القومية هي استجابة إصلاحية للأزمة الأخلاقية، هي نصاب حضاري لا يتم له القيام إلا بإصلاح النفوس في صورة تسمح لها بالتحضر، وان إصلاح النفوس هذا إنما يتم بتمثل جملة من القيم الأخلاقية الباعثة على التمدن والمقومة له، وقد أدرك زريق مبكرا تاريخية القومية كظاهرة، وأهمية العنصر الحداثي فيها باعتبارها متجهة نحو المستقبل، رافضا الأفكار التي تشتق القومية من العنصر أو الجنس أو الدم، وحتى من التاريخ الذي يستخدم لتبرير قوميات تاريخية مثل الفرعونية والفينيقية والبابلية منفصلة عن البوتقة الحديثة ألا وهي القومية العربية، ونفى الحصري إضافة لنفيه دور الجنس والعنصر دور الدين كمركب أساسي في تعريف القومية العربية مثلا، وكلاهما شدّد على ضرورة التمييز بين الشعب العربي القديم والقومية العربية الحديثة، والتمييز بين العروبة والدين الإسلامي كدين.

لقد تم الانتقال من القومية الثقافية إلى السياسية عربيا، ولكن لم تتمكن القومية السياسية من تحقيق ذاتها والتحول إلى دولة قومية، ناهيك بأمة مواطنين، ومازالت القومية العربية، أكبر قومية معاصرة مرشحة لأن تتحول إلى «أمة€دولة» محرومة من حقها في تقرير المصير.

م الكتاب: «في المسألة العربية€مقدمة لبيان ديمقراطي عربي» يقع في 271 صفحة قطع كبير.
المؤلف: الدكتور عزمي بشارة.
الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2007

التعليقات