أن تكون عربيا في أيامنا

أن تكون عربيا في أيامنا
ما معنى أن تكون عربيا في أيامنا؟ سؤال يطرحه المفكر العربي الدكتور عزمي بشارة ضمن إشكالية تحديات تجديد الفكر القومي.

الكتاب يتألف من ثلاثة أقسام رئيسية، القسم الأول قضايا عربية ويناقش فيه الكاتب الفكر القومي والمواطنة الديمقراطية. القسم الثاني يناقش المتغيرات الأميركية في نهاية مرحلة الرئيس الأميركي جورج بوش، في حين يناقش الفصل الثالث القضية الفلسطينية بأبعادها الداخلية والخارجية.



قضايا عربية

يتساءل الدكتور عزمي بشارة ما الذي يميز الفكر القومي العربي؟ وسرعان ما يجيب بأن الاعتراف بوجود قومية عربية لديها الحق في أن تصبح أمة ذات سيادة أولا، والادعاء أن منطلق صياغة البرامج السياسية المشتقة عنه هو مصلحة للأمة ثانيا، هما ما يميز الفكر القومي العربي.

لكن الكاتب سرعان ما يؤكد أن هذين الأمرين غير كافيين لإدارة بلد، أو لتحديد موقف من الديمقراطية وحقوق المواطن والسياسة التعليمية.. إلخ، ويرى أن أفضل تعبير عن إرادة الأمة هو الديمقراطية، وأن الوجه الآخر لسيادة الأمة هو مبدأ المواطنة المتساوية، لماذا؟ لأن الفكرة القومية -والكلام للمؤلف- لا تنتج البرامج السياسية، فهذه المهمة تقع على عاتق حملة الفكرة القومية.

إن مهمة تطوير الفكر القومي العربي هي مهمة حسم موقفه إلى جانب الديمقراطية وحقوق المواطن الاجتماعية والمدنية، وهي مهمة تتضح من خلال الممارسة.

ويرفض مؤلف الكتاب تهمة الرومانسية التي توجه إلى دعاة القومية العربية نتيجة فشل الدول العربية في عملية بناء الأمة على أساس المواطنة، لقد تحولت الأمة التي كان يفترض أن تبنى على أساس الانتماء إلى الدولة إلى هوية قطرية فولكلورية ورومانسية مع محاولات تجذيرها تاريخيا في مهرجانات بابلية وفينيقية وفرعونية.. إلخ.
ويرى الدكتور بشارة أن الدولة العربية فشلت أيضا في تشكيل أمة مدنية على أساس تشكيل هوية منفصلة لهذا القطر أو ذاك، ونشأت بدلا من ذلك العشيرة والطائفة كضامن للهوية، وفي مثل هذه الحالة، حالة تشظي الدولة إلى عشائر وطوائف لم يعد ممكنا التعاطي مع القومية العربية كرومانسية إلا كسوء نية سياسي.

هنا يوضح المؤلف لنقاد القومية الفرق بين القومية وتجلياتها كثقافة وسياسة، وبين نظرية القومية التي تبحث في ماهية القومية، فالقومية العربية هي حاجة عملية لتوحيد غالبية الشعب، حتى في الدولة القطرية كي لا تنهار إلى طوائف.

وحتى بعناصرها الرومانسية تعتبر القومية حاجة ماسة في الوصول لا فقط إلى مجتمع حديث قائم على الانتماء الفردي، بل أيضا لتزويد المواطن بهوية ثقافية جامعة.

لا يقف عزمي بشارة عند هذا الحد، إذ يرى أن التطور التاريخي منذ عام 1967 وما أضيف إليه من عوامل إقليمية، وتدهور المشروع القومي إلى أيديولوجية تبريرية لأنظمة لا تطرح إلا مسألة بقائها في السلطة، دفع خصوم القومية العربية إلى إنكار وجود قومية عربية، ثم ضاق الهامش حتى بات كل من يعرف نفسه كعربي في نظرهم قوميا عربيا.

وقد أدى انحلال المشاريع القطرية إلى تركيبات سكانية طائفية وعشائرية إلى المطابقة بين العروبة والهوية العربية، فقد بات التشديد على العربية في وجه الطائفية والعشائرية موقفا عروبيا، أن تكون عروبيا يعني في أيامنا أن تتخذ الهوية العربية نقيضا لتسيس الهويات، وهذا يعني وفق مناهضي القومية العربية أن كل عربي عروبي.

يرفض عزمي بشارة هذا التبسيط، ويرى أن معنى أن تكون عروبيا يعني أن تعرف نفسك على أنك عربي في فضاء الانتماءات السياسية، لأن القومية العربية ليست أيديولوجية شاملة، بل انتماء ثقافي يدعي العروبي أنه أصلح من الطائفة ومن العشيرة لتنظيم المجتمع.

أن تكون عروبيا لا يعني أن تجعل الانتماء إلى القومية أساسا للمواطنة، بل يعني أن العروبة أساس حق تقرير المصير وبناء الدولة.

ولأن الاستعمار أيضا وإسرائيل قد حددا موقفا ضد العروبة هوية لشعوب المنطقة، وموقفا ضد الاتحاد العربي، ومن السطو المسلح على فلسطين، فأن تكون عروبيا في أيامنا يعني بالضرورة أن تدعم المقاومة.


المتغيرات الأميركية في نهاية مرحلة بوش


بعد نهاية الحرب الباردة بين المعسكرين بدأ نشطاء منظمات المجتمع المدني في العالم الحديث عن مبادئ عالمية، مثل الانصياع للقانون الدولي ومبادئ حقوق الإنسان، وانتشرت أدبيات تتحدث عن نهاية سيادة الدولة، وهنا بدأ الحديث أيضا عن إقامة محكمة الجنايات الدولية، وتوسيع معاهدة منع التجارب النووية.
ويرى الكاتب أنه في إطار هذه اليوتوبيا بدا أن البعض في المنطقة العربية يراهن على فقدان إسرائيل لوظيفتها بعد نهاية عالم القطبين، لكن الرهان العربي سرعان ما فشل بعد تحول المفاوضات إلى رهينة موازين القوى، وأسيرة التحالف الأميركي الإسرائيلي.

ويذهب الدكتور بشارة إلى أن النظرة اليوتوبية هذه تضمنت معسكرا منتصرا يرى نفسه محقا وخيرا بالطبيعة، وأن قيمه تستحق أن تعمم على الإنسانية جمعاء، ولكنها تضمنت أيضا أن يطرح القوي نفسه على أنه شرطي دولي.

ويؤكد المؤلف أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر زودت المحافظين الجدد والليبراليين بالمبررات الشرعية للخروج إلى الحرب، فكلاهما لديه تصور لدور ورسالة أميركية عالمية.
ومع ذلك هنالك فرق جوهري يمثله المحافظون الجدد، إنه انتزاع اليمين لفكرة اليوتوبيا والنظريات الخلاصية شبه الدينية من اليسار، والعمل الفعال لاستخدام العنف لتنفيذها وتغيير المجتمعات بحجة ديمقراطية المظهر، وهي أن المجتمعات متساوية ومتشابهة، ولا يوجد مجتمع وثقافة لا يتلاءم مع الديمقراطية.

ويؤكد المؤلف أن الأدوات والأهداف التي وضعت أدت إلى كوارث، وهذه الكوارث هي التي فصلت بين المعسكرين في الولايات المتحدة، وأدت إلى تراشق الاتهامات والعودة إلى الحالة العادية.

فانهيار الدولة في العراق وتطور المقاومة فيها، والنفور الإقليمي والدولي من نتائج هذه الحرب، وفشل ما سمي بالحرب على الإرهاب... إلخ كل هذه العوامل أدت إلى خلاف قوي داخل أميركا، وإلى تعديل هذه السياسات لا إلى صحوة ضمير.

وطيلة عام الانتخابات الأميركية 2008 شهدت المنطقة العربية والشرق الأوسط عموما تراجعا في السياسة الهجومية لأميركا وحلفائها، وبدأ هجوم سياسي مضاد من قبل خصوم سياستها المحليين، فقد توجت خسارة إسرائيل عام 2006 بإتمام عملية تبادل الأسرى، وفي العام نفسه أعلنت إيران أن استمرارها في تخصيب اليورانيوم غير خاضع للمفاوضات، وبدأت سوريا التي حوصرت غربيا بفك عزلتها.

يلخص عزمي بشارة التحول في السياسة الخارجية من مرحلة بوش إلى مرحلة أوباما بما يلي، الموضوع الأساسي الذي تخلل مجمل معزوفة أوركسترا السياسة الخارجية الأميركية مؤلف من جملتين: الحرب على الإرهاب (من ليس معنا فهو ضدنا)، أما في مرحلة أوباما فالدبلوماسية قبل الوسائل القتالية (من ليس معنا يمكن أن يصبح معنا)، يبقى من يستعصي على الاحتواء فيكون قد عزل نفسه وحوصر قبل ضربه.

ويرى المؤلف أن المؤسسة الحاكمة الأميركية تستقر في مرحلة أوباما، وذلك من دون تثوير للعالم ودون ثورات ديمقراطية، وربما تساعده الأزمة الاقتصادية على تنفيذ الأجندات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي يريد.

فلسطين والقضية الفلسطينية


يرى الدكتور بشارة أن القضية الفلسطينية تقع على تقاطع مسألتين خطيرتين، المسألة العربية من ناحية، وهي المسألة القومية الإقليمية الرئيسية التي تفرز تعقيدات لا حد لها من الصراعات بين وداخل البلدان العربية، وتستخدم فيها القضية الفلسطينية وسيلة وليس هدفا.

والمسألة اليهودية العالمية من ناحية أخرى، وهي المسألة التي صدرت وما زالت تصدر إلى منطقتنا من أوروبا والتي تمنع رؤية قضية فلسطين كقضية كولونيالية، وتجعل إسرائيل جزءا من أوروبا أو الغرب، فقط حين صارت خارجها في الشرق.

من هاتين المسألتين تنبع خصوصية تعقيد القضية الفلسطينية، ومن سخرية التاريخ أن العداء للسامية رفض اليهود كجزء من أوروبا، ولكي يقبلوا كجزء منها، كان عليهم أن يخرجوا منها.

والاهتمام الدولي بقضية فلسطين ليس عنصر قوة، بل عنصر ضعف، لأنه يعكس اهتماما خاصا بالتخلص من المسألة اليهودية المشكلة للهوية الأوروبية، وتحويل عبئها إلى العرب، أما عنصر القوة فيها فهو الاهتمام العربي إذا استثمر وتحول إلى فعل حقيقي على الساحتين الإقليمية والدولية.

لكن قضية فلسطين، ولأنها تحظى بإجماع الشعوب المستعمرة سابقا وخاصة العربية، فقد تحولت إلى قناة ومتنفس للتعبير عن معاناتهم بشكل عام، فحملت القضية الفلسطينية قدرا من الرمزية وتحولت في النهاية إلى مصدر رزق، في إفساد الحركة الوطنية، وفي نشوء الغرور السياسي الفلسطيني، وفي وجود وكالات مصالح ساهمت في إعطاب جيل من قيادة الشعب الفلسطيني.

والحقيقة أنه جرى في العقدين الأخيرين تغيير جذري في علاقة الدولة العربية مع فكرة وجود إسرائيل والتسوية، ومع فكرة مقاومة إسرائيل، فبعد إقفال آخر جبهة للمقاومة الفلسطينية في الخارج (الجبهة اللبنانية) انتقل مركز ثقل حركة التحرر الفلسطينية إلى الداخل، إلى الانتفاضات.

ولم يكن هذا الانتقال مقصودا كما يروج مؤيدو التسوية، بل كان قسريا بعد أن قمعت إسرائيل المقاومة من الخارج، لتختزل القضية الفلسطينية بعد ذلك في نظر منظمة التحرير الفلسطينية إلى الاعتراف الإسرائيلي والدولي بها ممثلا للشعب الفلسطيني في المناطق المحتلة عام 1967، وكانت الانتفاضات في نظرها أداة في سبيل ذلك، وليست أداة للتحرير.

ويتابع الدكتور بشارة فيرى أن هذا الانتقال من الخارج إلى الداخل لم يؤد إلى إستراتيجية موحدة في الداخل، بل أدى إلى شرخ لأنه انتهى إلى سلطة تحت الاحتلال، وإلى فقدان عناصر الوحدة الوطنية التي قامت عليها حركة التحرر الفلسطينية، وكان أخطر ما في الأمر أنه ليس تعددية في إطار حركة التحرر، بقدر ما كان انقساما حول الإستراتيجية ذاتها.

وما إن أصبح حلم حركة التحرر الفلسطينية هو اعتراف إسرائيل بها، حتى تحولت إلى طرف من بين طرفين، أحدهما طرف افتراضي وهو دولة نظرية تسعى إلى أن تصبح دولة حقيقة، وفي هذه الأثناء خسرت عالم حركة التحرر، ولم تربح عالم الدولة، وأخطر ما في هذه المرحلة هو حالة الانحلال والارتباك القيمي والثقافي التي تنشرها.

تحدي الوحدة الوطنية الفلسطينية اليوم هو تحدي تحول الانقسام الجغرافي إلى انقسام سياسي، ولا بد أن تتضمن الوحدة الوطنية الاتفاق على إدارة وبناء المجتمع، وإعادة بناء منظمة التحرير، وتنظيم المقاومة، والعمل السياسي في الخارج.

لقد وقعت حركة التحرر الوطنية الفلسطينية في أخطاء تاريخية منذ تبنت فكرة الدولة الفلسطينية:
- تحول الاعتراف الإسرائيلي بها إلى إنجاز تجري مقايضته بتنازلات سياسية، وذلك قبل اعتراف إسرائيل بحقوق الشعب الفلسطيني.

- قبول الخطاب الحقوقي بدل الخطاب السياسي، وتحويل معاناة الناس نتيجة المقاومة ورد إسرائيل على المقاومة إلى المسألة الرئيسية، وليس مدى ما تنجزه هذه المقاومة فعليا.

- تقسيم قضية الشعب الفلسطيني إلى قضايا، فالدولة واللاجئون قضيتان منفصلتان، الأولى مسألة تفاوضية، أما الثانية فلا.

- قبول فكرة السلطة دون سيادة، وفي ظل الاحتلال والاستمرار في التفاوض بمنطق الرهينة.



"الجزيرة نت"



التعليقات