حول تحديات تجديد الفكر القومي العربي: المواطنة الديمقراطية وجماعات الهوية والتوافقية (2-2)../ د.عزمي بشارة

حول تحديات تجديد الفكر القومي العربي: المواطنة الديمقراطية وجماعات الهوية والتوافقية (2-2)../ د.عزمي بشارة
انتشرت في السنوات الخمس الأخيرة عربيا ظاهرة المجاهرة في تسييس الانتماءات الطائفية والمذهبية والعشائرية وغياب الحرج عند تسييسها كجماعات هوية. ولبنان الذي تسمع من داخله شكاوى من تدخل الدنيا في شؤونه عندما يلزم، وتتمتع وتستمتع نخبه بمثل هذا التدخل عندما يلزم أيضا، يتدخل هو الآخر من حيث يدري ولا يدري في الثقافة السياسية للدول الأخرى عبر إعلامه وإعلامييه وسياسييه وتقليعاته. فهو إضافة لنشره ثقافة حوار سياسي (في زمن السلم الأهلي على الأقل) أرقى مستوى من كل الدول والمجتمعات العربية المحيطة واستعراضه الصحي لبعض الوعي المدني (المواطني إذا صح التعبير) الذي يشمل ثقة فردية بالنفس، بات يستخدم دون حرج ويجاهر بشكل غير مسبوق بمصطلحات الطائفية السياسية التي كان الفرد المتوسط يجهد في إخفائها. وهي تبث عربيا فيستمع الإنسان في فلسطين وغيرها عن “الموقف المسيحي” أو “الالتفاف الشيعي” أو توحيد السنة” خلف قيادة واحدة، وعن “النائب المسيحي” فلان، و”الوزير السني” فلان... تقال بأناقة وهدوء. وهيمنة لبنان في نشر التقليعات تسري كما يبدو أيضا على التصنيفات السياسية و”الموضة” السياسية.

لا شك أن الطائفية والعشائرية موجودتان في حالة كمون في كل بلد عربي تقريبا، ولكن الطائفية السياسية كظاهرة ونظام سياسي قائمة في لبنان فقط، وفي العراق أيضا تفترض الطائفية كفرضية سياسية في فهم بنية العراق السياسية والاجتماعية ويجري تطبيقها كمنهج احتلالي مثل نبوءة تحقق ذاتها. ومن خلال خوض الرأي العام العربي بكثافة في قضايا العراق ولبنان يجري تسويق الطائفية السياسية وثقافة تحويل الروابط الوشائجية إلى هويات سياسية عربيا، فتنتشر مثل عدوى فتاكة.

وتعتبر التجربة العراقية الحالية مشكلة للوعي الطائفي السياسي العربي أكثر من حالة لبنان لأنها كانت دولة يهتدي نظامها بالقومية كإيديولوجية. ولأن حالة لبنان على إيجابياتها وسلبياتها كانت تعتبر استثنائية في الذهن العربي، وتكاد استثنائيته تكون مفروغا منها. ولكن التجربة العراقية أخطر لأنها تشكل هذا الوعي السياسي الطائفي وتنشره مجتمعيا في العراق نفسه، حيث لم تكن الطائفية السياسية منتشرة كوعي سياسي، وتبثه عربيا في دولة كان نظامها يتنبى القومية كإيديولوجية.

ورغم كل النفور من دموية التجربة العراقية إلا أن التقسيم الطائفي للمجتمع عدوى تلوث ويصعب التحرر منها بعد الإصابة بها. فبعد أن تكسو غشاواتها العيون تزداد التهابا بعد فركها، ويُرى كل شيء من خلالها ويتلون بلونها. وحتى الحلول المقترحة لتجاوزها تُبَث بلغةٍ، ولكنها تستوعب من قبل المصابين بالعدوى بلغتهم. فيتم تحويل السلم الأهلي مثلا إلى تعايش بين الطوائف، والمساواة إلى محاصصة، وفي أفضل الحالات إلى طائفية توافقية.

والتوافقية تعددية هوية، كما أنها تشكل حماية من الاستبداد، وتحتوي مجموعة آليات رقابة وموازنة. ولكنها ليست ديمقراطية بالمعنى الحديث، اي ليست ديمقراطية ليبرالية قائمة على المواطنة. لأنها تُنصب فوق الأمة وفوق المواطنة جماعات هوية مسيسة، وتفقد المواطنة الفردية معناها في هذه الحالة، كما يفقد التنافس الديمقراطي معناه ويتحول من تنافس برامج شاملة لمجمل مصالح الوطن الى تنافس داخل كل طائفة أو مذهب على من يمثلها في مقابل الطوائف الأخرى عند تقاسم الكعكة الوطنية. وعندما تطرح مواقف تمثل مصالح مفترضة لكل جماعةِ هوية كما تمثلها نخبها، لا ينشأ بينها تنافس أو حوار، بل إما صراع نفوذ أو توافق من نوع المحاصصة، إذ لا توجد أرضية مشتركة للتنافس، فهي لا تمثل مواقف من نفس الموضوع، لكي تتنافس فيما بينها، بل هي تمثل أصلا هويات جزئية مختلفة.

وقد تطور الفكر الديمقراطي، وحتى الليبرالي منه، بحيث بات يعترف بجماعات هوية ذات حقوق جماعية وإدارات ذاتية وغيرها، ويشمل ذلك الطوائف والمذاهب وغيرها. ولكن هذه لا تقوم على مستوى الديمقراطية الأكثرية القائمة على المواطنة، بل على مستوى آخر بعد أن أرسيت المواطنة الفردية وحقوقها كأساس، ويعتبر الحقوق الجماعية مشتقة من حقوق المواطن الفرد أن ينتمي إلى جماعة هوية. وهذه لا تتوافق في عملية حُكمٍ، بل تمُنَحُ من قبل الحُكم ودستوره الديمقراطي كحقوق إدارية جماعية. وهذه حقوق مدنية لا علاقة لها بحسم مسألة السلطة.

مصيبة أن يستنتج ديمقراطيون عرب من التجربة العراقية ضرورة اتباع النظام التوافقي لأن هذه التجربة أثبتب أن ولاء العربي هو أولا للجماعة العضوية المباشرة، ولأنه في أي انتخابات ديمقراطية سوف يقرر أن يصوت بموجب الانتماء وجماعة الهوية. وهذا طبعا لا يؤسس لنظام سياسي حزبي نسبي. كما أنه يحول الأكثرية الى أكثرية طائفية أو مذهبية أو عشائرية أو إلى تحالف جماعات يحرم جماعات أخرى الى الأبد من المشاركة في الحكم. فيحولها في الواقع، أو في تصورها للواقع، أو في كليهما، إلى أقليات مضطهدة.

ولكن التجربة العراقية هي تجربة في دك دولة من الخارج ومواجهة مباشرة بين المحتل الاجنبي والمجتمع العاري من الدولة (ومن حركة تحرر). والمجتمع المجرد او المتجرد من الدولة لا ينتج ديمقراطية ولا مواطنة ولا مجتمعا مدنيا، بل ينتج “حرب الكل ضد الكل”، وجماعات مباشرة أولية عضوية يحتمي بها الأفراد. ولا تثبت هذه التجربة عدم إمكان بناء الديمقراطية على أساس المواطنة، بل يثبت أن الدولة العربية لم تنجز مهمة بناء الأمة الوطنية. وهي لم تنجح في بناء أمة لا على أساس قومية محلية إثنية بديلة للقومية العربية، ولا على أساس المواطنة المشتركة في الدولة.

كما تثبت هذه التجربة أن الاحتلال من الخارج تحت شعار الديمقراطية وفي عملية تصادم مع عملية بناء الأمة لا ينتج ديمقراطية.

والحديث عن فشل الهوية القومية العربية في تشكيل وفاق وطني وضرورة إقصاء الهوية القومية العربية إلى مستوى الهويات الطائفية التوافقية هو من نفس نمط الاستنتاج. فما فَشِلَ وثبت فشله هو إقصاء الهوية العربية من جهة، أو تحويلها إلى إيديولوجية من جهة أخرى، بدل التعامل معها كأساس لبناء الأمة في أول مراحل الاستقلال. وما فشل هو تهميش هذه القومية وتحويلها إلى جماعة هوية.

أين قامت دولة مواطنية دون استنادٍ لقومية كمرتكز لهوية الدولة الحديثة؟ مثل هذه الدول قامت في الولايات المتحدة وأستراليا وكندا. وهي بحكم تعريفها دول مهاجرين استيطانية. وهم بمعنى ما مهاجرون من قومياتهم إلى خلق هوية جديدة على أساس الانتماء إلى مجتمع المهاجرين كأمة مواطنين. أما النموذج الفرنسي فيعتمد المواطنة نظريا كأساس في بناء الأمة. ولكن التجربة التاريخية تثبت ان هذا النظام يقوم ايضا على تصور، وكل تصور هو مصنوع ومتشكل ومتغير ومتطور، لما تعنيه الهوية الفرنسية. وتعاد بموجب هذا التصور كتابة تاريخ البلاد كتاريخ قومي كما في حالة أي قومية أخرى، بما فيها القوميات المدعى انها “ماهوية” مثل القومية الألمانية والإيطالية والبولندية.

أما الدول الاستيطانية التي تقوم على المواطنة فقط وليس على القومية أو غيرها كأساس للانتماء الى الامة، فقد طورت هي الأخرى هويات وسياسات هوية شبيهة بالقومية من نوع “نمط الحياة الأمريكي” و”الانجلو سكسونية” المدعاة كهوية أمريكية أصيلة مقابل هويات تعتبر دخيلة مثل اللاتينية (الهسبانك) والصينية عند هنتجتون مثلا. ليست القومية العربية “الماهوية” الوحيدة بين القوميات. فألمانيا لا تكون ألمانية وفرنسا لا تكون فرنسية إذا لم يعش فيها أكثرية فرنسية أو المانية. ولكن كلنا يعرف ماذا تعني كلمة أكثرية. وهذه المعرفة لا تكفي ولا تعفي من تعريف او تصور أو شعور أو انتماء لما تعنية كلمة “المانية” أو “فرنسية”. والنقاش دار وما زال دائرا حول هذه التعريفات، وهذا يعني بالطبع ان التعريفات متغيرة ومتبدلة ومتطورة ومتشكلة ومصنوعة إنسانيا، ولكن هذا يعني ضرورة توفر معنى لهذه الكلمات، وهذا المعنى المتخيل مهم إلى درجة أنه مُسَلمٌ به ومتنازع عليه في آن.

ومهما ادعى الفرنسيون والألمان واليابانيون، فإنهم لم يتخلوا عن تصور ل”نحن” متخيلة تكتب بموجبه برامج التدريس وتعاد كتابة التاريخ، وتراجع هذه الكتابة، وتدرس وتمثل بموجبها الملاحم على المسارح وفي المسلسلات التلفزيونية وتنتقد اساطيرها من قبل المؤرخين وهكذا. لا تصح فرنسيةُ فرنسا دون أكثرية فرنسية، ولكنها لا تصح دون ان تكون هذه الأكثرية فرنسية...أين التعريف “الماهوي” من غير “الماهوي” هنا؟

القضية التي تميز العرب هو ليس ماهوية القومية خلافا لعدم ماهويتها (أي تحديد هوية البلد بموجب الأغلبية التي تعيش فيه) عند غيرهم، فلم يتحرر من هذه الماهوية لا جيفرسون ولا بوش ولا تشرتشل ولا مايكل براون ولا ساركوزي.

يكمن الفرق بين العرب وغيرهم في عرقلة عملية بناء الأمة وتحييد دور القومية والتعويض عنها بإيديولوجية قومية، وعدم قيام دولة ديمقراطية.

والتخلي عن القومية العربية القائمة في وجدان الناس وثقافتهم ومتخيلهم واهتماماتهم كانتماء عربي واهتمام بالشأن العربي ارتياحا او تذمرا، هو تخل عن طاقة وحدوية علمانية حداثية من الدرجة الاولى. ولا معنى للنقاش هنا هل فهمنا للقومية العربية ماهوي أم غير ماهوي؟ فكل هوية هي هوية مصنوعة ومتشكلة، وهي ماهوية في مرحلة معينة قبل ان تتغير ويعاد تشكيلها.

السؤالان الأهم هما: أولا، هل يتم تبني القومية كإيديولوجية تقدم حلولا، من نوع العروبة هي الحل على نمط الإسلام هو الحل؟... فهذا هو التوجه الذي فشل، لأنه قام كرد فعل إيديولوجي على واقع التجزئة . القومية العربية هوية حداثية تشمل تسييسا للانتماء الثقافي، وتشكل جماعة متخيلة مثل كل القوميات الحديثة. ولكنها كإيديولوجية تقع في خطر الفكر الشمولي مثل إيديولوجيات قومية أخرى، تحول القومية الى مجرد هوية وتعفي نفسها من تقديم أفكار وبرامج سياسية اقتصادية واجتماعية للدول العربية القائمة. يمكن ان يكون القومي العربي ديمقراطياً أو فاشياً، يسارياً أو يمينياً، ولا تعفيه القومية من اتخاذ موقف في قضايا البلد الاجتماعية والمشاكل التي تشغل المواطنين. وثانيا، هل تفسح القومية المجال بعد تثبيت قومية الأغلبية في الدولة أن تكون المواطنة أساس العلاقة مع الدولة، اي هل تسمح بالفصل بين الانتماء للقومية والانتماء للدولة. لقد سبق أن تجرأنا على استخدام عبارة الفصل بين القومية والدولة، والدولة/الأمة، على نمط الفصل بين الدين والدولة، كمقدمة ضرورية لقيام دولة المواطنين الديمقراطية. (ذكرنا ذلك قبل أكثر من عشر سنوات وبحثناه بتوسع في كتاب المجتمع المدني- دراسة نقدية، كما لجأنا إلى الفصل بين أمة المواطنين والقومية، واستخدمناه ايضا في نقد الصهيوينة الكولونيالية).

ولكن هذه العبارة وهذه التعريفات ليست ما قبل قومية تساهم في تفتيت المجتمع الى طوائف وعشائر تتصارع وتتوافق، بل هي ما بعد قومية، أي تبنى على مساهمة القومية التاريخية في تثبيت وحدة الأكثرية في الدولة ما يسمح بتعددية مواقف ( وليس هويات) ديمقراطية فعلية داخلها، وتوسع مفهوم الأمة حال قيام الدولة ليشمل كافة المواطنين بغض النظر عن قوميتهم طالما تحقق حق تقرير المصير للقومية.

إن من يتنازل عن القومية العربية بحجة انها هوية أخرى مثل الهوية المذهبية والطائفية وغيرها مدعيا انها يجب أن تفصل عن الدولة مثل الهوية الطائفية والمذهبية والعشائرية، لا يميز حداثية القومية، ولا يرى أنها جماعة يمكن تخيلها بأدوات الحداثة. فهي ليست جماعة هوية مباشرة. وهو بتحييدها يحرم صيرورة التطور من عنصر أساسي في تشكل الدولة الحديثة ومرحلة مهمة في عملية بناء الأمة وصولا إلى فصل القومية عن الدولة في أمة المواطنين.

التعليقات