الموصل الصامتة: المواصلة يخشون على لهجتهم من الضياع

يتحدث أهالي الموصل، على مدى قرون طويلة، لهجة فريدة من اللغة العربية أثراها تاريخ المدينة الطويل كمفترق للطرق الحضارية، وهي لهجة رخيمة يخشى كثيرون الآن ضياعها بعد سنوات من الحرب والنزوح.

الموصل الصامتة: المواصلة يخشون على لهجتهم من الضياع

الموصل (أ ب)

يتحدث أهالي الموصل، على مدى قرون طويلة، لهجة فريدة من اللغة العربية أثراها تاريخ المدينة الطويل كمفترق للطرق الحضارية، وهي لهجة رخيمة يخشى كثيرون الآن ضياعها بعد سنوات من الحرب والنزوح.

جزء كبير من مدينة الموصل القديمة، حيث يتركز المتحدثون بهذه اللهجة، تم تدميره بالكامل في الحرب ضد تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)؛ وقتل الآلاف من السكان خلال شهور من القتال العنيف، فضلا عن فرار عشرات الآلاف، آخذين معهم لهجة المدينة المحلية وذكرياتهم عن ماضيها العالمي.

والآن يخشى العديد من المواصلة (أهالي الموصل الأصليين) على لهجتهم من الضياع، مثلها مثل الكثير مما فقد من المدينة ذاتها.

وفي هذا السياق، قالت شهد وليد (26 عاما) من وسط باحة بيتها الحجري بالقرب من أنقاض مسجد النوري، وهو معلم من أهم معالم المدينة، يعود تاريخه إلى 850 عاما مضت، ودمره المتشددون أثناء انسحابهم في صيف 2017، "حوالي 90% من الذين فروا من المدينة القديمة يتحدثون اللهجة المصلاوية. الأجيال القادمة لن تعرف اللهجة المصلاوية وستتحدث بلهجات أخرى".

شهد وليد (أ ب)

وشهد هي واحدة من بين عدد متضائل من الشباب الذين ما زالوا يتحدث اللهجة المصلاوية باستمرار، على الرغم من أنها نشأت في الجزء الشرقي من المدينة الذي نجا من أسوأ دمار، تتذكر أنها كانت تتحدث باللهجة المصلاوية مع جدها وأصحابه الذين كانوا يعيشون في البلدة القديمة.

وبالرغم من أن اللغة العربية الفصحى هي ذاتها من المغرب حتى الخليج العربي، لكن اللهجات المحلية تختلف اختلافا بينا من بلد لآخر وأحيانا من مدينة لأخرى. ويمكن أن تمتد الفروق إلى ما هو أبعد من النطق إلى المفردات الأساسية والأشكال. تختلف بعض اللهجات إلى حد كبير، لدرجة أن المتحدثين الأصليين قد يلجؤون إلى اللغة الإنجليزية أو الفرنسية، للتواصل مع بعضهم البعض.

تاريخ صاخب، ولهجة ثرية

وتستعير اللهجة المصلاوية كلمات من اللغات التركية والفارسية والكردية، ما يعكس التاريخ الصاخب للموصل وسهول نينوى. وتتضمن اللهجة المصلاوية نطق حرف القاف الكلاسيكي، لكنه يصدر من أعماق الحلق، وبدلا من نطق حرف الراء كالعربية ينطق أهل الموصل الراء قريبا من حرف الغين كما ينطقه اليهود العرب أو الفرنسيين.

وفي اللهجة المصلاوية، تنطق القنطرة بالقنطغة، والمنارة... مناغة، أما الدرب الضيق فيقال عنه عوجايي، وكرة القدم طابي، وهي كلمات قد تبدو غريبة لشخص من بغداد، على سبيل المثال. وعادة ما يسخر العراقيون من مناطق أخرى من اللهجة الموصلية ما يدفع بعض المواصلة إلى التحدث بلهجة أخرى مع الغرباء حتى لا يكونوا مثار سخرية أحد منهم.

ويعود تراجع استخدام هذه اللهجة إلى عقود من الزمان، حيث شهدت الموصل وأهلها صراعات سبقت سيطرة التنظيم الإرهابي على المنطقة في عام 2014، حسبما يقول الباحث العراقي في جامعة نيوكاسل، عبد الكريم ياسين أحمد، وهو متخصص في تدريس هذه اللهجة.

وفي أوائل القرن العشرين، كانت الموصل والمناطق المحيطة بها موطنا للعرب والأكراد والآشوريين والتركمان وأعراق أخرى، حيث كان يعيش مسلمون ومسيحيون ويهود وأقليات أخرى جنبا إلى جنب ويتحدثون اللهجة المصلاوية.

غادرت الجالية اليهودية الموصل في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، خلال أحداث النكبة الفلسطينية والإعلان عن "قيام إسرائيل"، فيما ظلت الطائفة المسيحية في شمال العراق في اضمحلال مستمر منذ عقود، حيث فرت العائلات من الحرب والهجمات المتطرفة أو سعت للحصول على فرص أفضل في الخارج.

وبداية من ستينيات القرن الماضي، أطلقت حكومات عراقية متعاقبة حملات تعريب في الشمال، ما أدى لتوافد أعداد كبيرة من العرب من مناطق أخرى، وجلب الوافدون الجدد لهجاتهم العربية الريفية والبدوية معهم، مما أدى لإضعاف اللهجة المصلاوية.

يقلقلون مثل الطيور

وفي الآونة الأخيرة، أجبر الجفاف الشديد، الكثير من السكان على ترك الريف والذهاب إلى هناك. "مشكلتنا أننا اختلطنا للغاية"، وفقا لما يقوله سعد محمد جرجس (59 عاما)، بينما كان يسير وسط أطلال منزل عائلته الذي شيد منذ قرون على سفح تلة قرب نهر دجلة.

سعد محمد جرجس (أ ب)

ويضيف "في عهد صدام حسين، أصبح سكان القرى والريف ضباطا في الجيش والشرطة. وعندما وصلوا إلى الموصل، أثروا على لهجتنا".

في حين، ولد محمود ياسين (25 عاما)، في البلدة القديمة بالموصل، لكن أسلافه جاؤوا من مناطق ريفية؛ هو لا يتحدث المصلاوية، ويقول "عندما يتحدث أصدقاؤنا المصلاوية بطلاقة، لا نستطيع فهمهم، أقول ما له يتحدث كالدجاجة؟ إنهم يتحدثون مثل الدجاج، أو يقلقلون مثل الطيور. بعض الناس يقولون إنها تشبه أحاديث النساء".

كان عدد سكان البلدة القديمة في المصل عام 2014، يصل إلى أكثر من 60 ألف شخص؛ قتل تنظيم "داعش" الآلاف خلال حكمهم للمدينة الذي استمر ثلاث سنوات، عبر الإعدامات العلنية الشاملة. كما حولت الغارات الجوية للتحالف الذي تقوده السعودية، أحياء بأكملها إلى مشهد مروع من الأنقاض والدمار.

ومن بين عشرات الآلاف الذين فروا، عادت أعداد بسيطة فقط. الكثير ليس لديهم ما يعودون من أجله، في حين يخشى آخرون انتقام قبل القوات العراقية.

"لم نتأثر بهم مطلقا"

ولدت نوال فتحي (70 عاما) ونشأت في المدينة القديمة، لكنها فرت من القتال وتقيم الآن في الضواحي الغربية للموصل. وقالت إنها لا تزال تذكر زيارة شيوخ العشائر للبلدة القديمة خلال طفولتها وحتى الإقامة في منزل عائلتها، لكنها تصر، بشيء من الفخر، أنه لم يكن لهم تأثير على الثقافة المحلية.

نوال فتحي (أ ب)

وقالت مبتسمة "لم نتأثر بهم مطلقا"، لكن اللغة باتت الآن في طريقها إلى الاختفاء شأنها شأن كل شيء آخر، وتابعت "لقد تغيرت عقول الشعوب. لقد غيروا كل شيء: غيروا ملابسهم، خطبهم. يجب ألا نكذب على أنفسنا. لن نستطيع إعادتها مرة أخرى".

على الرغم من المشهد القاتم لما آلت إليه اللهجة المصلاوية، يرى أحمد، الباحث، بصيصا من الأمل. ففي مقهى القنطرة الثقافي على الجانب الآخر من جامعة الموصل، يتجمع الطلاب الصغار حول قطع أثرية من ماضي المدينة مرتبة في جميع أنحاء المكان. بالقرب من المدخل، تباع القمصان تحمل العبارات المصلاوية الشهيرة، "الناس في الموصل يشعرون الآن بالحاجة إلى إبراز تميز الهوية، واللغة جزء من هذه الهوية".

التعليقات