د. أيمن إغبارية: المطلوب بلورة مشروع سياسي ثقافي جامع

حوار حول حضور/ غياب الأكاديمي في/ عن ساحة الفعل المجتمعي ودور الحالة السياسية الخاصة التي يعيشها الفلسطينيون، وغياب المؤسسات الأكديمية الوطنية، بما يعنيه من ارتهان الأكاديميين الفلسطينيين وظيفيا ومعيشيا للأكاديميا الإسرائيلية

د. أيمن إغبارية: المطلوب بلورة مشروع سياسي ثقافي جامع

جامعة حيفا

* هناك محاولة لخلق "الأكاديمي التقني" والسياسي الوسيط بين الجماهير والدولة
* مؤسسات المجتمع المدني ليست قطاعا ثالثا ويجب ان تكون في تصادم مع السلطة
* مجمعنا يعاني من غياب مشروع ثقافي وطني جامع


في وصفه لحالة الاغتراب التي يعيشها الأكاديمي العربي في الداخل الفلسطيني، يكتب د. أيمن إغبارية، "قد يحدث ذات مرّة، وقبل أن تنام وأن تعدّ مقالاتك في المجلّات المحكّمة كي تتأكّد من أهليّتك للدرجة العلميّة القادمة، أن تقرأ صفحات من رواية إبراهيم نصر الله ‘زمن الخيول البيضاء‘، أو من رواية رضوى عاشور ‘الطنطوريّة‘، فيصيبك الأرق وتتمنّع عليك شاشة الحاسوب في الصباح التالي".

ويواصل، "هل بإمكانك أن تكتب بعد هذه الليلة بحثًا عن التعليم، أو العنف، أو الصحّة، أو القانون، من دون التعالي والتعامي عن التاريخ الفلسطينيّ المنكر، والجغرافيا الفلسطينيّة الممزّقة، والسياسة الفلسطينيّة المنقسمة، والخصوصيّات الثقافيّة، والدينيّة، والجهويّة المنكفئة على نفسها؟ هل بإمكانك أن تكتب ‘بتجرّد‘ وَ‘مهنيّة‘ وكأنّه لا صوت لك ولا هواجس، وكأنّه لم تصحب ‘الطنطوريّة‘ في رحلتها، ولم يملأ قلبك صهيل الخيول البيضاء؟ كيف يمكنك أن تكون باحثًا فلسطينيًّا في جامعة إسرائيليّة؟ إلى أيّ حدّ ستتنازل عن صهيلك أنت؟ إلى أيّ حدّ تستطيع أن تقهر نفسك؟".

د. أيمن اغبارية*

وفي ديوانه الشعري "ملاقط غسيل" يقول د. إغبارية، "هما شجرتان تجلس أنت فوق واحدة وأجلس أنا تحت الأخرى"، ربما في تعبير مجازي لمن يقبع في البرج العاجي ومن تقف رجلاه على الأرض، وذلك في توصيف لإشكالية الأكاديمي المنقسم بين الأكاديميا الإسرائيلية التي تحاصر عقله بأسوارها "العلمية" و"الموضوعية" و"المهنية" وبين بيئته الاجتماعية وانتمائه الثقافي والوطني.

وحول حضور/ غياب الأكاديمي في/ عن ساحة الفعل المجتمعي ودور الحالة السياسية الخاصة التي يعيشها الفلسطينيون عموما وفي أراضي الـ48 بشكل خاص، وغياب المؤسسات الأكديمية الوطنية، بما يعنيه من ارتهان الأكاديميين الفلسطينيين وظيفيا ومعيشيا للأكاديميا الإسرائيلية، وهو ما يشكل عاملا إضافيا في مفاقمة هذا الغياب وفي زيادة الاغتراب بينهم وبين مجتمعهم الذي يتحول إلى مجرد موضوع بحث خاضع لأجندة البحث الإسرائيلية.

حول كل هذه الموضوعات حاور "عرب 48" المحاضر في السياسات والقيادة التربوية ورئيس برنامج اللقب الثاني في دراسات التربية والمجتمع والثقافة في جامعة حيفا، د. أيمن إغبارية.

"عرب 48": تحدثت عن إشكالية لدى الأكاديمي في الداخل، هي امتداد لإشكالية "المثقف والسلطة" و"المثقف والمجتمع"، في ظروف أكثر تعقيدا هي ظروف الواقع الكولونيالي الذي تعيشه جماهير شعبنا في الداخل الفلسطيني، وهي إشكالية تحسم، بالعادة، تخلف الأكاديمي عن دوره في رفد مجتمعه بما أوتي من معرفة، قد تشكل رافعة للنهوض به الى الأمام...

إغبارية: صحيح أن هناك تقصيرا وتخلفا ولكن هناك أيضا توقعات مفرطة من الأكاديميين، في مجال حجم المشاركة المجتمعية وفي باب القدرة التي تصور الأكاديمي بصفته تلك وكأنه قادر على كل شيء.

من ناحية ثانية، فإن المجال العمومي ينحسر بشكل تدريجي حتى بات يقتصر على "السياسي"، وينغلق أمام الأكاديميين وذلك لأسباب ترتبط بالسياسات النيولبرالية والخصخصة، التي تضيف إليها الدولة آليات الضبط والسيطرة، وهي تسعى من جهة لاحتواء الأكاديميين ومن جهة ثانية، إلى خلق ما يمكن تسميته بـ‘الأكاديمي التقني‘ الذي يتعامل مع المعرفة بشكل أدائي تقني، وليس بوصفها إحدى أدوات التغيير الاجتماعي.

"عرب 48": هل لذلك علاقة بغياب مؤسسات أكاديمية عربية ذات أجندة وطنية - جامعة عربية - تدمج بين الحاجة المجتمعية وعملية إنتاج المعرفة، وتوظف الأخيرة في صالح هذه الحاجة وتلك الأجندة؟

إغبارية: الجامعة ركن مهم في بلورة الهوية الوطنية الجامعة من جهة، وفي ترسيخ الثقافة الديمقراطية الموجهة من جهة ثانية، إلا أن الجامعة ليست العامل الوحيد الغائب، فهناك غياب لمشروع سياسي فلسطيني، حيث تفتقر أحزابنا وهيئاتنا ومؤسساتنا إلى رؤية ومشروع سياسي ثقافي جامع يلتف حوله السياسي والمثقف والأكاديمي وغير الأكاديمي أيضا. مشروع يتجاوز العمل السياسي الروتيني الذي يقتصر على السياسيين، وفي هذا السياق أنا ضد اللقاء على أساس أكاديمي بحت، وأرى أن أحزابنا مفتوحة أمام القوى الجديدة وقياداتها تتغير بشكل دوري بحيث تستوعب الطاقات الواعية والشابة.

"عرب 48": ألا ترى ما يراه البعض من انغلاق لأبواب الأحزاب أمام الأكاديميين، وهو ما حدا ببعض هؤلاء إلى المطالبة بافساح مكان للأكاديميين في القائمة المشتركة؟

إغبارية: كما أشرت سابقا، الأحزاب هي أداة الفعل السياسي وهي مفتوحة لمن يرغب بذلك، بل على العكس فأنا أرى أن نسبة كبيرة من أعضاء الكنيست العرب من الأكاديميين. ومن الخطأ الاعتقاد أن الأكاديمي لا يرى ثمار عمله إلا في الحقل السياسي، فهو يستطيع أن يمارس دوره من موقعه وأن يصارع السلطة السياسية والاجتماعية في الحقل الثقافي أيضا، وأن يسهم في خلق مشروع ثقافي كإرساء فكرة المجتمع الديمقراطي على سبيل المثال.

"عرب 48": ماذا تقصد بغياب مشروع سياسي، وكيف يؤثر ذلك على أداء عملنا السياسي البرلماني والجماهيري وغيره؟

إغبارية: المشروع السياسي هو بمثابة موجه ومصب لنشاطنا البرلماني والجماهيري والمؤسساتي، وهو ما يحول دون تحول مؤسسات المجتمع المدني الخاصة بنا إلى دكاكين، وهو الذي يمنع أن يتحول النواب العرب إلى مجرد وسطاء بيننا وبين السلطة، فنرى عضو الكنيست الفلاني يزف لنا بشرى مشروع وافق عليه الوزير بعد اجتماعه معه، وعضو الكنيست العلاني يتوسط بين مجلس عربي ووزارة معنية.

هي محاولة لإعادة إنتاج المختار بشكله الحديث، وجدير التنويه في هذا السياق، إلا أن الغيتوهات في أوروبا أيضا، كانت تدار عبر حلقة وسطاء تضم أكاديميين وسياسيين بين سكان الغيتو وسلطة الدولة المعنية.

"عرب 48": أنت تتحدث عن تحول القيادات أو بعضها من طرف صراع إلى وسيط بين الجماهير وبين السلطة، وهو أمر ينسحب على أعضاء كنيست ومؤسسات مجتمع مدني؟

إغبارية: نعم، نحن نعيش في دولة تساومنا على أبسط حقوقنا، حتى تصير عملية مد سلك كهرباء هي إنجاز كبير، نعيش في واقع صراع متواصل مع سياسة قهر وصراع يومي ويفترض أن تكون أحزابنا ومؤسساتنا ونوابنا أدوات صراع لا جسور تواصل ووساطة، ولكن للأسف، البعض يساعد السلطة في إعادة إنتاج أدوات الضبط والسيطرة القديمة، التي تشكل دمج القيادات مع السلطة أحد عناصرها الرئيسية.

في هذا الباب أيضا تجري محاولة خلق نخبة موازية وموالية من بعض أكاديميي السلطة العرب مقابل النخبة الوطنية القائمة، وذلك تحت شعار ساذج يقول، بأن التميز يكسر التمييز وهو شعار يتناسى بأن التمييز جوهري وبنيوي وشامل.

"عرب 48": وجهت مؤخرا انتقادات حادة للجنة متابعة التعليم العربي وطرحت ضرورة إعادة هيكلتها، وأنا أسوقها في هذا الباب كخير مثال للتحول من دور طرف الصراع إلى دور الوسيط، هل من جديد في هذا الموضوع؟

إغبارية: نشرت مؤخرا نتائج امتحانات ‘بيرلز‘ الدولية للتنور القرائي، وهي امتحانات تفحص مدى التمكن من لغة الأم، وبغض النظر إذا كانت قد وصلت النتائج إلى أسماع لجنة متابعة التعليم العربي أم لم تصل، فإن ترتيب العرب في المكان الـ40 بموازاة ترتيب اليهود في المكان الــ12، يعني الكثير، وهو جدير بأقل تقدير أن يكون مناسبة للمناقشة أو المساءلة وتحمل المسؤولية، إن لم يكن إقالة المسؤول عن متابعة التعليم العربي، خاصة بعد نتائج امتحانات البيزا، ولكن للأسف أي شيء من هذا القبيل لم يحدث ولن يحدث.

وغني عن البيان أن لجنة متابعة التعليم العربي التي تتصرف وكأنها جزء من المؤسسة ومكمل لها وليس طرفا نقيضا، هي ليست وحيدة بل ينطبق ذلك على الغالبية العظمى لمؤسسات المجتمع المدني، التي نسيت كما يبدو دورها الذي يتمثل في خلق تحديات أمام الدولة وفي علاقة صدامية معها وصارت تتصرف كقطاع ثالث.

مؤسسات المجتمع المدني في الحالة السياسية العادية و(ليست الكولونيالية)، يفترض أن تكون علاقتها مع الدولة هي علاقة رقابة ورصد وصدام وليست علاقة تكامل ثم تغييب للصدام.

"عرب 48": أصبحنا، للأسف، نشاهد على مضض كيف يجري استقبال كبار المسؤولين في وزارة المعارف بالورود في مدارسنا وكيف تقام على شرفهم المأدبات في مجالسنا وبلدياتنا، رغم أن نتائج التعليم العربي في تدني مستمر...

إغبارية: مؤسف أن تقيم بلدية أم الفحم مثلا، احتفالا لمدير لواء سابق خدم في جنوب لبنان قي فترة احتلاله من قبل إسرائيل، حيث أشغل منصبا في مجال التعليم هناك في تلك الفترة، هذا ناهيك عن إخفاقاته وتواطئه مع سياسة التمييز الرسمية ضد أم الفحم وسائر المدن والقرى العربية التي وقعت تحت إمرته.

في أي مجتمع يعاني من مثل هذا التمييز الجارف، الذي ينعكس في نتائج كافة المراحل التعليمية يستقبل أمثال هؤلاء بالمظاهرات الغاضبة على أقل تقدير.

"عرب 48": لقد راهنا في السابق أن تشكل أمثال تلك المؤسسات نواة الأوتونوميا الثقافية التي تحدث عنها البعض؟

إغبارية: كان ذلك في وقت كانت تنتشر فيه عشرات المؤسسات والجمعيات الثقافية ذات الأجندة المجتمعية الوطنية، وهي للأسف، إما اختفت أو تحولت أجندتها إلى أجندة علاقة مع الدولة أو ما يسمى بالتأثير على سياسات الدولة، وقد بدا أثر تمويل المؤسسات الصهيونية واليهودية واضحا في مسار هذا الانحراف، حيث جرى احتواء هذا التوجه الذي كان ينزع للحكم الذاتي.

"عرب 48": في النهاية، ما هو المطلوب؟

إغبارية: مطلوب إعادة بناء وهيكلة لجنة المتابعة ولجنة متابعة التعليم، إضافة إلى خلق بدائل، ويجب ألا نخاف من مسألة خلق بدائل، كما يتعين على الأحزاب تفعيل دورها الثقافي والتربوي، فهي مطالبة بأن تقول لنا، ما هو مشروعها الثقافي؟ وبلورة مشروع ثقافي بكل ما يخص التربية والتعليم والمدارس والمؤسسات الثقافية.

*حاصل على الدكتوراه من جامعة بنسيلفانيا. محاضر في كلّيّة التربية - جامعة حيفا، ومدير سمينار طلبة الدكتوراه في "مدى الكرمل: المركو العربيّ للدراسات الاجتماعيّة التطبيقيّة".

التعليقات