مارية و" هول الفاجعة.." / جدعون ليفي

-

مارية و
[[مارية أمن طفلة مشلولة تعيش بواسطة التنفس الصناعي، تم نقلها هذا الأسبوع إلى مستشفى خاص للأطفال "إلين" في القدس، بعد أن كانت إسرائيل تنوي إعادتها إلى غزة حيث لا يوجد مستشفى لعلاج مثل حالتها. والآن ستضطر الطفلة، التي فقدت قبل شهر والدتها وأخاها وجدتها، إلى الخضوع لعملية علاجية تستغرق شهوراً طويلة، ربما في نهايتها، ربما، تستطيع على الأقل أن تتنفس بقواها الذاتية، وأن تتحدث وأن تنهض من السرير.

سوف تبقى في المستشفى لمدة ستة شهور، بحسب الأطباء، وسيكون والدها إلى جانبها، سجيناً في المستشفى، في الوقت الذي ينتظره فيه في بيته في غزة طفله الصغير مؤمن أمن، اليتيم إبن الستة أعوام..

مارية ومؤمن هما الطفلان الناجيان من "الإغتيال الموضعي" الذي أنتجه سلاح الجو، الذي كان ينوي اغتيال محمد الدحدوح من حركة الجهاد الإسلامي، إلا أنه، وبشكل "موضعي" خطف عائلة كاملة تقريباً.

وتفاخر كثيراً رئيس هيئة أركان الجيش، دان حالوتس، بالذات من عملية سلاح الجو. وفي نهاية التحقيق الذي أجراه الجيش، أشار رئيس هيئة الأركان إلى أن الغارة قد نفذت بـ"مهنية عالية" و" دقة مميزة"..

اقتراح لرئيس هيئة الأركان العامة الحساس، قائد سلاح الجو سابقاً، الذي لا يجد غرابة في أية معاناة بشرية، أن يكلف نفسه بالذهاب إلى المستشفى وأن يرى بأم عينيه "المهنة العالية" و"الدقة المميزة" لطياريه..

ربما يجدر إرسال طلاب كلية الطيران إلى المستشفى هناك قبل أن يخرجوا في "مهمات الموت" الخاصة بهم، وذلك ليروا بأم أعينهم النتائج التي لا يرونها أبداً على شاشات الحواسيب المتطورة الخاصة بهم؛ طفلة صغيرة جميلة جرى تدمير عالمها، وأبناء عائلة كانوا فرحين في سفرتهم الأولى بسيارتهم الجديدة التي اشتروها لتوهم، وأصبحوا حطاماً بشرية يعصف بهم الثكل واليتم والإعاقة..

طلاء الأظافر الذي دهن بعناية فائقة على أظافرها الصغيرة بدأ يتقشر، وجلد اليدين بات جافاً مجعداً، وفقط عيناها ظلتا جميلتين وشعرها بقي كما كان من قبل..

يوم الجمعة الماضي رأت مارية والدها للمرة الأولى بعد إصابتها، وارتسمت على شفتيها ابتسامة خفيفة أولى. ظلت ثلاثة أسابيع بدون أمها وأبيها، فقط مع جدها (عم والدها) إلى جانبها، وهي مشلولة تتنفس بشكل اصطناعي، مشدودة إلى سريرها ولا تستطيع تحريك أعضائها، سوى شفتيها. ولا تعرف أن جدتها ووالدتها وشقيقها لم يعودا على قيد الحياة بعد..

لم تكن الأخيرة؛ فبعدها في مساء السبت وصل أطفال عائلة غالية، الذين أصيب بعضهم وقتل الباقون على شاطئ البحر، ليس بعيداً عن بيت مارية في غزة.

في الأشهر الأخيرة كتبنا عن العامل في بيارته عمر أبو وردة، وعن راعي الجمال موسى السوراكة، وعن زارع البطيخ حسن الشافعي، وعن زارعي التوت أبناء عائلة غبن الذين قتلوا في اليوم الأول من العطلة الصيفية بنيران قواتنا.

مريم غبن التي فقدت في اليوم الأول للعطلة الصيفية في حقول التوت أربعة أبنائها وحفيدها وإثنين من أبناء أشقائها، جاءت هذا الأسبوع إلى بيت غالية لتقديم العزاء، ولهول الفاجعة تبين أن مريم الثاكل هي شقيقة علي غالية، الذي قتل ليلة السبت على الشاطئ مع ستة من عائلته أمام ناظري ابنته المولولة، فهي إذاً عمة الأولاد الخمسة الذين قتلوا هناك... هذه هي علاقات الدم في غزة..

عندما التقينا مريم غبن بعد المأساة التي حلت بها، طلبت فقط أن يتم تقديم الجنود الذين أطلقوا القذيفة القاتلة باتجاه أولادها إلى المحاكمة. وطلب حمدي أمن، والد مارية، طلباً مماثلاً بعد أن زرناه في بيته في حي تل الهوى بعد عدة أيام من مأساته، فقد طلب أن تتم محاكمة الطيار الذي أطلق الصاروخ..

جلس حمدي أمن وعمه نبيل في اليوم الأول دامعي العينين في الغرفة المعدة للعائلات بالقرب من قسم العلاج المكثف في مستشفى الأطفال في "تل هشومير". وفي الغرفة المجاورة رقدت مارية. وأثمرت المساعي لنقل مارية إلى مستشفى " الين" بدلاً من غزة. قبل عدة أيام كان نبيل هو الوحيد بجانب سرير مارية، لم يتحرك من هناك لا ليلاً ولا نهاراً، لمدة ثلاثة أسابيع كاملة.

في "غرفة العائلات" في مستشفى "تل هشومير" جلس جد من رفح منذ 40 يوماً متواصلة إلى جانب حفيده الطفل الذي أجريت له عملية جراحية في القلب. كما جلس والد من طولكرم إلى جانب سرير طفله وجلس عم من غزة إلى جانب عزيز عليه.

ويمنع هؤلاء من الخروج من المستشفى، بموجب تصريح المكوث الذي نجحوا في استصداره، في حين يتم إيداع بطاقتهم هويتهم الشخصية بيد ضابط الأمن الذي يقوم بالتأكد من وجودهم في المستشفى طوال الوقت. ولا أحد يهتم بطعامهم، بينما يقضون لياليهم على أسرة بطبقتين في الغرفة .. وبعضهم يمكث في المستشفى منذ شهور..

أحدهم هو رمزي حشاش من مواليد مخيم بلاطة، ويسكن حالياً في جسر الزرقا في إسرائيل، وقد فقد إثنين من أبنائه في انفجار غامض في بيت والده في مخيم بلاطة للاجئين، في حين يمكث ولداه اللذان بقيا على قيد الحياة في المستشفى وهما مصابان بحروق خطيرة جداً..

كنت قد التقيته بعد الكارثة في شباط/فبراير. وبعد أربعة شهور من ذلك الوقت وجدت أنه لم يتحرك من مكانه للحظة. أما ولداه؛ أمير وعوني، فيتجولان في ممرات المستشفى، والحروق تغطي كافة أعضاء جسديهما، في حين غطي وجهاهما بـ"قناعين" يثيران الرعب.. ويحتفظ والدهما في هاتفه الخليوي بصورهما قبل وبعد الكارثة، أما زوجته التي تحمل بطاقة شخصية إسرائيلية فقد رقدت في المستشفى بحالة نفسية صعبة، ولا يستطيع الآن أن يتركها للحظة لوحدها مع ولديه "المحروقين"..

ومن جهته، فإن حمدي أمن يحتفظ أيضاً في هاتفه الخليوي بـ"عرض متواضع" لمأساته. وعلى أنغام موسيقى عربية حزينة يعرض "ضحاياه": صورة نعيمة زوجته (27 عاماً) وابنه مهند (6 أعوام)، ووالدته حنان (46 عاماً)، وهنا صورة مارية، قبل وبعد..وينظر حمدي إلى الصورة ويبكي.. ينظر ويشهق بالبكاء.." طفلة جميلة.. أي ذنب ارتكبته؟"..

............]]

التعليقات