مؤرخ وباحث إسرائيلي:" الحرب على لبنان لم تكن وجودية ولم تكن مشروعة"..

"أحد ضباط الجيش يؤكد لجنوده أنه لا يوجد أهمية أكثر من منع اختطاف جنود، وإذا اقتضت الضرورة، يجب على الجنود أن يطلقوا النار على بعضهم البعض.. المهم ألا يقعوا في الأسر.."

مؤرخ وباحث إسرائيلي:
في إطار النقاش الإسرائيلي المتزايد حول الحرب على لبنان أسبابها وتداعياتها وآثارها، ينفي المؤرخ والباحث، توم سيغيف، أن هذه الحرب كانت حرباً وجودية بالنسبة لإسرائيل واعتبرها حرباً غير مشروعة، ويؤكد أنه كان من الأفضل إجراء صفقة تبادل أسرى. كما يؤكد على أن الحرب على لبنان هي مغامرة إسرائيلية مماثلة للمغامرة الأمريكية في العراق، وإن كانت أقل نجاحاً. ويعتقد أن الحربين قد فشلتا لأسباب كثيرة متشابهة، من بينها الغطرسة في قمة القيادة العسكرية.

ولعل أهم ما يثيره هو إشارته إلى تقرير وصفه بأنه "أمر لا يصدق" جاء فيه أن أحد ضباط الجيش يؤكد لجنوده أنه لا يوجد أهمية أكثر من منع اختطاف جنود، وإذا اقتضت الضرورة، يجب على الجنود أن يطلقوا النار على بعضهم البعض.. المهم ألا يقعوا في الأسر.."

ويعتقد سيغيف في مقالته في ملحق "هأرتس"أن الحرب الحالية تتطلب لجنة مؤرخين، وأنه لا يكفي تشكيل لجنة تحقيق رسمية (حكومية) أو برلمانية تتركز في البحث العبثي عن متهمين كالعادة. ويقول إنه من المفضل أن يتم تشكيل لجنة تحقيق مؤلفة من مؤرخين، كتلك اللجان التي تشكلت في دول كثيرة من أجل تبيان، بشكل معمق، كيف انزلق (سقط) مجتمع بأكمله!!

ويتناول سيغيف عشرة مسائل يجدر بلجنة المؤرخين التي يقترحها أن تقوم بدراستها، يقول:


• الأولى: لم تكن هذه الحرب حرباً أخرى على وجود إسرائيل، وما كان يجب أن تندلع. والحادثة التي سبقت الحرب لا تعطي أية شرعية لهذه الحرب (عملية حزب الله الوعد الصادق)، وكان من الواضح منذ البداية أنه لا يمكن هزيمة حزب الله. وعندما يقولون أنها حرب "مشروعة" فإنهم يخلطون بين "الشرعنة" وبين "العدل". فالشرعنة في هذا السياق هي مصطلح عسكري سياسي وبوليتي. أما العدل فهو مصطلح "قيمي". والوضع الذي خلقته الحرب لا يساوي ثمنها الرهيب؛ الجنود الإسرائيليون لم يطلق سراحهم بعد. وهناك من يعتقد أنه ستكون جولة أخرى قريباً، ولذلك لم تكن هذه الحرب مشروعة. ربما كانت عادلة إلا أنها لم تكن مشروعة. وفي كلتي الحالتين، فإن غالبية الإسرائيليين اعتقدوا أن الحرب ليست مشروعة فحسب وإنما عادلة أيضاً. ولولا هذا الإعتقاد لربما لم تبدأ الحرب، أو كان بالإمكان إنهائها في وقت مبكر. والسؤال الأول الذي يطرح أمام لجنة المؤرخين لفحصه هو: لماذا اعتقد الإسرائيليون أن الحرب عادلة ومشروعة؟ من الممكن اقتراح عدة أسس أولية للتفكير: في أحد التقارير التلفزيونية التي جرى بثها هذا الأسبوع، وهو أمر لا يصدق، عرض ضابط يقول لجنوده إنه لا يوجد مهمة أكثر أهمية من منع "اختطاف"، وإذا اقتضت الضرورة يجب على الجنود أن يطلقوا النار على بعضهم البعض، فالمهم ألا يقعوا في أسر العدو!!..

• الثانية: لو انتهت عملية حزب الله كسابقتها بدون أسرى، فهل كانت الحكومة ستورط الدولة في الحرب؟ إسرائيل تتدبر العيش مع قتلى، ولكن ليس مع أسرى. ويرى غالبية الإسرائيليين أنفسهم جزءاً من الجيش، وفي هذا السياق لا شك أنه بالنسبة لهم لا يوجد أكثر أهمية من عدم إبقاء شخص في أرض العدو. وأن الجيش سيبذل كل ما بوسعه من أجل إعادتهم، أحياءاً أو أموات.

• الثالثة: من الجائز أنه كان بالإمكان إطلاق سراح غلعاد شليط في صفقة تبادل أسرى مع حماس، قبل أن يقوم حزب الله باختطاف الجنديين إلدار ريغيف وإيهود غولدفاسر. ومن الجائز أنه كان بالإمكان التوصل إلى صفقة مماثلة مع حزب الله، قبل أن تندلع الحرب، وبدلاً عنها. إلا أن غالبية الإسرائيليين لا يعترفون بأنه من الأفضل أن تتوصل الدولة إلى صفقة تبادل أسرى، فهم كمن فرض عليهم الخضوع لضعفهم لذي يكرهونه. وبعد كل عملية إطلاق سراح أسرى يتهمون الحكومة بأنها عقدت صفقة سيئة، وكأنها مستشارة استثمارات لديهم في البورصة. هذا شيء ينبع من القلب وليس من الرأس، مثل الخوف من إيران.

• الرابعة: غالبية الإسرائيلين يصدقون مسألة التهديد الإيراني. وغالبيتهم لا يعرفون شيئاً عما يحدث في إيران. ورغم أن إيران تنفي أنها تنوي انتاج سلاح نووي، إلا أن الإسرائيليين لن يصدقوا ذلك بعد الكارثة، التي ينفي رئيس إيران حقيقة وقوعها، خاصة وأن "الكارثة" تشكل مركباً مركزياً من بين مركبات "الهوية الإسرائيلية". ويعتبر الإسرائيليون إنكار الكارثة خطراً وجودياً. ومن هنا نجاح الحكومة في إقناع غالبية الإسرائيليين بضرورة العمل ضد إيران. كما أن غالبية الإسرائيليين لا يعرفون عن حزب الله أكثر مما كان يعرف الأمريكيون عن العراق. ومثل غالبية الأمريكيين فهم يؤمنون بمحور الشر، ويرون بحزب الله الذراع الطويلة لإيران. ومن هنا فإن لجنة مؤرخين ليست بحاجة إلى استيضاح مسألة وجود أو عدم وجود محور الشر، يكفي أن غالبية الإسرائيليين يخشونه، ومن هنا التأييد للحرب والثقة بالجيش الإسرائيلي.

غالبية الإسرائيليين يتعاملون مع الجيش تماماً مثل تعامل الأوروبيين مع القطارات الأرضية، فعندما لا يوجد إلتزام بالتوقيت يعتقدون أنه حان الوقت لاستبدال الحكومة. والآن الجميع غاضبون على الجيش، ولا يمكن معرفة ماذا يغضبهم أكثر؛ الإعتراف بأن هذه الحرب لم تغير كثيراً ولذلك ما كان يجب أن تندلع منذ البداية، أم الفوضى في ساحة القتال.
يدرك جميع الإسرائيليين محدودية نجاعة الجيش، ويوجد عدد لانهائي من الكتب توثق ذلك. وبالرغم من ذلك، لا يزال يتمسك الجميع بخياله "الميثولوجي" كجيش قادر على كل شيء. وليس من السهل تفسير ذلك.

• الخامسة: الإسرائيليون، لكونهم جزءاً من الجيش، يتملقون أنفسهم بتصور ذاتي كـ"سوبرمان"! ربما كانوا بحاجة إلى هذا الوهم ليخلدوا إلى النوم بهدوء. وفي كل الحالات، عندما قررت الحكومة "العمل" في لبنان، صدق غالبية الإسرائيليين أن العملية ستكون قصيرة وناجحة، كعادة الجيش.

كان هناك شيء منعش، مخلص، في حرب وجودية عادلة ضد عدو حقيقي، وليس روتين إحتلال وقمع في الأراضي الفلسطينية. غالبية الإسرائيليين ملوا من المناطق (الضفة والقطاع)، وقبل أشهر معدودة أيدوا مواصلة الإنسحاب، ولهذا صوتوا لأحزاب الحكومة الحالية.

يقول صاحب آخر مطعم ظل مفتوحاً في كريات شمونه نقلاً عن أحد كبار الضباط "الحكومة تكبح جماح الجيش ولا تتيح له مواصلة العمل". هذا الإدعاء "الطعنة في الظهر"، يغطي الإخفاقات العسكرية في كل حرب في كل دولة. وهو يعطي مصداقية لإقالة الحكومة، أي نقل السلطة إلى بنيامين نتانياهو. وحتى إهمال المساكين الذين مكثوا شهراً في الملاجئ يعطي المصداقية لهذا الإدعاء بموجب المنطق نفسه. ولكنه ليس الفشل الأساسي للحكومة، فالفشل الأساسي يتجلى بكون الحكومة لم تدرك أهمية إبقاء الدولة خارج هذه الورطة.

• السادسة: إيهود أولمرت وعمير بيرتس عملا من موقع الضعف. فبيرتس لم يكن يمتلك الخبرة الكافية لتجنب ضغط الجيش. فقد بدا وتصرف في الشهر الأخير كمن زرع في رأسه رقاقة ألكترونية، مثلما يظهر ذلك في أفلام التجسس المستقبلية!

وفي المقابل، فقد تصرف أولمرت بضعف، وزاده إطلاق القسام و"خطف" الجندي شاليط ضعفاً على ضعف. ولم تكن قوته، أو ربما شجاعته، كافية للرد بطريقة منضبطة على هجوم حزب الله. وبشكل بارد ومثير للسخرية راقب بالتأكيد رد فعل الجمهور الذي يريد فعلاً. وما التهديد بقتل حسن نصر الله، الذي أسمعه في الكنيست، إلا دليلاً على أن الحرب لم تدخل أي تطور على اعتبارات أولمرت. وفي هذه الحالة فإن لجنة المؤرخين ستحتاج إلى إبداء رأيها بمسألة "بأي مدى عملت إسرائيل بالتنسيق مع الولايات المتحدة". فالأمريكيون غاضبون الآن على إسرائيل كأنها " مرسال البيتسا الذي تأخر في الطريق وأكل البيتسا بنفسه في النهاية". لم تنجح مغامرتهم في العراق أكثر مما نجحت المغامرة الإسرائيلية في لبنان. والمقارنة بين الإثنتين مطلوبة، لأنه، كما يبدو، فكلاهما مؤسستان على فرضيات وأسس نفسية متشابهة.

• السابعة: العمليتان فشلتا لأسباب متشابهة، بضمنها الغطرسة بدون حدود في قمة القيادة العسكرية: في إسرائيل يسمى ذلك دان حالوتس!

أرشيف الجيش مليء بالتحقيقات، ومن العبث أن يقوم الجيش بالتحقيق مع نفسه هذه المرة أيضاً كي تعرف البلاد لماذا لم تصل السترات الواقية والوجبات الغذائية في الوقت اللازم. كما ستقوم لجنة التحقيق الرسمية أو البرلمانية بالتحقيق في محاولة إحداث تحول في مجريات الحرب العسكرية في اللحظة الأخيرة، والتي فرضها الجيش على الحكومة من أجل إتاحة المجال له للوصول إلى الليطاني. أما لجنة المؤرخين فتستطيع، مقابل ذلك، إبداء رأيها في التشابه في مضامين أداء الجيش في لبنان وبين الإحتلال والقمع في الضفة الغربية وقطاع غزة، وهذا أحد الأسئلة الأساسية.

• الثامنة: هناك جيل كامل من الجنود تعتمد تجربتهم العسكرية على قمع السكان الفلسطينيين في المناطق (الضفة والقطاع)، ولم يتم تأهيلهم لخوض غمار حرب حقيقية.

وبشكل مشابه لما يحدث في هيئة أركان الجيش، فقد طور جنود الإحتلال "الإندفاع بدون حدود".. فكل جندي بسيط هو ملك في الضفة والقطاع، فإذا شاء يسمح للفلسطيني بالمرور على الحواجز، وإذا شاء يأمر بخلع ثيابه.. فقد غرس الإحتلال في نفوس الكثيرين من الجنود الاحتقار العميق تجاه الفلسطينيين، وهو خلاصة كونهم جنوداً. وفي المقابل فإن "الإرهاب" الفلسطيني قد أعطى شرعية لمواصلة المس بشكل منهجي بحقوق الإنسان لدى الفلسطينيين.

وبنفس هذا التوجه تم إبعاد مئات الآلاف من اللبنانيين من بيوتهم، كأنما ذلك روتين مسموح. وبعكس ما جرى في الماضي، فلم يكن هناك أي احتجاج في إسرائيل. وهذه مسألة أخرى ستعمل لجنة المؤرخين على دراستها.

• التاسعة: انتصر الجنون وهزم المنطق. "الإرهاب" متهم بذلك، والإعلام متهم أيضاً. فشبكات التلفزيون أذكت نيران الحرب. والتشكك كانت كلمة غليظة في عالم القيم المهنية لديها. ولجنة المؤرخين لن تتوقف عند الأهمية المبالغ بها التي تنسبها وسائل الإعلام لنفسها، وإنما ستحاول فهم كيف أثارت هذه الحرب في نفوس الكثير من الإسرائيليين غرائز بدائية قوية وحنيناً إلى "الكل الطليعي المحارب"!

• العاشرة: حتى البث عكس ميلاً لـ "الإسرائيلية الميثولوجية" التي تبددت كنتيجة لموجات الهجرة في السنوات الأخيرة. واختفت براعم الحياة الطبيعية الناضجة التي بدأت تميز الحياة في إسرائيل، والتي صنفتها هذا الأسبوع رئيسة الكنيست كخطيئة شكلت أحد أسباب الحرب!



التعليقات