فقاعة الذكاء الاصطناعي الجديدة ودعاواها القضائية

رفعت مجموعة من أصحاب حقوق النشر المجهولين، في الخريف الماضي، دعوى قضائية ضد Open AI ومايكروسوفت، التي تمتلك منصة برمجيات GitHub، بزعم انتهاكها لحقوق المطورين الذين ساهموا في تطوير بعض البرامج على المنصة

فقاعة الذكاء الاصطناعي الجديدة ودعاواها القضائية

(Getty)

انتقل الذكاء الاصطناعي من أحد مشاهد الخيال العلمي، إلى اختراعٍ جديدٍ قريب من المستقبل. انتقال سريع للغاية.

ويمكننا ملاحظة مدى انتشار الذكاء الاصطناعي من العناوين الرئيسة على الإنترنت، مثل العناوين التي تعلن استثمار مايكروسوفت 10 مليارات دولار في شركة OpenAI، المطورة لتطبيق تشات جي بي تي المبهر، وتليها عناوين أخرى تتحدث شركات ناشئة أخرى في مجال الذكاء الاصطناعي تبحث عن تمويلات كبيرة. ونجد أيضًا الكثير من العناوين تتحدث عن مدارس تحاول بشكل محموم التعامل مع الطلاب الذين يستخدمون تشات جي بي تي لكتابة تكاليفهم وأوراقهم. كما وجدنا بعضًا من أكبر مواقع المحتوى مثل CNET وBuzzFeed تعترف أو تتفاخر باستخدامها للذكاء الاصطناعي في إعداد أجزاء من محتواهم، ويكافئهم المستثمرون على ذلك.

يقول ماثيو درايهورست، المؤسس المشارك لشركة Spawning.ai الناشئة للذكاء الاصطناعي: «كانت هذه التجارب العلمية، حتى وقت قريب، غير مثيرة على الإطلاق، ولكنها صارت الآن، وخلال فترة قصيرة، ذات أهمية اقتصادية عاليّة».

ويوجد أيضًا مؤشر آخر يساعدنا على معرفة مدى انتشار الذكاء الاصطناعي: الدعاوى القضائية المرفوعة ضد شركة OpenAI وشركات مماثلة، والتي تحاجّ بأن محركات الذكاء الاصطناعي تستخدم أعمال الآخرين على نحو غير قانوني، لبناء منصاتها ومنتجاتها، وهذا يعني أن هذه الدعاوى موجهة ضد الانتشار الأخير لبرامج الذكاء الاصطناعي التوليدي مثل تشات جي بي تي، والتي تستخدم نصوصًا وصورًا وأسطرًا برمجية موجودة بالفعل على الإنترنت في إنتاج أعمالٍ جديدة.

ورفعت مجموعة من أصحاب حقوق النشر المجهولين، في الخريف الماضي، دعوى قضائية ضد Open AI ومايكروسوفت، التي تمتلك منصة برمجيات GitHub، بزعم انتهاكها لحقوق المطورين الذين ساهموا في تطوير بعض البرامج على المنصة، وجدير بالذكر أن مايكروسوفت كانت قد تعاونت مع OpenAI لبناء GitHub Copilot، والذي يُقال بأنه يستخدم الذكاء الاصطناعي في كتابة الأكواد البرمجية. كما رأينا في يناير/كانون الثاني، دعوى جماعية مماثلة مرفوعة (المحامين أنفسهم) ضد Stability AI، الشركة المطورة لتطبيق ستيبل ديفوجن لتوليد الصور باستخدام الذكاء الاصطناعي بدعوى حدوث انتهاكات لحقوق، وعرفنا وفي الوقت نفسه بأن مكتبة الصور غيتي، مقرها المملكة المتحدة، تقول إنها ستقاضي ستيبل ديفوجن أيضًا لاستخدام صورها دون ترخيص.

من السهل رفض الدعاوى القانونية في وقت قياسي كدليل لا شك فيه على حتمية ازدهار التكنولوجيا، خصوصًا لو تبع القضايا الكثير من الاهتمام والمال، وحينها سيغير المحامون معسكراتهم، لكن هذا لا ينفي حقيقة تشكّل العديد من الأسئلة الحرجة حول طبيعة عمل هذه البرامج وحول طبيعة الملكية الفكرية ومزايا وعيوب الانتقال المُباشر بأقصى سرعة إلى مشهد تقني جديد قبل الاطلاع على قواعده! لا جدال في أن الذكاء الاصطناعي صار حتميًّا الاستخدام والانتشار الآن، ويمكن أن تشكل هذه المعارك القضائية خريطة استخدامنا لها وسُبل تأثيرها على عالم الأعمال وعلى الثقافة.

وقد رأينا بعضًا من جوانب هذه القصة قبلًا، واسأل صناعة الموسيقى التي أمضت سنواتٍ في صراح مع التحول من الأقراص المدمجة إلى استخدام مواقع وتطبيقات الأغاني الرقمية، أو اسأل ناشري الكتب الذين انتقدوا خطوة غوغل في رقمنة الكُتب. وأوضح لورانس ليسيج، أستاذ القانون بجامعة هارفارد، بأن طفرة الذكاء الاصطناعي ستؤدي إلى "رد فعل مشترك لدى مبدعي المحتوى"، ويتحدث عن ذلك من خبرته في الحرب ضد أستوديوهات الموسيقى خلال حقبة ناپستر الأصلية، إذ حاجَّ بأن مالكي الموسيقى يستخدمون قواعد حقوق النشر للقضاء على الإبداع.

كانت الخلافات في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين حول الحقوق الرقمية وحقوق التأليف والنشر صغيرة، أي أنها كانت تشغل جزءًا قليلًا من السكان في العالم، ولكن الآن صار الجميع متصلين بالإنترنت، مما يعني أنك، حتى لو لم تعرف نفسك بأنك «منشئ محتوى»، فإن المحتوى الذي تكتبه أو تشاركه يمكن أن تصبح جزءًا من محرك ذكاء اصطناعي، ويستخدم بطرق لا تتخيلها أبدًا.

ما يجعل الأمر مختلفًا عن فقاعة الإنترنت التي انفجرت قبل عقدين، هو أن من يقود هذه الفطرة في الذكاء الاصطناعي هم عمالقة التكنولوجيا مثل مايكروسوفت وغوغل وفيسبوك باستثمارات هائلة، مع العلم أنهم لم يخرجوا ما يعملون عليه كاملًا أمام الجمهور، وهذا يعني أن أمامهم الكثير ليخسروه من الطعن في قاعات المحاكم، ولديهم الموارد الضرورية لمحاربة العواقب القانونية وتأخيرها إلى أن تصبح تلك العواقب غير جوهرية.

الذكاء الاصطناعي المبنيّ على البيانات

سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لشركة أوبن إيه آي (Getty).

التكنولوجيا الكامنة وراء الذكاء الاصطناعي هي صندوق أسود معقد، وقد يكون توجد مبالغات في العديد من الادعاءات والتنبؤات حول قوتها. قد يبدو أن بعض برامج الذكاء الاصطناعي قادرة على اجتياز أجزاء من اختبار ماجستير إدارة الأعمال واختبارات الترخيص الطبي، لكنها لن تحل محل المدير المالي أو الطبيب بعد، خصوصًا أن هذه البرامج لا تعي وجودها، على الرغم مما قد يقوله موظف غوغل المرتبك.

الفكرة الأساسية واضحة نسبيًا: محركات الذكاء الاصطناعي مثل التي أنشأتها OpenAI تستوعب مجموعات البيانات الضخمة Big Data، والتي يستخدمونها لتدريب البرامج لتقدم للمستخدمين التوصيات، أو كتابة الأسطر البرمجية، أو تقديم اللوحات الفنية، أو المنشورات النصية.

تجوب المحركات في كثير من الحالات الويب بحثًا عن مجموعات البيانات هذه، بالطريقة نفسها التي تقوم بها برامج زحف بحث غوغل، حتى يتمكنوا من معرفة ما هو موجود على صفحة الويب وفهرستها لاستعلامات البحث. ويمكن لمحركات الذكاء الاصطناعي، مثل تلك التي في شركة ميتا Meta، الوصول إلى مجموعات بيانات ضخمة مملوكة جزئيًا للمستخدمين الذين ينشؤون النصوص والصور ومقاطع الفيديو على تلك المنصات. رفضت ميتا التعليق على خطط الشركة لاستخدام هذه البيانات في حال بنائها لذكاء اصطناعي يشبه تشات جي بي تي. قد تعمل تلك المُحركات أحيانًا إلى ترخيص بيانات تدريبها كما فعلت ميتا وOpenAI مع مكتبة الصور Shutterstock.

وعلى عكس الدعاوى القضائية المتعلقة بقرصنة الموسيقى في مطلع القرن، لا أحد يجادل بأن محركات الذكاء الاصطناعي تنسخ المحتويات على الإنترنت كما هي، وتوزعها تحت الاسم نفسه، بل تميل القضايا القانونية، في الوقت الحالي، إلى أن تكون حول كيفية دخول البيانات إلى المحركات في المقام الأول، ومن له الحق في استخدام تلك البيانات. يحاجّ مؤيدو الذكاء الاصطناعي بأنه 1) يمكن للمحركات التعلم من مجموعات البيانات الحالية دون إذن؛ لأنه لا يوجد قانون يمنع التعلم، و2) تحويل مجموعة واحدة من البيانات، حتى لو لم تكن تمتلكها، إلى شيء مختلف تمامًا يحميها من القانون، وقد أُكِّد على ذلك خلال معركة قضائية مطولة انتصرت فيها غوغل على المؤلفين والناشرين الذين رفعوا دعوى قضائية ضد الشركة بسبب فهرستها لكتبهم، واقتطاعها لمجموعة كبيرة من الكتب.

تبدو الحجج ضد المحركات أبسط: تقول غيتي، على سبيل المثال، إنها سعيدة بترخيص صورها لمحركات الذكاء الاصطناعي، لكن شركة Stability.AI منتجة تطبيق ستيبل ديفوجن لم تدفع حتى الآن. ويجادل المحامون في قضية OpenAI/Microsoft/GitHub بأن مايكروسوفت وOpenAI ينتهكان حقوق المطورين الذين ساهموا بكتابة الأسطر البرمجية غب منصة GitHub، من خلال تجاهل تراخيص البرامج مفتوحة المصدر التي تحكم الاستخدام التجاري لهذه البرمجيات. وفي الدعوى القضائية ضد Stability AI، حاجّ هؤلاء المحامون أنفسهم بأن محرك الصور ينسخ بالفعل من أعمال الفنانين، حتى لو لم يكن الناتج النهائي صورة طبق الأصل من الأعمال المنسوخة، وبأن ما ينتجونه يُنافس قدرة الفنان على تحقيق الربح من أعماله.

يقول ماثيو باتريك، المحامي الذي يمثل المدعين في الدعاوى الجماعية: «لا أعارض الذكاء الاصطناعي. لا أحد يعارض الذكاء الاصطناعي، بل نريد تحقيق الإنصاف والعدل، وأن يكون الأمر أخلاقيًا، وأن نرى توظيفًا صحيحًا لمثل هذه التطبيقات».

يتغير سؤال البيانات أحيانًا اعتمادًا على من تسأل. كان إيلون ماسك من أوائل المستثمرين في OpenAI، ولكن بمجرد امتلاكه لتوبتر، قال إنه لا يريد السماح لـ OpenAI بالزحف إلى قاعدة بيانات تويتر.

ماذا يخبرنا الماضي عن مستقبل الذكاء الاصطناعي؟

(Getty)

لنقف لوهلة لكيلا نعطي الأمور أكبر من حجمها، وتذكروا أننا قبل عامٍ كنا نحاول فهم ما يعنيه WEB3، وأنا جيمي فالون كان يروج للرموز غير القابلة للاستبدال NFTs وأن شركة FTX دفعت ملايين الدولارات مقابل إعلاناتها في السوبر بول. وها نحن الآن نرى تضخم فقاعة أخرى، فقاعة الذكاء الاصطناعي، وتذكرني معاركه القضائية الحالية مع معارك صناعة الموسيقى مع التكنولوجيا قبل أكثر من عقدين، حين أدت خدمات «مشاركة الملفات» إلى تفجير صناعة الموسيقى بين عشية وضحاها تقريبًا، لأنها منحت أي شخص لديه اتصال بالإنترنت القدرة على تنزيل أي موسيقى يريدها مجانًا، بدلًا من دفع 15 دولارًا مقابل الأقراص المدمجة. استجابت صناعة الموسيقى بمقاضاة مالكي خدمات مثل ناپستر، وكذلك المستخدمين العاديين، حيث قاضوا جدة تبلغ من العمر 66 عامًا. بمرور الوقت، فازت العلامات التجارية في معاركها ضد ناپستر وأمثالها، وفي بعض الحالات، ضد مستثمريها. لقد كسبت تلك العلامات الموسيقية أيضًا قدرًا كبيرًا من الازدراء من مستمعي الموسيقى، الذين استمروا في عدم شراء الكثير من الموسيقى، وانخفضت قيمة الأستوديوهات الموسيقية بعدها.

ولكن بعد عقد من محاولة عودة مبيعات الأقراص المدمجة، نجحت شركات الموسيقى في نهاية المطاف في تحقيق السلام مع الشركات التكنولوجية من أمثال سپتوفاي Spotify، والتي قدمت للمستخدمين القدرة على الاشتراك في كل مكتبة الشركة مقابل رسوم شهرية، وانتهى الأمر بهذه الرسوم إلى تغطية ما يقضيه المستمع العادي لمدة عام على الأقراص المضغوطة، والآن صارت تلك المقاطع الموسيقية ومن يملكونها أثرياء بشكل كبير.

(Getty)

لذا يمكنك تخيل نتيجة واحدة هنا: سيتفاوض مجموعة من الأشخاص المنتجين للمحتوى على الإنترنت بشكل جماعي مع شركات الذكاء الاصطناعي حول قيمة بياناتهم، وسيفوز الجميع بالطبع، وقد يعني هذا أن الأفراد الذين يشاركون صورهم الشخصية أو تغريداتهم أو رسوماتهم سيكتشفون بأن أعمالهم لا تساوي شيئًا مقابل كم البيانات التي يستهلكها الذكاء الاصطناعي في أثناء تدريبه.

وقد تنجح المحاكم أو المنظمون القانونيون المهتمون بالسيطرة على شركات التكنولوجيا، لا سيما في الاتحاد الأوروبي، في فرض القواعد التي تجعل من الصعب جدًا على أمثال OpenAI العمل، و/أو معاقبتها بأثر رجعي لأخذها البيانات بدون إذن. وسمعتُ أن بعض المديرين التنفيذيين في مجال التكنولوجيا يقولون إنهم سيكونون حذرين من العمل مع محركات الذكاء الاصطناعي خوفًا من أن ينتهي بهم الأمر في السجن أو أن يُطلب منهم التراجع عن العمل الذي قاموا به باستخدام محركات الذكاء الاصطناعي.

لكن مايكروسوفت، التي تعرف بالتأكيد إخطار الجهات التنظيمية العقابية، استثمرت 10 مليارات دولار أخرى في OpenAI، وهذا يعني أن الشركة حسبت أن المكافأة والعائد يفوقان المخاطر، وأن القرارات القانونية أو التنظيمية تستغرق وقتًا طويلا لتظهر، وهذا يعني بعد احتكار سوق الذكاء الاصطناعي.

الأوسط المتوفر حاليًا، هو أن يعمل الأشخاص الذين يعرفون هذه الأمور على إخبار محركات الذكاء الاصطناعي ألّا تستخدم بياناتهم بنفس الطريقة التي يجري فيها أخبار عناكب غوغل بألا تزحف إلى موقعٍ معين عبر استخدام ملف « Robots.txt». وعملت شركة Spawning.AI على بناء أداة «Have I been Trained»، لتخبر الناس ما إذا كان محرك الذكاء الاصطناعي قد استهلك أعمالهم الفنية، وتمنحهم القدرة على إخبار المحركات بعدم الاقتراب منها في المستقبل. يقول درايهورست المؤسس المشارك لـ Spawning إن الأداة لن تعمل مع الجميع أو لكل محرك الذكاء الاصطناعي، ولكنها محاولة منا لحماية الحقوق، ويمكن اعتبارها تقنية ابتدائية إلى حين معرفتنا وفهمنا للذكاء الاصطناعي وما نرغب منه أن يفعله. وأضاف درايهورست في بريد إلكتروني أرسله لي: «هذه بروفة وفرصة لتأسيس عادات ستثبت قيمتها وأهميتها في العقود القادمة، ومن الصعب علينا الآن الاعتراف بأننا سنتمكن من فهم الذكاء الاصطناعي بعد سنتين أو 10 سنوات بالشكل صحيح».

التعليقات