ربّما نعرف كيف بدأ الكون لكن هل نعرف كيف ينتهي؟

عاصفة من الأبحاث خلال العقد الماضي حول الحياة الداخليّة للثقوب السوداء، كشفت عن روابط غير متوقّعة بين وجهتي النظر للكون. الآثار المترتّبة على ذلك كانت محيّرة للعقل، بما في ذلك احتمال أن يكون عالمنا ثلاثيّ الأبعاد

ربّما نعرف كيف بدأ الكون لكن هل نعرف كيف ينتهي؟

getty

طوال القرن الماضي، كان أكبر قتال في العلم يجري بين ألبرت آينشتاين ونفسه. على الجانب الأوّل، كان آينشتاين الذي تصوّر النسبيّة العامّة عام 1915، التي تصف الجاذبيّة بأنّها تشوّه في "الزمكان" بالمادّة والطاقّة. تنبّأت هذه النظريّة حينها، بأنّ الزمكان يمكن أن ينحني ويتمدّد ويمزّق ويرجف مثل وعاء من الهلام ويختفي في تلك الحفر التي لا نهاية لها من العدم المعروفة باسم "الثقوب السوداء".

وعلى الجانب الآخر، كان هناك آينشتاين أيضًا، الذي وضع بدءًا من عام 1905 الأساس لميكانيكا الكمّ، والقواعد غير البديهيّة التي تضخّ العشوائيّة في العالم، وهي قواعد لم يتقبّلها آينشتاين على الإطلاق. وفقًا لميكانيكا الكمّ، يمكن أن يوجد جسيم دون ذريّ، مثل الإلكترون، في أيّ مكان وفي كلّ مكان في وقت واحد. أيّ بمعنى آخر، وحسب الاستعارة العلميّة… يمكن للقطّة أن تكون حيّة وميّتة في الوقت نفسه، حتّى تتمّ ملاحظتها. وكثيرًا ما اشتكى آينشتاين في هذا الأمر قائلًا "إنّ الله لا يلعب النرد".

تحكم الجاذبيّة الفضاء الخارجيّ، وتشكّل المجرّات، بل الكون كلّه، في حين أنّ ميكانيكا الكمّ، تحكم الفضاء الداخليّ (الذرات والجسيمات الأوّليّة). منذ فترة طويلة، بدا أنّ هاتين المملكتين لا علاقة بينهما، وترك آينشتاين العلماء غير مجهّزين لفهم ما يحدث في المواقف المتطرّفة، مثل الثقب الأسود، أو بداية الكون على سبيل المثال.

لكنّ عاصفة من الأبحاث خلال العقد الماضي حول الحياة الداخليّة للثقوب السوداء، كشفت عن روابط غير متوقّعة بين وجهتي النظر للكون. الآثار المترتّبة على ذلك كانت محيّرة للعقل، بما في ذلك احتمال أن يكون عالمنا ثلاثيّ الأبعاد، ونحن أنفسنا، مجرّد صور ثلاثيّة الأبعاد، تمامًا كالصور الشبحيّة لمكافحة التزوير التي تظهر على بعض بطاقات الائتمان ورخص القيادة. هذه النسخة من الكون، لا فرق فيها بين هنا وهناك، لا فرق بين السبب والنتيجة.

في عام 2017، كتب ليونارد ساسكيند من جامعةة ستانفورد، ورقة بحثيّة قال فيها "قد يكون من الصعب جدًا أن نقول إنّ الجاذبيّة وميكانيكا الكمّ هما نفس الشيء تمامًا". لكن أولئك الذين ينتبهون منّا، قد يشعرون بالفعل أنّ الاثنين لا ينفصلان، وأنّ أيًّا منهما، لا معنى له دون الآخر". ويأمل الدكتور ساسكيند وزملاؤه أن تؤدّي هذه الرؤية إلى نظريّة تجمع بين الجاذبيّة وميكانيكا الكمّ - الجاذبيّة الكميّة، وربّما تشرح كيف بدأ الكون.

أينشتاين مقابل أينشتاين

دخل الخلاف بين آينشتاين وآينشتان إلى دائرة الضوء مع عام 1935، عندما واجه الفيزيائيّ الشهير نفسه في ورقتين بحثيّتين. حيث أظهر آينشتاين وناثان روزين، في إحدى الأوراق البحثيّة، أنّ النسبيّة العامّة تنبّأت بأنّ الثقوب السوداء (التي لم تكن معروفة بهذا الاسم بعد)، يمكن أن تتشكّل في أزواج متّصلة باختصارات عبر الزمكان، تسمّى "جسور آينشتاين - روزين" أو "الثقوب الدوديّة".

في خيال كتّاب الخيال العلميّ، يمكنك القفز إلى ثقب أسود واحد والخروج من الآخر. لكن في الورقة الأخرى، حاول آينشتاين وروزين وعالم فيزياء آخر يدعى بوريس بودولسكي، سحب البساط من تحت ميكانيكا الكمّ، من خلال كشف التناقض المنطقيّ الواضح، وأشاروا إلى أنّه وفقًا لمبدأ عدم اليقين في فيزياء الكم، فإنّ زوجًا من الجسيمات ارتبط ذات مرّة، سيكون مرتبطًا بشكل أبديّ، حتّى لو كان بينهما سنوات ضوئيّة، وإنّ قياس خاصيّة لجسيم واحد - اتّجاه دورانه على سبيل المثال - سيؤثّر بشكل فوريّ على قياس رفيقه، إذا كانت هذه الفوتونات تقلّبت مثل عملات معدنيّة، وظهر أحدهما على رأسه.

بالنسبة لآينشتاين، كان هذا الاقتراح سخيفًا بشكل واضح، ورفضه باعتباره "عملًا مخيفًا عن بعد". لكن علماء الفيزياء، يطلقون عليه اليوم اسم "التشابك"، وتؤكّد التجارب المعمليّة حقيقته كلّ يوم. ومؤخرًا، منحت جائزة نوبل لثلاثة فيزيائيّين أثبتت تجاربهم على مرّ السنين، حقيقة "هذا العمل المخيف".

ووصف الفيزيائيّ ديفيد ميرمين من جامعة كورنيل هذه الغرابة الكميّة بأنّها "أقرب شيء لدينا إلى السحر". كما أوضح دانييل كابات، أستاذ الفيزياء في كليّة ليمان في نيويورك "لقد اعتدنا على التفكير في أنّ المعلومات حول شيء ما - لنقل الكأس نصف الممتلئة - موجودة بطريقة ما داخل الجسم. التشابك يعني أنّ هذا غير صحيح. لا تملك الكائنات المتشابكة وجودًا مستقلًّا بخصائص محدّدة خاصّة بها، بدلًا من ذلك، فهي موجودة فقط فيما يتعلّق بأشياء أخرى". وفي تعقيب الدكتور ساسكيند، فقد قال إنّ آينشتاين ربّما لم يحلم أبدًا بأنّ هناك شيئًا مشتركًا بين ورقتين بحثيّتين عام 1935، لكنّ الدكتور ساسكيند وغيره من الفيزيائيّين، يتكهّنون الآن بأنّ الثقوب الدوديّة والعمل المخيف هما جانبان من السحر نفسه، وعلى هذا النحو، فهما مفتاح حلّ مجموعة من المفارقات الكونيّة.

رمي النرد في الظلام

بالنسبة لعلماء الفلك، فإنّ الثقوب السوداء هي وحوش مظلمة ذات جاذبيّة قويّة، إلى درجة أنّه بإمكانها التهام النجوم وتحطيم المجرّات واحتجاز الضوء. عند حافّة الثقب الأسود، يبدو أنّ الوقت قد توقّف، وفي مركزه، تتقلّص المادّة إلى كثافة غير محدودة وتتفكّك قوانين الفيزياء المعروفة، لكن حتّى بالنسبة للفيزيائيّين العازمين على تفسير تلك القوانين الأساسيّة، فإنّ الثقوب السوداء هي جزيرة كونيّة من الألغاز والخيال.

في عام 1974، أذهل عالم الكونيّات ستيفن هوكينغ العالم العلميّ بحسابات بطوليّة أظهرت لدهشته، أنّ الثقوب السوداء لم تكن أبديّة أو سوداء حقًّا، عندما أضيفت التأثيرات الكموميّة إلى الصورة، على مدى دهور، سيسرّب الثقب الأسود الطاقة والجسيمات دون الذريّة ويتقلّص، ويزداد سخونة وينفجر أخيرًا. في هذه العمليّة، كلّ الكتلة التي سقطت في الثقب الأسود على مرّ العصور، ستعاد إلى الكون الخارجيّ على شكل أزواج عشوائيّة من الجسيمات والإشعاع.

قد يبدو هذا بمثابة أخبار سارّة للفيزيائيّين، أو نوعًا من القيامة الكونيّة، لكنّها كانت كارثة محتملة للفيزياء. إحد المبادئ الأساسيّة للعلم، هو أنّ المعلومات لا تضيع أبدًا؛ قد تتناثر مثل كرات في كلّ اتّجاه على طاولة البلياردو، ولكن من الممكن دائمًا إعادة لفّ الشريط لتحديد مكانها في الماضي أو التنبّؤ بمواقعها في المستقبل، حتّى لو سقطت في ثقب أسود. ولكن إذا كان هوكنغ على صواب، فإنّ الجسيمات المنبعثة من الثقب الأسود كانت عشوائيّة، وهي ضوضاء حراريّة لا معنى لها ومجرّدة من تفاصيل كلّ ما وقع فيه. إذا سقطت قطّة، فإنّ معظم معلوماتها - الاسم واللون والمزاج - ستكون غير قابلة للاسترداد. ستضيع فعليًّا، سيكون الأمر كما لو أنّك فتحت صندوق الأمانات الخاصّ بك، ووجدت أنّ شهادة ميلادك وجواز سفرك قد اختفيا، كما صاغها هوكينغ عام 1967: "الله لا يلعب النرد فقط… بل يرميها أحيانًا، إلى حيث لا يمكن رؤيتها".

التعليقات