في لحظة فارقة من لحظات العلم الحديث، أعلن علماء مشروع "ديزي" (DESI) عن نتائج قد تهز أركان الفيزياء الكونية وتُربك المفاهيم الراسخة منذ أكثر من قرن، إذ تشير بياناتهم إلى أن الطاقة المظلمة، تلك القوة الغامضة التي كانت تُعتبر ثابتة ومحركة لتسارع تمدد الكون، قد لا تكون كذلك. بل الأدهى، أنها قد تكون في حالة تراجع، ما يعني أن الكون لا يتمدد إلى ما لا نهاية كما اعتُقد، بل قد يكون بصدد التباطؤ.
وتُعتبر هذه النتائج بمثابة تحدّ مباشر لما يُعرف بـ"الثابت الكوني" الذي أدرجه أينشتاين في معادلاته الشهيرة، ثم سحبه لاحقًا واصفًا إياه بـ"أكبر خطأ في حياته"، قبل أن تعيد الأرصاد الفلكية في أواخر التسعينيات إحياء الفكرة من جديد عندما كشفت أن تمدد الكون يتسارع بفعل قوة غير معروفة أُطلق عليها لاحقًا اسم "الطاقة المظلمة".
لكن بيانات مشروع "ديزي"، وهو اختصار لـ"مطياف الطاقة المظلمة" (Dark Energy Spectroscopic Instrument)، تشي بشيء آخر. فمن خلال دراسة توزيع وسرعة أكثر من 15 مليون مجرة وكوازار على مدى ثلاث سنوات، وجد الباحثون أن وتيرة التمدد الكوني ليست متجانسة كما كان متوقعًا. بل هناك مؤشرات على أن الكون قد بدأ في التباطؤ، ما يُخالف السردية السائدة حول تمدد أُسّي أبدي.
وفي حال تأكدت هذه الملاحظات، فإن ذلك يُعيد طرح أسئلة وجودية كبرى: هل الطاقة المظلمة بالفعل "ثابت كوني"، أم أنها متغيرة مع الزمن؟ وهل نحن على أبواب انهيار نموذجي "الكون المتمدد للأبد"؟ وماذا سيكون مصير الكون إذا ما تباطأ هذا التمدد بشكل ملحوظ؟
السيناريوهات المتوقعة كثيرة. منها، على سبيل المثال، سيناريو “الانهيار العظيم” (Big Crunch)، الذي يُفترض فيه أن قوة الجذب بين المادة ستبدأ بالتغلب على الطاقة المظلمة المتلاشية، لتعيد الكون إلى نقطة انكماش وانهيار شامل. أو سيناريو “التذبذب الكوني”، حيث يتناوب الكون بين التمدد والانكماش في دورات أبدية. أو ربما، سيناريو جديد تمامًا لم نتصوره بعد.
الباحثون يؤكدون أن هذه النتائج أولية، ويجب التعامل معها بحذر شديد. فرغم أنها تستند إلى أكبر مسح طيفي ثلاثي الأبعاد للمجرات أُجري حتى اليوم، إلا أن تفسيرها يتطلب فهمًا أعمق لطبيعة الطاقة المظلمة نفسها، التي تظل واحدة من أكثر الألغاز استعصاءً في الفيزياء الحديثة.
ويقول الباحثون في بيان رسمي: "النتائج لا تعني بالضرورة أن نظرية أينشتاين خاطئة، لكنها قد تشير إلى أن معادلاتها بحاجة إلى تعديل لتستوعب واقعًا كونيًا أكثر تعقيدًا مما كنا نعتقد".
ومن المقرر أن تُستكمل أبحاث “ديزي” خلال السنوات المقبلة بمسح نحو 35 مليون جرم سماوي إضافي. كما ستُدعم هذه البيانات بنتائج من مشاريع أخرى، مثل تلسكوب جيمس ويب، والمرصد الفضائي الأوروبي "إقليدس"، وتلسكوب فيرا روبين في تشيلي، الذي يُنتظر أن يبدأ عملياته قريبًا.
وكل هذه الجهود تسير باتجاه هدف واحد: فهم أصل ومصير الكون، هذا السؤال الذي بدا لوهلة أنه بات قاب قوسين أو أدنى من حله، لكنه اليوم يبدو أكثر تعقيدًا وغموضًا من أي وقت مضى.
وربما، كما حدث في كل المنعطفات الكبرى في تاريخ العلم، يكون هذا التناقض الجديد هو المفتاح لقفزة معرفية هائلة، تقلب الموازين، وتفتح لنا أبواب كون لم نكن نراه.
التعليقات