أمام المجزرة؛ عن "راس روس" أمجد غنّام

'لا يمكن لنا أن نسمّي فنًّا إلّا ما هو إنسانيٌّ حقًّا.' - روجيه غارودي.

'حتّى الهواء الّذي في اللّوحة ليس هو الهواء الذي نتنفّسه.' - إدغار غودا.

يحيلنا عنوان معرض أمجد غنّام الجديد، 'راس روس' (2016)، إلى دروس خليل السّكاكينيّ التّربويّة، 'راس روس... دار دور'، وهو ما يحفّز إلى تبيان العلاقة بين النّصّ والصّورة في أعماله.

نُصدم، عند مشاهدة الأعمال، بعدم علاقتها بالعنوان، إذ تخرجنا من هذا السّياق إلى مجموعةٍ من الرّؤوس المغطّاة بأكياسٍ وأقنعةٍ من الخيش، والمكبّلة في أغلب حالاتها بالأصفاد، في دلالةٍ على هشاشة الإنسان في مواجهة الموت، وقدرته على المقاومة للبقاء حيًّا رغم كل الظّروف الّتي تحيط به، من سلبٍ وقمعٍ لحرّيّته الفرديّة، بغضّ النّظر إن كانت سياسيّةً أو غيرها.

يقدّم غنّام أشكاله المفترضة من الرّؤوس الّتي تتحرّر من الأصل النّصّيّ نحو أصلٍ بصريّ، مؤسّسًا بها ذاكرةً بصريّةً عامّةً، تقدّم دلالاتٍ وبراهينَ على سيرورة البقاء أينما كان.

الاقتباس الصوريّ

يرتكز التّصوّر البصريّ الذّاتيّ لغنّام على تأكيد الأنسنة في مواجهة الموت، واعتماد تقنيّة 'الصّورة المركّبة' في ما يقدّمه من محتوًى بصريّ في معظم أعماله، وما ينتهجه من اقتباسٍ لمقاطعَ من أعمال فنّانين آخرين في عملي 'السّتارة الزّرقاء' و'قيم' مثلًا؛ إذ يقتبس فيهما من عمل 'الجيرنكا' الشّهير للفنّان الإسبانيّ، بابلو بيكاسو. ورغم اختلاف أسلوبي الفنّانين وطريقة رسمهما للّوحة، من حيث التّركيب وتوظيف الخطّ واللّون، إلّا أنّ أعمال غنّام تبرّر ذاتها بأفكارها الّتي تضفي عليها الطّابع الملحميّ، عبر توظيف أعمال بيكاسو، وبذلك تحقّق رؤيتها في التّقاطع مع أعمالٍ عالميّةٍ وتوظيفها في عملٍ فنّيٍّ معاصر.

ليس توظيف الأعمال العالميّة أمرًا سهلاً على الفنّان، فهو مخاطرة، مع ضرورة حفاظه على أسلوبه الذاتيّ دون الوقوع في فخّ التقليد، وقد استطاع غنّام فعلًا أن يحافظ على المسافة بين أسلوبه الذاتيّ والأعمال المقتبسة.

إنّ إقحام 'الاقتباس الصّوريّ' في هذا المشهد الملحميّ المركّب، والّذي يتداخل مع عمل بيكاسو، هو بالضّرورة إقحامٌ يجب أن يوازي الألم الإنسانيّ في أعمال الأخير، ويعيد ربطه بالإنسان أينما وُجد، دون الإفراط في محلّيّة العمل الّتي تبقى صامتةً أمام العالم، والّتي لا يمكن فهمها دون استخدام هذه ' الشّيفرة '  في محاولة فهم الألم الإنسانيّ والتّضامن معه، وتوريط المشاهد في المقارنة، والعمل على فكّ رموزها مرّةً أخرى، والخروج بنتيجةٍ ترضي كافّة الأطراف، من الفنّان وصولًا إلى المتلقّي.

لكنّ التّنوّع في الأعمال بين الأسلوب الاقتباسيّ والذّاتيّة شبه المفرطة، تضعنا أمام تساؤلاتٍ حول ماهيّة الأعمال، وما تقدّمه من خطابٍ بصريٍّ تجديديٍّ على الصّعيد الفرديّ.

رغم النّقلة الكبيرة في أسلوب غنّام عمّا قدّمه سابقًا، والتّحوّلات الطّارئة عليه، وقدرته على المزج بين جماليّات العمل الفنّيّ ومفاهيمه، الّتي تفتح التّساؤلات على ماهيّة العمل من النّاحية الفكريّة، وقدرته على التّلاعب التّقنيّ في العمل، مستخدمًا عدّة أساليب، ما بين التّجريديّة والتّعبيريّة والواقعيّة، الّتي تشكّكنا في نضوجها للوهلة الأولى، إلّا أنّه، وعند التأمّل أكثر في أعماله، نجد في رؤيته اتّزانًا، وقدرةً على تشذيب أشكاله وحصرها في التّناغم اللّونيّ والتّقنيّ.

يشابه عمل 'أمام المجزرة '  أسلوبيًّا، من حيث الشّكل، عملي غنّام السّابقين، ' السّتارة الزّرقاء' و'قيم'، في اقتباسٍ لعمل بيكاسو، ' مذبحة طوكيو 1951'، المحاكية للوحة فرانثيسكو غويا، 'إعدام الثّوّار 1808'، في حين أنّ بقيّة الأعمال لا تخضع لهذه المقارنات البصريّة، وهي رغم خروجها من هذه المقارنات، تظلّ في ذهن المتلقّي مرتبطةً بعنوان المعرض، 'راس روس'، وإن كانت تخلو من دلائل ومؤشّرات تدلّ على علاقةٍ مباشرةٍ معه؛ لكن، ربّما يكون النّفي تأكيدٌ للثّابت والحقيقة.

 قيم | اكريليك وفحم على قماش | متر بمتر | 2015.

تعدّد المفردات

يقوم تصوّر غنّام البصريّ، أيضًا، على تنوّع أسلوبه في استخدام المفردات الإنسانيّة، والّتي تفتقد في الوقت ذاته إلى مفهومٍ محدّدٍ لما يحاول عرضه؛ فتارةً نجد الأسرى في لوحاته، وتارةً جسدًا نحيلًا لأشخاصٍ يعانون الحصار، وأخرى كالسّفينة الورقيّة وعلاقتها بحلم الطّفولة وطوق النّجاة، أو الطّائرة الورقيّة؛ ومرّةً يتعدّد الأسلوب ما بين التّعبيريّة والتّجريديّة في لوحة 'صورةٌ جماعيّةٌ'.

تدلّل هذه المفردات المتعدّدة على كثرة المواضيع الّتي تشغل بال الفنّان، وتدلّل أيضًا على أفكاره المتعدّدة، وأسئلته اللّا منتهية عن جدوى قدرة الإنسان على البقاء؛ إن كان بتخليدها في الأعمال الفنّيّة، أو بقائها صامدةً أمام الموت، حيثما تقيم، تحت الحصار، أم في السّجون وغيرها.

أمجد غنّام، فنّانٌ ناشطٌ، ودائم البحث عن مفرداته البصريّة، وقد قدّم تجاربَ متنوّعةً في مشروعه الفنّيّ؛ نراه الآن يتطرّق لشكلٍ جديدٍ في أعماله، ويعدّ معرضه 'راس روس' خطوةً في الاتّجاه الصحيح نحو تكريس رؤاه الفنّيّة، وإثبات قدرته على التّنوّع والتّجديد؛ لكن الفنّان مطالبٌ دائمًا بتقديم مبرّراتٍ بصريّةٍ لعنوان المعرض، والّذي يُعدّ مفتاح العمل بعامّة.

يمكن القول إنّ معرض 'راس روس' من التّجارب القليلة المميّزة في فلسطين، الّتي تختلف عن السّائد، ولا شكّ في أنّنا سننتظر المعرض القادم لأمجد غنّام ليثبت صحّة توقّعات أهمّيّة هذه التّجربة وقدرتها على المنافسة محلّيًّا ودوليًّا.