الفنّ النّاجي من الحرب

تشكّل الأعمال الّتي يضمّها معرض 'ما وراء الحلم'، الّذي أُقيم مؤخّرًا في جاليري  بيت مريم في رام الله، خلاصة مرحلةٍ جديدةٍ ضمن مسيرة الفنّان رائد عيسى، وهي مسيرةٌ يمكن القول إنّها انطلقت بشكلٍ جديدٍ منذ عام 1999، حين تتلمذ على يد الفنّان السّوريّ - الألمانيّ مروان قصّاب باشي، ونهل من خبرته التّشكيليّة.

الملثّم، هويّةً بصريّةً

ومنذ عام 2011، بدأ رائد عيسى الانتقال من رسم المشاهد والأمكنة إلى رسم شخوص الأمكنة، ويبدو الفتى الملثّم بالكوفيّة بطل هذه الشّخوص، فهو حاضرٌ بقوّةٍ مستمدّةٍ من رسوخ صورة الفلسطينيّ في الوعي الجمعيّ منذ انتفاضة الحجارة. واليوم، حيث تشهد فلسطين مظاهر انتفاضةٍ واضحة، يأتي هذا المعرض، برسوم الملثّم الّتي أُنجز بعضها منذ عام 2011، تأكيدًا على التصاق الانتفاضة بالهويّة الفلسطينيّة، وعلى تحرّر مفهوم الانتفاضة من قيود الحدود الزّمنيّة والمكانيّة، وليصل إلى رتبة المرادف للوجود الفلسطينيّ، وليعرّف نفسه تكوينًا جوهريًّا في فسيفساء الهويّة وفي طبقات الوعي الفرديّ والجمعيّ.

ما يزيد من زخم التّجربة الّتي يقدّمها رائد عيسى في أعمال هذا المعرض، أنّ أغلبها من بين أعماله النّاجية من الحرب، فقد حالفها الحظّ في أنّها كانت محفوظةً في مكانٍ خارج بيت الفنّان الّذي دُمّر خلال الحرب الأخيرة على غزّة؛ غير أنّ هناك أعمالًا لم تَنْجُ تمامًا، استطاع الفنّان أن ينقذ بعضها ويخرجه من تحت الدّمار والرّكام، واحتفظ بها بعدما أدخلت عليها شظايا القذائف والتّشقّقات الّتي أحدثها الدّمار أبعادًا بصريّةً جديدةً، وبالتّالي أصبحت لها أيضًا أبعادٌ مضامينيّةٌ جديدةٌ.

المسافة بين المكان وإنسانه

لا يميّز تجربة رائد عيسى في هذا المعرض انتقالها من رسم المشاهد الطّبيعيّة والمكانيّة إلى رسم الشّخوص فحسب، بل أيضًا نضج التّجربة البصريّة الّتي تتراوح في المسافة بين المكان وإنسانه، فيتمركز اشتغال هذه التّجربة الجديدة حول تلك الرّابطة بين وجدان الإنسان والاحتمالات والحالات الشّكليّة المختلفة للمكان المتراوح بين كآبةٍ وبهجةٍ. ولا شكّ أنّ المخيّم، مكانًا يختزل مكوّناتٍ هويّاتيةً راسخةً في الوعي الجمعيّ، قد لعب دوره في التّشكيل الإنسانيّ والإبداعيّ لتجربة الفنّان.

بأسلوبٍ تعبيريّ، يقترب من تجريد الأشكال في بعض الأحيان، ويبتعد عن المطابقة الواقعيّة التّصويريّة للشّخوص والمشاهد؛ تذهب ريشة رائد عيسى إلى إبراز الوجدان وجوّانيّة الشّخوص، عبر إظهار ملامح التّرقّب والقلق والانتظار والخوف والكآبة والأمل والقوّة، مشاعرُ غنيّةٌ تختلط على الرّائي قراءتها أو تحديد ماهيّتها في بعض الأحيان، لشدّة تشابكها وتداخلها في الذّوات الّتي تمثّلها شخوص الأعمال. من بين تلك الأعمال مجموعةٌ تصوّر ملثّمًا بالكوفيّة يحمل العود كما يحمل المحارب سلاحه، في إشارةٍ واضحةٍ غير مراوغةٍ إلى دعوةٍ تمزج وتربط بين فعلي المقاومة والفنّ، غير أنّها في ذات الوقت تفتح الباب أمام تعدّد التّأويلات، ما يؤكّده عملٌ آخرُ يصوّر الملثّمين يرقصون الدّبكة حول باقةٍ من الزّهور، موضوعةٍ على كرسيٍّ في منتصف الحيّز. في لوحاتٍ أخرى، ينام الملثّم محتضنًا العود أو وحيدًا بلا شيءٍ سوى الكوفيّة ــــ اللّثام، والكرسيّ الّذي يبقيه على بعض يقظة، كما في عملٍ يصوّر التّضاد بين عنفوان المقاومة ـــ المختزَلة في الملثّم ـــ والكرسيّ الدّالّ على القعود ومراوحة المكان. ما يزال العود الدّالّ على الشّرق الحالم حاضرًا في لوحاتٍ أخرى، بكتاباتٍ عربيّةٍ تظهر من بينها كلمة 'فلسطين'، في إصرارٍ على تحديد البقعة المكانيّة الّتي ينتمي إليها الشّخوص.

مشهديّة الذات

تتكشّف الوجوه في بعض الأعمال، لكن تبقى الكوفيّة حاضرةً حول الأعناق، دالّةً ومؤكّدةً على فلسطينيّة الإنسان؛ الطّفلة حاملة الورد، والطّفلة الحاملة لدميتها، والطّفل المستلقي نائمًا على حقيبة سفر، وشخوصٌ آخرون، من بينهم الشّيخ والمرأة، وأغلبهم فتيةٌ وأطفالٌ، يحضرون بقوّةٍ محدّقين في الرّائي أو في الحلم أو في زمن الانتظار؛ ذواتٌ تقف أمام مراياها، باحثةً عن إجاباتٍ لأسئلةٍ أفرزها واقع الحرب والأزمات والتّعقيدات المحيطة بمكانٍ على حافّة موتٍ وأملٍ في آن.

تكتمل مشهديّة الذّات بمشاهدَ من المكان المحيط بها، من خلال أعمالٍ أخرى يصوّر بعضها بيوت المخيّم بألوانٍ زاهيةٍ مبتهجةٍ مقبلةٍ على الحياة، في حين يصوّر بعضها الآخر ركام وأطلال بيوتٍ خرجت حالًا من غاراتٍ غيّرت في لحظةٍ المشهد والجغرافيا، وأعطت للمكان سواد دخانها.

ما وراء الحلم ـــ وراء الصّورة

وهكذا يمكن القول إنّ أعمال رائد عيسى تُبْصِرُ تشكيليًّا بعدين يكمّل أحدهما الآخر: بعدٌ جوّانيٌّ يرصد حالات الذّات الإنسانيّة، وبعدٌ آخرُ أفقيٌّ يلتقط أحوال المكان المحيط بالذّات؛ يتداخل العنصران لدرجةٍ يصعب عندها الفصل بينهما، فيصبح كلٌّ منهما دالًّا على الآخر، ملتصقًا به متماهيًا معه؛ ففي الأعمال الّتي تصوّر شخوصًا، يحضر المكان في الخلفيّة حلمًا، لكنّه معرّفٌ ومعروفٌ بالرّموز الدّالّة عليه: الكوفيّة، والعود المكتوب عليه 'فلسطين'، والصّبّار، والسّجّاد الملوّن، وحقيبة السّفر الدّالّة على التّشرّد ما بعد الحرب والتّنقّل والعبور على الحواجز والحدود. وكذلك أمر الأعمال الّتي تصوّر المكان في حين يختفي الشّخوص، لكنّهم حاضرون بما يدلّ على وجودهم، كما في عملٍ بعنوان 'بقايا'، يصوّر ركام ما بعد الحرب؛ كوفيّةٌ، ودمى، وأجزاءُ من دمى، وجهاز التّحكّم بالتّلفاز، وأحذيةٌ، وغيرها من عناصرَ دالّةٍ على شخوصٍ لم يُعرف إن كانوا ناجين أم دُفنوا تحت الرّكام، وهكذا تصل الرّابطة بين المكان والإنسان ذروتها، وتذهب إلى ما وراء صورتها.

بقايا | رائد عيسى

المكان والإنسان في أعمال رائد عيسى حاضران بوجدانيّةٍ لونيّةٍ تعبيريّةٍ تُجَرَّدُ فيها الأشكال من واقعيّتها، وتتمرّد على حدود ملامحها ومعالمها التّصويريّة، وتستعين بقوّة ووضوح الألوان والخطوط الّتي تشكّل في تناغمها وتداخلاتها التّكوين البصريّ اللّازم للحالة موضوع العمل. تزيد الخطوط القويّة والحادّة من شدّة حضور الشّخوص المصوَّرين بتكوينهم العامّ، لا بتفاصيلهم التّشريحيّة؛ بينما تتنقّل الألوان بين التّركيز حينًا والانسياب السّائل حينًا آخر، لتبدو الشّخوص في حالةٍ أشبه بالحلم، فالحلم جوّانيٌّ ـــ ذاتيٌّ، بينما الواقع خارجيٌّ ـــ عامٌّ، وهكذا هو المكان في أعمال رائد عيسى، يحضر باكتظاظ بيوته وبركامها، ليبدو أشبه بطبقاتٍ تسكن ذوات ساكنيه، بل تقترب صورة المكان من شكل التّجريد الهندسيّ أحيانًا؛ هذا الجنوح نحو التجريد دالٌّ على البحث التّشكيليّ عميقًا في الصّورة الإنسانيّة ــــ المكانيّة، إذ يسعى هذا الاشتغال التّشكيليّ إلى إبراز ما بين طبقات الشّخوص والأمكنة وما وراءها، وما وراء حلمها بعد النّجاة من حربٍ ماضيةٍ، وأملها في جماليّات حياةٍ ناجيةٍ من حربٍ محتملةٍ قادمة.

ما وراء الحلم | رائد عيسى