الإدمان، كمادة للتعبير الفنّيّ في معرض "جمرة الأرض"

بذوقٍ عالٍ، وابتسامة لا تنقطع، جلست رنا البطراوي بين لوحاتها للحديث معنا، تبدو سعيدة بما فعلت، تحدثت بصوتٍ مسموع وهي تشير لنا إلى كل تلك التّفاصيل الدقيقة التي تحملها تركيباتها في معرضها 'جمرة الأرض' الذي يقام في 'محترف شبابيك' بمدينة غزّة، الكلام كان سهلًا متدفقًا، خفيفًا، تلاحقت كلماتها وهي تتحدث، الكلام في المعارض التشكيليّة قد يبدو صعبًا على أصحابها، لكن لم تشعر رنا بالصعوبة وهي تتناول لوحاتها بترتيب مقصود، رحلة للعين تبدأ في لوحة وتنتهي في تركيب ينتصف المكان، تقول: 'أنا لم أتناول المشكلة فقط، لقد طرحت الحلول لها أيضًا'، في إشارة مقصودة بأن الفنان لا يعبئ بحلّ المعضلات، هو فقط يحاول وصفها، رسمها، إضفاء الجمال عليها، لكنه لا يقول لنا ما علينا فعله.

المعضلة التي تناولها المعرض تبدو للوهلة الأولى أمرًا عسيرًا على التّعبير، وربما مادة زخمة ليس سهلًا على ريشة فنان أن يلامسها، أن يغوص في تعقيداتها، أن ينقلها لعين النّاظر كما جاءت في خياله وأفكاره.  كيف يمكن أن يتناول فنان تشكيليّ قضية كقضية الإدمان؟

رنا البطراوي ابنة الثّانية والثّلاثين، تحدثت قائلة في مطلع كلامها: 'الإنسان كالنخلة، لا يمكن للنخلة أن تفقد ثباتها، حتى لو تغيرت عليها المواسم، حتى لو ماتت، قد يسقط سعفها، لكنها ستبقى واقفة وثابتة، هذه لوحتي الأولى تخبركم بذلك'.

أكملت وهي تشير للوحة الأخرى، وتقول: 'الشّاب في غزّة يختار طريق من اثنين في مطلع شبابه، إما أن يختار صعود السّلم نحو طموحه، أو أن يختار النّظر من النّافذة في الغرفة المغلقة، وهذا هو رأيي في الإدمان، الإدمان يجعلك تنظر من النّافذة وتتحسر على أولئك الذين يصعدون السّلالم أمام عينيك، فيما أنت رهين عدم قدرتك على الخروج من الغرفة أو التّوقف عن النّظر من النافذة'.
 

تجسيدات الإدمان الفنّيّة

في صدر المعرض هناك تركيب من صفائح حديديّة لرجل يجلس مهمومًا، فيما تحيط به من الخلف بعض التّراكيب ذات الإشارة؛ مادة بيضاء في كيس (إشارة لمادة الهيروين)، وحقنة، وتركيب لمادة بنيّة اللون (إشارة للحشيش)، وشريطي مخدر التّرامادول، تقول البطراوي: 'هذا الشخص مركب من الحديد، وكما ترى يعلو ظهره كتلة حديديّة في إشارة للثقل الذي يعانيه المدمن، الحديد إذا تركناه، يصدأ، ثم تضعف جزيئاته فيتفتت مع الزّمن، وهذا حال المدمن، يصدأ مع الوقت، رغم أنه من جمر الأرض'، وتضيف: 'نحن في غزّة مررنا بالكثير من الصّعوبات والأزمات التي تصنع منك كائنًا فولاذيًا وصلبًا، لكن هناك أيضًا من يسقط في فخ الواقع، يصبح همّه الأكبر الهرب منه، واللجوء للمخدرات التي سرعان ما تفتك بجسدك، بعلاقاتك الاجتماعيّة، بمالك، بل قد تحولك لسارقٍ وهكذا تفقد إنسانيتك، وتصبح صدئا مع الوقت، قد تتفتت في أي لحظة'.

تحمل اللوحات القريبة من هذا التّركيب ألوانًا باهتة كلوحةٍ فيها ورقة شجر صفراء اللون، وردة لونها أزرق داكن 'مخنوق' ولوحة أخرى ظهر بارزًا منها خرطوم شيشة يمسكها شخص في اللوحة يبدو عليه الخمول، هذه الزّاوية مُشار إليها بسهمٍ على الأرض، يخرج من دائرة في مدخل المعرض.

بعد أن انتهت الفنانة من التّحدث عن تلك الزّاوية عادت لتقف في الدّائرة، وقالت مشيرة للسهم: 'هذا السّهم يصحبك للإدمان، فيما هذا السّهم الآخر( وأشارت لسهمٍ آخر طويل يتجه نحو الزّاوية الثّانية من المعرض) وهذا السّهم هو حياتك الحقيقيّة التي يجدر على الإنسان التّمسك بها، أو العودة لها إن سلك الطريق الآخر'.  كان يشير السّهم إلى تركيب آخر لشخصٍ يقف على قدميه، ويبتسم، وهو مصنوع من ذات الصّفائح، فيما بجانبه تركيب من دوائر متفاوتة القطر لتواريخ ميلاد وكلمات دالة ورموز، تحدثت البطراوي عن الدّوائر بشغف، كل دائرة تعني لها شيئًا، ثم ذهبت بنا إلى تركيب آخر لتوقيتات معينة ودقيقة في ساعات حائط متراصة بجانب بعضها، ثم انتقلت بنا للوحة فيها فحمٌ أسود على أرض حمراء ويخرج منه شمع أبيض، تقول أنه يشير إلى كل تلك الأيام التي قضيناها بلا كهرباء في غزّة.
تابعت رنا، وهي تقف في هذه الزاوية: 'كل الأفكار تلك التي دخلت إلى رأسك منذ الصّغر تجعلك ثابتًا وصلبًا، وليس من السّهل كسرك، وإذا أراد مدمن ما أن يتعالج من إدمانه، عليه أن يراجع كل تلك الأفكار والمواقف والخيالات التي رسخت في رأسه مع الوقت، وهي كفيلة بإعادته لما كان عليه'.
 

في منتصف المعرض، هناك صفائح معلقة مطلية بألوان متنوعة، تحدثت لنا رنا عن هذه الصّفائح مشيرة إلى أن الإدمان لا يقتصر فقط على المخدرات، ولا على الشّباب، بل على أشياء ثانيّة كثيرة، مثل الهاتف المحمول وما عليه من تطبيقات الهواتف الذّكيّة، مثل 'كاندي كرش' و'سناب شات' وغيرها. تشير لصفيحة عليها إشارة 'اترك محمولك' وتقول بأن الحل للإدمان يبدأ من حيث تحديد إدمانك، والبدء بالخروج منه، ومقاومته، لأنه لن يتحقق الإبداع أو صعود السّلم نحو الطموح، أو حياة اجتماعيّة آمنة إلا بالتوقف عن الإدمان، والحياة تقف خلف حاجز رقيق، مجرد أن تتجاوزه، ستجد أنك في عالم آخر كنت متغافًلا عنه منذ كثير.

ختامًا لحديثها، قالت رنا: 'الروح هي التي تبقى ويفنى الجسد، والفنّ هو روح هذ الجسد، ويجب أن نزرع مقومات الحياة في داخلنا، لكي نبقى، قبل أن يتأخر الوقت ونندم '.
 

ضرورة الالتفاف حول الحركة الفنّيّة الغزّيّة

من الجدير بالذكر أن 'محترف شبابيك' استضاف معرض 'جمرة الأرض'، وكان قد  حضر الافتتاح لفيف من الشّخصيات العامّة والفنّانين وعائلة الفنانة، وقد أبدى الحضور إعجابهم بالمعرض والإشادة بلوحاته، وبضرورة تناول مثل هذه القضايا، وإعادة الالتفاف حول الحركة الفنّيّة في قطاع غزة ودعمها والتّرويج لها لتصل إلى الجميع، ولتكون منصة من منصات التّغييرعند الجميع، في الوقت الذي تنحرف فيه بوصلة الناس ليزداد المنغلقون انغلاقًا، ويفر المتحررون من غزّة.

رنا البطراوي

رنا البطراوي
رنا البطراوي حاصلة على بكالوريوس في التّربيّة الفنّيّة من جامعة الأقصى، وتعمل في مجال الفنّ التشكيليّ، معرضها هذا، جسّدت فيه عملية إعادة تدوير الأشياء والإستفادة منها، إذ تقول بأن كل المواد التي صنعت منها تركيباتها هي من المخلّفات، وهو ما يمكن أن يُفهم في سياق الحياة أن هناك أمل في ترميم المواقف وتوظيفها لاستعادة ثقة الإنسان بنفسه وبمن حوله.

رنا أيضًا عضو في الجمعيّة الدّوليّة في تركيا كممثلة عن فلسطين، وعضو لجنة تحكيم في مسابقة 'رسمك فكرك' مع جمعيّة زاخر، وهذا معرضها الثّاني، حيث أقامت الأول في العام 2011 بعنوان 'زهرة الصّبار'.  

شاركت الفنّانة في العديد من المعارض المحليّة والدّوليّة، في نيويورك وفي تركيا وفي أريحا، وعملت أيضًا مع مؤسّسة عبد المحسن القطّان في مجال تعليم الأطفال فنّ النّحت والتّجسيد.