يشترون القصص: طوابع وعملات غزّة في مزاد

جنيه فلسطينيّ | عدسة ضياء المصري

بدأ الأمر مع دعوة وصلتنا عبر فيس بوك، من محمّد الزّرد، مؤسّس رابطة هواة جمع العملات والطوابع هنا، في غزّة، تحت عنوان 'اللقاء الشهري الثاني عشر.'

وفي تفاصيل الدّعوة جاء: 'سيتم إلقاء محاضرة هامة ونادرة في فلسطين في هذا اللقاء، عن هواية جمع الطوابع ومبادئها الأساسية، وذلك عبر استضافة أستاذ الطوابع الفاضل/ أ. منذر كرّاز، مدير الخدمات البريدية بوازرة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات.'

اتّصلنا، أنا وصديقي ضياء المصري، بالقائمين للتّأكّد من ماهيّة اللّقاء، طلبنا منهم إذنًا بالحضور بصفتنا صحافيين مهتميّن، فرحّبوا بنا. وصلنا إلى لمكان في الموعد المحدّد، دخلنا صالة واسعة في بيت أحد أهمّ أعضاء الرّابطة - إذ يشكو القائمون من عدم توفّر مكان خاصّ بها - فوجدنا 25 شخصًا حاضرين في المكان، ما بين رجال كبار في السّنّ هواة، وشبّان وفتيان، حتّى أطفال، بحضور القهوة والتّمر. بدت لنا بين الحضور ألفة، وأنّهم يعرفون بعضهم البعض، تشعر للحظة أنّهم عائلة. رحّب مدير الرّابطة بالحضور، ثمّ دعا الأستاذ منذر كرّاز ليقدّم محاضرته.

السِّجِلّ

تحدّث كرّاز عن هواية جمع الطّوابع البريديّة وأهمّيّتها، معرّفًا بداية بالطّابع البريديّ: 'طابع البريد علامة أو ملصق أو تصميم مدموغ أو مطبوع، محدّد القيمة، وتصدره وزارة الاتّصالات وتكنولوجيا المعلومات لتحصيل الرّسوم والأجور لأغراض التّخليص، استنادًا إلى تشريع ساري المفعول (التّعرفة البريديّة)، وتُدمغ على كلّ بريد طوابع بسعر معيّن، ليمثّل الدّولة الّتي أتى منها البريد،' وأشار إلى أنّ لكلّ طابع بريد شهادة ميلاد محفوظة لدى وزارة الاتّصالات وتكنولوجيا المعلومات، وأنّها تُوزّع مجّانًا للهواة في فلسطين.

وأشار كرّاز إلى أنّ طابع البريد سِجِلّ للذّاكرة، إذ تنبع أهمّيّة من أنّه حيّز لتخليد تاريخ شعب أو دولة ما وحفظه بصورة جماليّة، وذلك من خلال توثيق الأحداث المهمّة، وإبراز الأعلام، سواء في الأدب أو الفنّ أو السّياسة أو الفكر أو الجيش، وكذلك إبراز ما تتميّز به الأمم والشّعوب من منجزات حضاريّة وتراث، وهو يساهم في إحياء الموروث الشّعبيّ أو الثّقافيّ، وإظهار ما تنفرد به طبيعة بلد ما، كما أنّه يعدّ تجسيدًا لحركة الشّعب نحو النّهضة.

كلّ ذلك يدفع الباحث والرّاغب بالمعرفة إلى البحث عن طوابع البريد والاستقصاء، وفق كرّاز، كما أنّ تنوّع أشكالها ومضامينها تمكّن المرء من الاستمتاع بجمالها والاستفادة من غناها، حتّى أنّه من المتّبع لدى شعوب عديدة تهاديها بين النّاس، وقد استُخْدِمَت للدّعاية وتشجيع السّياحة. وقد تطرّق كرّاز خلال حديثه، إلى كتاب 'ثقافة الأمم على طوابع البريد'، للكاتبة سهير متولّي، نُشر عام 2006، مشيرًا إلى ضرورة اقتنائه والاطّلاع عليه للمهتمّين بطوابع البريد وهواة جمعها.

انقسام الطّوابع!

حين تساءلنا عن كيفيّة إقرار ما مضمون طابع معيّن، أبلغنا كرّاز أنّ مسابقة تُنظّم كلّ مدّة، ويتقدّم لها فنّانون وأصحاب أفكار إبداعيّة، وتختار لجنة متخصّصة فكرة الطّابع الفائزة، وبهذه الطّريقة تُختار الطّوابع البريديّة الجديدة ويُعلن عنها في حفل تدشين. وقد أشار إلى إنّ هواة كثيرين، ومن شتّى بقاع الأرض، يحوزون على طوابع بريديّة فلسطينيّة قديمة وحديثة،' فهي جزء من إثبات وجودنا الّذي تنكره إسرائيل،' على حدّ قول أحد الهواة.

وعرّج كرّاز على بعض ما احتوته طوابع بريد غزّة في السّنوات الأخيرة؛ فثمّة طوابع تحمل صورًا لشخصيّات سياديّة، مثل الرّئيس الرّاحل ياسر عرفات، وأحمد ياسين، وعزّ الدّين القسّام، وثمّة طوابع توثّق معاهدات سياسيّة مثل اتفاقيّة غزّة - أريحا عام 1994، ومنها ما يبرز الثّوابت الوطنيّة، والعلاقات الدّوليّة، وأخرى توثّق الاحتلال الإسرائيليّ، فثمّة طابع لتخليد شهداء أسطول الحرّيّة، وآخر صدر في الذّكرى الـ 63 للنّكبة. ومن الطّوابع ما يحتوي على الفولوكلور الفلسطينيّ، كالأزياء الشّعبيّة، وكذلك أعمال فنّيّة لأطفال، ومنها ما يوثّق الأعياد والطّقوس الدّينيّة، أو ما يبرز الجامعات الفلسطينيّة ودور الشّباب.

ختم السّيّد منذر كرّاز كلامه بالتّأكيد على أنّ مشكلات الانقسام الفلسطينيّ وصلت للطّوابع البريديّة، موضحًا أن ثمّة خلل في الطّباعة لعدم اتّفاق شقّي الوطن على مضامين ومراسيم إنشاء الطّوابع، وأنّه لا بدّ من الاهتمام بالموضوع لأهمّيّته، مؤكّدًا على أنّ 'الطّابع الفلسطينيّ يبقى السّفير الّذي يطير على أجنحة الرّسائل،' في محاولة لاستحضار ما له من قيمة وما عليه من التزام.

مين يزوّد؟

بعد إنهاء كرّاز محاضرته، أعلن مدير الجلسة عن بدء المزاد العلنيّ. عرّج على بعض التّعديلات على قوانين مسبقة، وعن بعض الأخطاء الطّفيفة الّتي حصلت في المرّات السّابقة، ثمّ بدأ الهواة بإخراج حقائبهم، وراحوا يستعرضون ما جنوه خلال شهر مضى.

عرضوا بعض السّاعات، أكياس من العملات المتنوّعة بأسعار بدا لنا أنّها منخفضة. ثمّة وتوتة بين الهواة، وصمت، ثمّ تدريجيًّا راح مدير المزاد يستعرض عملات نادرة وقديمة، وطوابع بريديّة. بالفعل، بدأ المزاد، وحضرت المناوشات والمزاودات، لتمتزج مع بعض الضّحكات والمباركات المتبادلة حين يتمكّن أحدهم من الحصول على غرض ما.

ردّ عليّ أحدهم، بعد أن سألته إن كان بإمكاني المشاركة في المزاد، وهل يجب أن أكون عضوًا في الرّابطة لدخوله، فقال: 'بالطّبع لا، يمكنك شراء ما تريد، ومن يدفع أكثر يشتري... هذا قانون هنا.' وأضاف بعد أن مال إليّ: 'لا تشتري السّاعات، نحن جميعًا وقعنا في الفخّ، ثمّة الكثير من المزيّف وغير الأصليّ.' قال ذلك خلال استعراض مدير المزاد لبعض السّاعات!

تحت أنقاض الشّجاعيّة

يقولون إنّهم يجتمعون مرّة واحدة كلّ شهر، هذا بالنّسبة لهم حفلهم، والّذي يتسابقون فيه على شراء النّوادر، أو إن صحّ التّعبير، يشترون القصص.

قصص كثيرة وجدنا عن تاريخيّة عملة ما، أو أهمّيّة طابع ما. مدير الجلسة يمتلك قدرة ممتازة على العرض والبيع، وهو من يدير المزاد، فيما يجلس إلى جانبه شخص يقوم بتسجيل كلّ شيء على ورق، يدّعون بأنّه يحفظ كلّ معاملة تحصل، وممتلكات كلّ شخص داخل الرّابطة.

واحد من الهواة كانت لديه قصّة؛ تعرّض بيته في الشّجاعيّة للقصف خلال العدوان الأخير عام 2014، وقد تدمّر كلّيًّا مع باقي بيوت المنطقة. فقد كلّ مقتنياته، سألته عن قيمتها، فقال لي إنّها لا تقدّر بثمن! فمن بين تلك المقتنيات ما يعود تاريخه إلى 150 عامًا وأكثر، 'وللأسف لا أحد يهتمّ لمثل هذه القضايا.' قال.

أحد الهواة كان ذا شخصية خاصّة، من الواضح أنّه ثريّ، ليس بالمال الّذي يمتلكه، بل بقدرته على شراء أيّ شيء، وكلّ شيء، والدّخول في مزادات حول أنواع عديدة من العملات القديمة والطّوابع. 'يُعدّ هذان النّوعان من المقتنيات الأكثر حظًّا بين كل المقتنيات الأخرى،' أشار لي بذلك خليل، أحد الهواة إلى جانبي.

إنّهم يعرفون بعضهم، ويحبّون ذلك، وبدا لنا جليًّا أنّهم معتادون على الأمر وليس هناك شيء غريب في المكان، سوانا، لأنّنا لا نبيع ولا نشتري، وبالتّالي فإنّنا فائضان على المزاد. ضحكنا لذلك ووعدناهم بالقدوم في المرّة القادمة وفي حوزتنا النّقود لنشتري.

محمّد الزّرد يكرّم منذر كرّاز