ليس كأيّ ربيع أبدًا

بعد شتاءات عشرين، أزهر ربيع مختلف جديد، أعاد للرّبيع مفهومه الّذي تشوّه خلال الأعوام المنصرمة. كان وارف الألوان زاخر الملامس، لا يترك للملل بابًا يدخله. يستقبلنا المعرض برسالته الرّئيسة، ليمهّد للزّائر ما سيلقاه في فضائه، وإن كان محدود المساحة الفيزيائيّة، فكلّ عمل بوّابة لعالم موازٍ بعيني ووجدان فنّان ألقى بعضًا من روحه، ثمينةً، في رعاية الصّرح الّذي كان ولا يزال يرعى طاقات الإبداع.

من رينيه فيرير، إلى فلسطين

بدأت حكاية المعرض بلوحات ستّ، منحها الفنّان السّويسريّ، رينيه فيرير، عام 1994، لجامعة بير زيت، في وقت كان مفعمًا بالطّاقة الإيجابيّة لحصول فلسطين على بارقة أمل لسيادة نفسها بنفسها، فكان حدثًا مركزيًّا في حينه، وقد تصدّرت الأعمال أبرز المواقع في الجامعة، فهي ما زالت في مكانها إلى يومنا هذا شاهدة على السّنوات الاثنتين وعشرين اللّواتي مرّت بكلّ ما كان بها، من عصف وحبّ وغضب ودمّ، إذ استمرّت المجموعة بالنّموّ طبيعيًّا حتّى عام 2005، فكان لزامًا على بيرزيت إنشاء المتحف.

وقد استمرّ الرّفد الطّبيعيّ حتّى العام الماضي، ليبلغ عدد الأعمال في حينه ما يزيد على ٢٣٠عملًا، وفي وقت التّحضير للمعرض، أرسلت دعوات إلى 25 فنّانًا آخرين، كي يكونوا جزءًا من السّيمفونيّة بأعمالهم، فلم يتأخّر أيّ منهم في إرسال عمل من صميم حبّه، حتّى بلغت ما بلغت الآن من لذّة للعيون ووجبة دسمة للمتلقّي، زاخرة بشتّى النّكهات والأجناس الفنّيّة.

كلّ هؤلاء معًا

التقى في المعرض كلّ من: سليمان منصور، سهى شومان، نبيل عناني، تيسير بركات، إميلي جاسر، رولا حلواني، حسني رضوان، تيسير بطنيجي، سمير سلامة، هاني زعرب، خالد حوراني، جواد المالحي، جمانة منّاع، رائدة سعادة، شريف واكد، أحمد كنعان، خليل رباح، إيناس ياسين، جون حلقة، تيسير شرف، عامر الشّوملي، عمر يوسف بن دينا، يزن الخليلي، بشير مخّول، سري خوري، سامية حلبي، إتيل عدنان، مروان قصّاب باشي، كمال بلاطة، ڤلاديمير تماري، ناصر سومي، منى باسيلي سحناوي، موريس باستيرناك، سميرة بدران، ڤيرا تماري، لويس نخلة، رشيد قرشي، منى سعودي، ليلى الشّوا، منى حاطوم، ميزوكو ياكاوا، يورك شميتز، إسماعيل شمّوط، وجبرا إبراهيم جبرا، وصوفي حلبي، چاي كوب.

نرى في المتحف أعمال منصور وتماري وعناني وبركات المتمرّدة على ما كان سائدًا في وقت إنتاجهم، ليس بموضوعاتهم فحسب، بل تحديدًا بالخامة الّتي خرجت عن التّقليديّ في حينه، وذلك بمقاطعتهم للموادّ الّتي كان يسيطر الاحتلال على إدخالها، فرأنا الخزف في إطار، والرّمل والطّين تلوّن، والخشب سرد رواية، والجلد غنّى وشمًا (رغم أنّ عمل عناني الجلديّ لم يكن حاضرًا ضمن المجموعة، فاستبدله بآخر من ذات المرحلة). وفي زاوية أخرى كان لعمل إسماعيل شمّوط الرّقميّ مركزيّةً، لتحكي قصّة منعه من استخدام ألوان زيته بسبب مشاكل صحّيّة ألمّت به. وفي قاعة معزولة متّصلة، نشاهد معركة إيميلي جاسر في وصولها اليوميّ لعملها، وتوثيقها لمغامرة الحاجز في ڤيديو آرت، وقصصًا أخرى يسردها كلّ عمل بطريقته الخاصّة.

كما كان هناك  أيضًا رسم زيتيّ للأديب الفنّان جبرا ابراهيم جبرا، ورسم تخطيطيّ للفنّانة الرّائدة صوفي حلبي؛ بمشاركة الباحث الفلسطينيّ وجامع المقتنيات جورج الأعمى، بإهدائه العملين الفريدين من مجموعته الخاصّة، لينضما إلى مجموعة المتحف. وقد كان لهؤلاء الفنّانين أثر إزهار الرّبيع كما يجب له أن يكون، فكان فعلًا، ليس كأيّ ربيع سبقه.

تحدٍّ لفضاءات العرض

هذا المتحف نراه يباهي فضاءات العرض، ليس في المدينة فحسب، بل قاعات الوطن بجدرانه الموشّاة بالحبّ المنسوج من ألق وألوان وأعمال، كلٌّ منها يحكي سيرة من زمن وانعكاسًا لمرحلة، وهذا الحشد من الأسماء سيشكّل تحدّيًا تلك الفضاءات، لمجاراتها بالزّخم المبهر والرّوح الّتي تفيض حبًّا، فتكون ربّما دافعًا لها حتّى بعروضها القادمة، ليس علي سبيل المجابهة؛ بل لتكون ذات أهليّة، بدل أن تقحم في ذائقتنا، نحن المتلقّين والزّوّار، ما تيسّر لها من أعمال أو عارضين.

ربّما يكون موضع القوّة في تميّز المعروضات هنا، ابتعاد الجانب التّجاريّ عن الموضوع، وهو الرّافد الوحيد لدور العرض، فلم تقتن الجامعة ولا المتحف أيًّا من الأعمال مقابل عائد ماديّ، وبكلّ تأكيد، فإنّ ما يحتويه المعرض ليس مطروحًا للبيع أو التّجارة، هي بصمات لأشخاص أرواحهم تطلّ علينا بكلّ ضربة ريشة أو مزج إبداعيّ، بعيدة كلّ البعد عن أيّ مطمع غير الوجود.

غدٌ بصريٌّ مختلف

كان لاسم المعرض من زمنه نصيب، فبدأ مع باكورة الانقلاب الرّبيعيّ، ودورة حياة آلهة الأساطير، وميلاد مستمرّ لأجمل سيأتي ويأتي، بسرديّة بصريّة متعدّدة الخامات، فازدان المتحف باحتفاليّة مستمرّة لشهور ثلاثة وعشرين يومًا، يليها ما يحكي الحياة والنّموّ العضويّ لمخزون ذاكرة الصّرح، موحيًا بأنّ الغد سيحمل من أمسه تشكيلًا بصريًّا مختلفًا خلّاقًا، مؤذنًا بمستقبل ليس حالمًا، لكنّه يحمل من الجمال حقيقيّته وجنونه.

لم يترك الحدث الحبل على الغارب فألقاه فقط؛ بل جمع حوله هالة من الفعاليّات المختصّة بالفعل الثّقافيّ والفنّ، ليؤكّد على تكامل التّجربة الثّقافيّة، منها حلقة نقاش تناولت مفهوم جمع المقتنيات محلّيًّا، ومعارض جانبيّة، مثل معرض الفنّانة لويس نخلة وأزهارها، وآخر طلابيّ في مركز خليل السّكاكينيّ.

قد يكون الرّبيع هذا، كما أسلفت، بادرة للنّهوض بالنّوع على حساب الكمّ، وبوّابة لإنشاء كلّيّة فنون في الجامعة الّتي نظّمته، بير زيت، خلال السّنوات القليلة القادمة، فيها من الرّوح ما يغزل للوجود إيقاعًا وترانيم تتسامى بالوطن، من أعلى لأعلى.