سعيد راجي؛ لوحة مستفزّة

إنّ فتح الفضاء الفكريّ والنّظريّ في الفنّ البصريّ، بين ما يحدث في فلسطين وما يقدّمه الفنّ العربيّ، لا سيّما في منطقة المغرب العربيّ، يُعَدُّ حاجة لانفتاح الفنّ وقدرته على التّواصل، متجاوزًا الحدود الثّقافيّة الضّيّقة، ومقدّمًا مثالًا حيًّا على قدرة العمل الفنّيّ على الحياة أينما حلّ وحطّ.

في ظلّ التّطوّر السّريع في الفنون البصريّة، وانتقالها من مرحلة التّراكم إلى حالة التّسابق، يحاول المبدعون تقديم شكل بصريّ مختلف يتميّزون به، من خلال المفردات والأسلوب الذّاتيّ؛ إلّا أنّه يصعب الانسلاخ عن التّكوين الزّمنيّ للفنّان البصريّ، لا سيّما التّشكيليّ، وكلّما وجدنا بعض التّقارب التّقنيّ والموضوعيّ في لوحات فنّيّة معاصرة مع أعمال عالميّة سابقة، والّتي تطرح نفس التّساؤلات عن المنظومة البشريّة بعامّة، وعلاقتها بالتّطوّر الزّمنيّ لكلّ مرحلة، يشعرنا ذلك بالاطمئنان ولو قليلًا، لأنّ رحى الفنّ لا تزال تنّز بالأصل، حيث عدم الإفراط بعجلة الزّمن الّتي تأتي في بعض الأعمال على حساب العمل الفنّيّ نفسه، وعلى حساب الأداء والتّقنيّة الّتي يعرض الفنّان نفسه من خلالها.

حضور التّاريخ

توحي أعمال الفنّان المغربيّ سعيد راجي بالاطمئنان، وبأنّها متّصلة بالفنّ الأصيل الّذي يلامس المعاصرة والأصل معًا، من خلال استخدامها مفردات بصريّة ذات أصول تتقاطع مع فنّانين عالميّين، إن كان صدفة أو تدبيرًا لهذه الأشكال، والّتي لا تنفصل عن حضورها خارج المغرب، تاركة نفس الانطباع حولها خارج المكان.

نجد لدى تحليل عمل راجي أنّ هناك مؤشّرات مفرداتيّة تتقاطع وتترابط مع فنّانين عدّة، انطلاقًا من الفنّان التّجريديّ كاندنسكي، مرورًا بالفنّانين جاسبر جونز وخوان ميرو.

ربّما علينا ألّا نُخْضِع أعمالًا تُنتج في القرن الواحد والعشرين إلى مقارنة مع أعمال كلاسيكيّة تنتمي لخمسينات وستّينات القرن الماضي، فقد تكون غير منصفة في بعض المواضع؛ لكنّنا حينما نجد أنّ هذه الأعمال تشدّنا نحو هذه المقارنة، فإنّه لا بدّ منها لمصلحة العمل نفسه، إذ تبقي هذه المقارنة على العلاقة الممتدّة بين تاريخ الفنّ والعمل المعاصر، الّذي يبدو بعضه محاولات للتّخلّص من إرث الماضي، على أنّه لا يمكن فصل فنّ اللّوحة تحديدًا عن علاقتها بالتّراكم الزّمنيّ، وإن تقدّم به الزّمن قرونًا.

سيطرةٌ على الفراغ

يقدّم الفنّان شكلًا مفتوًحا من الأعمال التّجريديّة، الّتي تمتاز بالتّزيين الجماليّ المجرّد في أجزاء من اللّوحة، ووضع علامات استفهاميّة بصريّة حول كيفيّة معالجة الفراغ الّذي يشغل حيّزًا كبيرًا من المساحة الأخرى في اللّوحة نفسها، لا سيّما تلك الأشكال الّتي تقترب من الأسلوب الهندسيّ، كالدّائرة والمثلّث، الّتي تذكّرنا أيضًا برسومات الكهوف والأطفال في عمر أربع سنوات، والّتي لا تخلو من التّزيين بالتّنقيط الملوّن، وهو ما يساعد في إغناء اللّوحة بالتّكنيك المتنوّع، حيث تحضر العلاقة بين الخطوط الثّابتة والقويّة، المتمثّلة بالأشكال الهندسيّة والخطوط العاموديّة والأفقيّة، والتّلوين المتحرّر من المساحات المغلقة والثّابتة.

ففي حين تشكّل الخطوط مساحات محدّدة وثابتة، يجري التّلاعب داخلها وحولها، فتنتج عالمًا يكسر حدّة هذه الخطوط، وذلك بالبحث في مفردات العمل الّذي يجمع ما بين التّكثيف والتّبسيط في آن، مع قدرة سيطرة على العمل نفسه، يمنع الانحياز إلى أحدهما على حساب الآخر. وبما أنّ الفراغ يشكّل مساحة سلبيّة في حال فشل الفنّان في التّعامل معه بحرفيّة، إلّا أّنه يمكن أن يكون عنصرًا خادمًا للّوحة وفاعلًا فيها، إذا ما استطاع الفنّان أن يتعامل معها بحرفيّة وحياد.

عصرنةٌ وبساطة

ليس ضروريًّا أن يشكّل فنّ اللّوحة مفردات نعرفها سابقًا، كما ليس ضروريًّا أن يحاول ترجمة الأفكار الّتي في رؤوسنا لرسومات واضحة بقدر ما يقدّم حالة من الاستفزاز الجماليّ والمفاهيميّ في اللّوحة، واستنهاض الأفكار والعقول لإدارة حوار ثنائيّ، ربّما، بين اللّوحة والمتلقّي. وفي هذه الحالة، فإنّ العمل يحتاج لخاصّيّة المتذوّق الّذي يسبح ويحلّل ويستمتع بالعمل الفنّيّ، ويحاول أن يصوغ لغة خاصّة به، تمكّنه من ترجمة عناصر اللّوحة إلى أشكال بصريّة تتقبّلها العين، فتنقل إشاراتها للدّماغ وتُستقبل مشذّبة ومألوفة.

ثمّة جزء من فنّ اللّوحة اليوم، يبتعد عن الاستفزاز واللّا مفهوم، ويغيّب العقل لصالح الفنّ السّهل الّذي لا يحتاج إلى تفكير، وهو ما يشبه إلى حدّ بعيد تطوّرات العصر التّكنولوجيّة، حيث استخدام الهواتف الذّكيّة والمواقع الإلكترونيّة الّتي تسهّل وصول المعلومة والمعرفة، وكذلك الآلة الحاسبة الّتي تبعد الإنسان عن التّفكير الرّياضيّ.

وهذا ما نجده في أعمال الفنّان راجي، فهو يزخرف أعماله بجماليّات العمل الفنّيّ الكلاسيكيّة، مع تقديمها برؤية معاصرة، تمسّك فيها بإرث الماضي، وقدّمها بروح الشّرق المتمرّسة بالخبرة والتّكنيك، كما أنّه لم يفرط في العصرنة المعقّدة ولا في البساطة المطلقة، بل استطاع الجمع بين التّقاطعات المتناقضة وتقديمها في قالب متجدّد ينتمي للمدرسة التّجريديّة الكاندنيسكيّ [1]، برؤية اللّوحة الما بعد حداثيّة.


[1]. نسبة للفنّان الرّوسيّ فاسيلي كاندينسكي (1866 – 1944)، صاحب المذهب التّعبيريّ – التّجريديّ، وأحد الرّواد الأوائل للمذهب اللّا تصويريّ.