الملصق الفلسطينيّ... على جدران باريس

بتنظيم من المنتدى الفلسطينيّ للثّقافة والإعلام في باريس، استقرّ قرابة السّتّين ملصقًا فلسطينيًّا على جدران المركز الثّقافيّJour et Nuit ، الموجود في ساحة 'سانت ميشيل' بالحيّ اللّاتينّي وسط العاصمة الفرنسيّة، باريس.

مبادرةٌ قام بها كلٌّ من الفنّان الفلسطينيّ أحمد داري، والفوتوغراف الفرنسيّ Joss Dray، بالإضافة إلى النّاشطة المكسيكيّة، لبنانيّة الأصل، Janela Gosain، بهدف تسليط الضّوء على الملصق الفلسطينيّ بوصفه شاهدًا أساسيًّا على مراحل عدّةٍ من النّضال الوطنيّ للشّعب الفلسطينيّ.

الصّوت المرئيّ

تميّز الملصق الفلسطينيّ بقدرته الكبيرة على رصد ونقل المشهد الفلسطينيّ، وتأثيره المباشر والسّريع في الرّأي العامّ، متجاوزًا الجغرافيا السّياسيّة لفلسطين، ومؤكّدًا على شراكةٍ عالميّةٍ في الانتماء للقضيّة الفلسطينيّة، حاملًا خطابها السّياسيّ وروحها الثّوريّة إلى ساحاتٍ عدّةٍ، ومرافقًا بأمانةٍ عذابات وانتفاضات الشّعب الفلسطينيّ على مدار سبعين عامًا.

شارك الملصق الفلسطينيّ في كلّ المعارك، السّياسيّة والمسلحة، وفي الاستحقاقات الوطنيّة، كما شكّل عنصرًا أساسيًّا في الدّيكور الدّاخليّ للبيت الفلسطينيّ، وفضاءً رحبًا لمخيّلة الفنّان الّذي استخدمه واجهةً لإنتاجاته وأعماله التّشكيليّة، الغرافيكيّة والتّصويريّة. لقد كان الملصق صوت الفلسطينيّ المرئيّ، والمحفّز القويّ للعمل النّضاليّ، موثّقًا، باللّون والصّورة، العديد من عناصر ومشاهد القضيّة؛ النّكبة، العودة، المجزرة، المواجهة، الشّهيد، الأسير، المرأة، الطّفولة، الثّقافة، الخ... ومعبّرًا عن أحلام وتطلّعات الشّعب الفلسطينيّ في تحقيق أهدافه الوطنيّة.

من فلسطين إلى العالم

نستطيع القول، إنّ للملصق صنفين أساسيّين من حيث تركيبته وخطابه، الأوّل ما أنتجته منظّمة التّحرير والفصائل والقوى والمؤسّسات الفلسطينيّة، إذ اعتمدته ناطقًا سياسيًّا، ومعبّرًا عن واقعها وتاريخها. والثّاني يأتي في سياق كلّ ما أنتجته حركة التّضامن العربيّ والعالميّ مع القضيّة الفلسطينيّة، والّتي شكّلت رديفًا أساسيًّا في مواجهة المشروع الصّهيونيّ، الّذي نشط إعلاميًّا في العالم لدمغ الفلسطينيّ بصورة الإرهابيّ، مقابل تحسين صورة إسرائيل دوليًّا، وإظهارها في صورة الضّحيّة.

قدّم معرض باريس مجموعةً كبيرةً من الملصقات الّتي اختيرت لتمثّل أكثر من مرحلةٍ تاريخيّةٍ، ولتبرز حجم التّضامن العالميّ مع الفلسطينيّين؛ إذ جمع المعرض ملصقاتٍ صُمِّمَتْ وطُبِعَتْ في عدّة دولٍ من العالم، أظهرت وقوف العديد من الدّول وحركات التّحرّر في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللّاتينيّة، إلى جانب نضالات الشّعب الفلسطينيّ، كذلك القوى اليساريّة الأوروبيّة وجمعيّات التّضامن العريقة، الّتي كان وما زال لها تأثيرٌ مهمٌّ في تقديم الصّورة الحقيقيّة للقضيّة الفلسطينيّة وعدالة مطالبها.

عزّ الدّين القلق

خصّص المنظّمون في افتتاح معرض باريس مساحةً مهمّةً للحديث عن الشّهيد عزّ الدّين القلق، ثاني ممثّلٍ لمنظّمة التّحرير الفلسطينيّة في فرنسا، والّذي اغتيل في مكتبه بباريس يوم 2 آب (أغسطس) 1978. عُرِفَ عن الشّهيد القلق اهتمامه بالملصقات وتجميعها، وكذلك الطّوابع والبطاقات البريديّة القديمة الّتي طُبِعَت عن فلسطين بداية القرن العشرين، وقد صدرت له بعد استشهاده مجموعةٌ قصصيّةٌ ومجموعتان فنيّتان من الملصقات الثّوريّة الفلسطينيّة والبطاقات البريديّة القديمة.

قدّم السّيد سلمان الهرفي، سفير فلسطين في فرنسا، شهادةً مهمّةً تحدّث فيها عن الشّهيد القلق، الّذي عايشه شخصيًّا في تلك الفترة، فتحدّث عن شغفه بكلّ ما هو تراثٌ مرئيٌّ وسمعيٌّ لفلسطين، وحلمه بجمع أكبر عددٍ ممكنٍ من هذه الموادّ التّراثيّة لحفظها بصفتها ذاكرةً وطنيّةً، لكنّ تراجيديا القدر لم تحقّق للقلق حلمه، مغادرًا المشهد الفلسطينيّ مبكرًا، وبصورةٍ له طُبِعَتْ على ملصقٍ يوثّق تاريخ وحدث استشهاده.

على الجدران

من الملصقات الّتي عُرِضَتْ، ملصق جبل المحامل للفنّان سليمان منصور، الّذي نال شهرةً كبيرةً ودخل معظم البيوت الفلسطينيّة، بالإضافة إلى أعمالٍ غرافيكيّةٍ للفنّان عبد الرّحمن المزيّن، وأخرى للفنّان السّوريّ برهان كركوتلي، الّذي كرّس حياته في رسم تفاصيل كفاحيّةٍ للثّورة الفلسطينيّة عبر أعمالٍ تُعَدّ أيقوناتٍ حقيقيّةً في الفنّ الغرافيكيّ. كما عُرضت ملصقاتٌ من أعمال الفنّان فتحي غبن، والفنّان سمير سلامة، والفنّان السّوريّ نذير نبعة، صمّمها لحركة فتح في ستينات القرن الماضي، بالإضافة إلى أعمالٍ لرسّام الكاريكاتور، الشّهيد ناجي العلي، الّذي كرّست أعماله شخصيّة حنظلة في الذّاكرة الوطنيّة، وملصقاتٍ من تصميم الفنّان كامل المغني، وأعمال رسّامين ومصمّمين عربٍ وإيطاليّين وروسٍ وفرنسيٍين وبريطانيّين، وجنسيّات أخرى. كما اهتمّ المعرض بتخصيص جانبٍ لملصقات رسوم الأطفال الفلسطينيّين، وأعمالٍ ثقافيّةٍ بحتةٍ من ملصقاتٍ لأفلامٍ فلسطينيّةٍ ومهرجاناتٍ فنّيّةٍ وتراثيّةٍ، بالإضافة إلى مجموعةٍ من الملصقات الّتي أنتجتها الأمم المتّحدة.

حرصت التّظاهرة على عرض الملصقات الورقيّة الأصليّة كما هي، وبالقياسات المختلفة لكلّ ملصقٍ، لما له من تأثيرٍ حسّيٍّ على المشاهد، وتأكيدًا أهمّيّته الأرشيفيّة. كما ضمّ المعرض بعضًا من الملصقات المفقودة والنّادرة ذات القيمة الاستثنائيّة من النّاحية التّاريخيّة.

من الجدير ذكره أنّ المصدر الأساسيّ للملصقات كان من المجموعة الشّخصيّة لأحمد داري، الّتي تضمّ ما يقارب الخمسمائة ملصقٍ، بالإضافة إلى مجموعاتٍ صغيرةٍ لدى مهتمّين فرنسيّين وفلسطينيّين.

شهادات

حضرت افتتاح المعرض شخصيّاتٌ ثقافيّةٌ وفنّيّةٌ، عربيّةٌ وفرنسيّةٌ ومن جنسياتٍ أخرى، حيث قدّم بعضهم شهاداتٍ حول أهمّيّة الملصق ودوره الفعّال في مسار النّضال الوطنيّ الفلسطينيّ.

قال الفنّان التّشكيليّ الفلسطينيّ، هاني زعرب، إنّ 'للملصق الفلسطينيّ أهمّيّةً كبيرةً في الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة، وكذلك في الحركة الفنّيّة التّشكيليّة؛ إذ أدّى دورًا مهمًّا في رصّ الصّفّ والتّعبير عن المقاومة. ما ميّز فترات السّبعينات والثّمانينات، أنّ جزءًا غير قليلٍ من لوحات الفنّانين التّشكيليّين، كان عبارةً عن ملصقٍ فلسطينيٍّ، يحشد ويحرّض بمكوّناته الفنّيّة ضدّ الاحتلال الإسرائيليّ. ومن المهمّ الإشارة إلى أنّ كثيرًا من الفنّانين العرب ساهموا في الملصق الفلسطينيّ، أذكر منهم برهان كركوتلي، ويوسف عبدلكي، وضياء عزّاوي، وهم يُعَدّون اليوم من روّاد الحركة العربيّة الفنّيّة المعاصرة.

وأشار الفنّان التّشكيليّ الفلسطينيّ، رأفت أسعد، إنّ  'الملصق الفلسطينيّ من أهمّ المنتجات الثّقافيّة والفنّيّة في المشهد التّشكيليّ الفلسطينيّ، الّذي انطلق مع الرّعيل الأوّل إبّان تأسيس منظّمة التّحرير الفلسطينيّة.' وعدّت النّاشطة الفلسطينيّة، لانا صادق، المعرض 'حدثًا مهمًّا جدًّا، لأنّه أرشفةٌ قيّمةٌ لنضال الشّعب الفلسطينيّ.' بينما رأى د. عبد الفتاح أبو سرور، مدير مركز الرّوّاد في مخيّم عايدة، أنّ 'معرض الملصق الفلسطينيّ يعزّز فكرة التّضامن الدّوليّ مع فلسطين.'

بدورها، قالت Joss Dray  'إنّ المعرض مباردةٌ تطوّعيّةٌ منّا، لرغبتنا في إعادة إبراز المشهد الفلسطينيّ في المرحلة الحاليّة الصّعبة الّتي تعيشها فلسطين، ولكي نؤكّد على أنّ كلّ الأشياء مهمّة، وإن خُيِّلَ إلينا أنّها بسيطة،' وأضافت Janela Gosain: 'أردنا من خلال هذا المعرض التّعبير عن تضمننا الكامل مع الشّعب الفلسطينيّ.'

جيلٌ جديد

وجود المعرض وسط العاصمة الفرنسيّة، باريس، سمح للعديد من المهتمّين بالقضيّة الفلسطينيّة وفنّ الغرافيك، وكذلك السّيّاح، من حضوره. نقاشاتٌ عديدةٌ دارت حول الملصق، تركّز بعضها حول انتقاله الأخير من المادّة الورقيّة إلى الرّقميّة، إذ راح الملصق خلال السّنوات الأخيرة يظهر بشكلٍ أوسع وأغزر عبر الشّبكة العنكبوتيّة، وقد اعتمد الجيل الجديد من المصمّمين والفنّانين إنتاجه رقميًّا وترويجه عبر مواقع التّواصل الاجتماعيّ، والّتي لا تحتمل أيّ تكلفةٍ ماليّةٍ، كالطّباعة والتّوزيع، وتحقّق أيضًا مشاهداتٍ أكثر وتصل للمتلقّي بسرعةٍ كبيرةٍ.

وقد لوحظ في محطّات النّضال والأزمات الأخيرة الّتي شهدتها القضيّة الفلسطينيّة، كإضراب الأسرى عن الطّعام، والحرب على غزّة والمخيّمات الفلسطينيّة، ومواجهات القدس وأراضي 48، أنّ كمًّا كبيرًا من الملصقات الرّقميّة تصدّرت مواقع الفيسبوك وتويتر وغيرها، محاولةً نقل صورة المواجهات من جهةٍ، والتّثوير من جهةٍ أخرى ضدّ الاحتلال الإسرائيليّ وممارساته بحقّ الشّعب الفلسطينيّ.