لغزّة منارة من ركام الحرب

منارة غزّة لشريف سرحان | عدسة إبراهيم فتحي

أيّام قليلة، ويحتفل ميناء غزّة بمنارة شُكِّلت من ركام ومخلّفات الحرب. عمل تركيبيّ يحيي المخيّلة على طريقته الخاصّة، عبر لفت الانتباه إلى مكانيّة استخدام مخلّفات الحرب بكمّيّاتها الهائلة في قطاع غزّة، وتنفيذ أعمال فنّيّة يكون لها استخداماتها التّطبيقيّة، فيكون المشروع بذلك نموذجًا يضيف على المكان ما يجدر الاحتفال به فعلًا من جماليّات!

الولادة

'في البدء، لم يكن المشروع إنشاء منارة تحديدًا،' يقول شريف سرحان (6(197، مبدع العمل، وأحد مؤسّسي محترف شبابيك للفنّ المعاصر، السّاعي إلى تنشيط العمل الفنّيّ في غزّة وطرحابتكارات فنّيّة حديثة. خرجت الفكرة للضّوء بعفويّة شديدة، أثناء جلسة أصدقاء في رام الله، أخذوا يتشاورن سويّة. يقول سرحان: ' كنت أفكّر بصوت مسموع حول إمكانيّة استخدام كمّيّات الخردة الهائلة إثر الحرب الأخيرة في تنفيذ مشاريع فنّيّة. فجأة اقترح أحدهم أن تكون على هيئة منارة، وكانت فكرة جيّدة.'

تلك اللّحظة بدت الفكرة جاذبة لصاحب مشروع 'لعبة الحرب' (2014) متعدّد الوسائط، الّذي نقل من خلاله ثورته وانقلابه على كلّ الأشكال القمعيّة الّتي تتّخذ السّلاح لغة لها، و تلغي حضور إنسانيّة الإنسان والمجتمع المدنيّ.

شريف سرحان خلال العمل على مشروع المنارة

في الوقت ذاته، يحاول مشروع سرحان الحاليّ إحياء المفاهيم والرّؤى الإنسانيّة الدّاخليّة، وبذلك كانت المنارة هي المجسّد للفكرة الّتي ستخرج للنّور، لا سيّما أنّ غزّة، تاريخيًّا، لم تحفل بمنارات، وفق الدّراسة المكثّفة لسرحان، والّتي بدأها منذ الأيّام الأولى للعمل على الفكرةّ!

كانت المصاعب شديدة في وجه سرحان، الفنّان الّذي يتفاخر بكونه أحد تلامذة الفنّان التّشكيليّ السّوريّ مروان قصّاب باشي، خلال ورشات تدريبيه، والّتي جمعته بعدد من الفنّانين التّشكيليّين الفلسطينيّين في الوطن العربيّ ودول العالم، لكنّ 'تطلّعه إلى ولادة العمل الفنّيّ الجديد، جعل التحدّيات بمثابة محفزّات.'

حروف عربيّة

لم يكن ميناء غزّة هو الأفضل بالنّسبة إليه في البداية، وقد استحوذت إشكاليّة المكان على تفكيره، 'وددت لو تقع المنارة في مكان أكثر التحامًا بالنّاس وقربًا إليهم، أي داخل المدينة القديمة، ما يُحقّق أملي في مشاهدة أثر عملي الفنّيّ عليهم، وما يمنحه دافعًا أقوى، لا سيّما حين تمتزج عراقة غزّة التّاريخيّة بمنارته،' كما يقول سرحان، وهو من  دأب على تكريس وقته خلال السّتّة أعوام الماضية على إحياء الحروف العربيّة من خلال عدّة أعمال متتالية، حاولت تقديم الخطّ العربيّ بهيئات وأشكال وصور، ومن خلال وسائط مختلفة، وها هو  يُزيّن جدران مشروعه هذا بحروف عربيّة.

حين سؤال سرحان عن التصاقه بالخطّ العربيّ، وعلى مدار سنوات طويلة، يقول: 'أحبّ أن أعيش مع فكرة لها مفهومها وبعدها الخاصّ، لا سيّما إذا كان لها بعدها التّاريخيّ والتّراثيّ والفنّيّ، ولها ارتباطاتها بحياتنا اليوميّة،' ويضيف: 'لم أشبع بعد من هذا البحر الواسع، الدّخول فيه يحتاج لكثير من التّأمّل والبحث المتعمّقين، سعيًا لتذوّق جماليّات أكثر فأكثر، ومن ثمّ نقلها عبر تجارب جديدة،' حتّى أنّه يشبّه الانكباب على الغوص في ذلك الحقل بالقاعدة الأساسّية، الّتي يخرج منها بأعمال يواكب فيها الحياة اليوميّة، ومن ثمّ يعود إليها من جديد.

تحدّيات

الدّخول في الحالة الانفعاليّة الّتي يعيشها سرحان، من خلال معرفة مجالات اهتماماته، مساحات تساعد على فهم لبّ المشروع الفنّيّ، والسّرّ الّذي دفع مبدعه لاختياره، بل تساعد المتذوّق في تقدير العمل، ومن ضمن ذلك فهم المصاعب أمام تنفيذ العمل. هي مساحات أخرى لرؤية المنارة بمنظور أعمق، وإنّ أبرز الصّعوبات ما تطلّبه من جهود وخبرات فنّيّة متعدّدة، ما استدعى وجود طاقم يتكوّن من 15 فنّيًّا، بين مهندسين وحدّادين وفنّيّي إضاءة وغيرهم.

تكوّن مبنى المنارة من قاعدة أبراج النّدى الّتي تهدّمت أثناء الحرب الأخيرة على قطاع غزّة، إلى جانب استخدام عمود حديد ارتفاعه 7,40  مترًا، وزنه 3 طن ونصف، فيما غُطّيت المنارة بسياج حديد مكلفن، من الصّعب أن يتعرّض للصّدأ.

هي دعوة للفنّانين الشّباب للبحث عن أفكار فنّيّة وتنفيذها في فضاء غزّة، من وجهة نظر سرحان، عضو رابطة الفنّانين الفلسطينييّن؛ وهنا يُشار إلى أنّ غزّة تشهد في الآونة الأخيرة حالة فنّيّة نشطة، وثمّة مستوى جيّد من حالة التّذوّق الفنّيّ العامّ، لا سيّما بعد رواج رسم الجداريّات وتزايد عدد المؤتمرات والمهرجانات.

يُذكر أنّ مشروع 'منارة غزّة' بدعم من 'مشروع دعم إنتاجات وممارسات فنّيّة معاصرة في قطاع غزّة،' وبتمويل مشترك ما بين مؤسّسة عبد المحسن القطّان، والمركز الدّنماركيّ للثّقافة والتّنمية، وسيحتفل بتشدين العمل في حدث خاصّ يوم 4 حزيران (يونيو) 2016.

شريف سرحان

سرحان حاصل على دبلوم في الفنون من جامعة ICS  في الولايات المتّحدة الأمريكيّة، وقد شارك في العديد من الدّورات التّدريبيّة الفنّيّة. وقد حصل على الجائزة البرونزيّة (2008)، والتّقديريّة (2007)، في مسابقة اتّحاد المصوّرين العرب - أوروبا. وقد صدر له كتاب صور فوتوغرافيّة وفيلم تجريبيّ بعنوان 'غزّة حرب'، بمنحة من المورد الثّقافيّ (2007).

شارك سرحان في عدد من المعارض الفرديّة والجماعيّة، في غزّة، ورام الله، وبيت لحم، والقدس، وعمّان، وبريطانيا، والولايات المتّحدة الأمريكيّة، والبرازيل، والنّمسا، وألمانيا، والشّارقة، والقاهرة، وقطر، والعراق، وفرنسا، وإيطاليا.