التقاء؛ فنّ معاصر غزّيّ يتحدّى... ويكون

اختتمت 'مجموعة التقاء' في غزّة، مؤخّرًا، سلسلة ورش فنّيّة مكثّفة ضمن برنامج الفنون المعاصرة في نسخته الثّالثة، بمشاركة عدد من الفنّانين والفنّانات الغزّيّين الشّباب، ومن المنتظر أن تُنظّم معارض في تمّوز القادم، تتضمّن ما أُنْجِزَ في إطار الورشة من أعمال.

خلال النّسخ الثّلاث من برنامج الفنون المعاصرة، أُتيح المجال أمام الفنّانين التّشكيليّين من عمر عشرين عامًا فما فوق، للتّقدّم بمشاريعهم الفنّيّة وتلقّي التّدريبات ذات الاختصاص، كما ساعدهم البرنامج على توفير أجواء فنّيّة ملائمة، كفيلة بتنفيذ أفكارهم وإخراج أعمالهم للنّور.

الفكرة والمكان

ترى مجموعة الفنّانين التّشكيليّين الّتي تدير جاليري التقاء، أنّه فسحتهم الفنّيّة الصّغيرة الّتي يلتقون فيها ويعملون على مشاريعهم وأفكارهم في إطارها. حول ذلك يقول الفنّان التّشكيليّ رائد عيسى، أحد أعضاء التقاء ومنسّق برنامج الفنون المعاصرة: 'التقاء مساحة صغيرة نوفّر فيها جوًّا فنّيًّا تفاعليًّا للجيل الشّابّ، الّذي لا يجد هذه المساحات في غزّة، وهي مشكلة أساسيّة يعاني منها الفنّان هنا، بالإضافة إلى أنّه لا يمتلك الأدوات والإمكانيّات الكافية لخلق مساحة خاصّة به، لذلك جاءت فكرة التقاء لتساعد الفنّانين وأفكارهم على الالتقاء والتّواصل، تتيح لهم مكانًا للعمل، ومكانًا للاستراحة وسط فنّانين آخرين. في التقاء، نسافر من هذا المكان الصغير إلى كلّ العالم، عبر الفنّ، نتحدّث عن لوحة في لندن، أو عرض مسرحيّ في برلين، أو معرض في القاهرة. هنا يمكننا أن نتنفّس الفنّ، بعيدًا عمّا يحصل خارج هذا المكان.'

جاء في موقع 'مجموعة التقاء' أنّ برنامج الفنون المعاصرة يهدف إلى 'خلق مساحة للتّعلّم والحوار والإنتاج في مجال الفنون البصريّة المعاصرة، بممارساتها وأشكالها المتنوّعة، والّتي تشمل الفيديو آرت، والتّركيب، والرّسم، والنّحت، والتّصوير الفوتوغرافيّ، والأداء، وذلك من خلال نظام تدريبيّ مفتوح وحيويّ، بإشراف فنّانين من داخل وخارج فلسطين، يتضمّن سلسلة من المحاضرات والحوارات والعروض، ويركّز على مجموعة منتقاة من الفنّانين والفنّانات الشّباب الّذين يتمّ اختيارهم بناءً على معايير فنّيّة محدّدة، وذلك لدعم وتطوير مهاراتهم وقدراتهم ومعارفهم، وتمكينهم من خوض تجارب فنّيّة جديدة، من خلال تطوير أفكار ومفاهيم لمشروعات فنّيّة مبتكرة، وإنتاجها.'

نُسَخ

يقول الفنّان رائد عيسى: 'انطلقت النّسخة الأولى من برنامج الفنون المعاصرة في غزّة عام 2013، وهو الآن في نسخته الثّالثة. النّسخة الأولى من البرنامج كانت بتمويل من جمعيّة النّجدة الشّعبيّة الفرنسيّة في فرنسا، و المعهد الثّقافيّ الفرنسيّ بغزّة، والنّسخة الثّانية من البرنامج عام 2015، موّلتها مؤسّسة عبد المحسن القطّان بالشّراكة مع المركز الدّنمركيّ للثّقافة والتّنمية في فلسطين، من  خلال مشروع دعم إنتاجات وممارسات فنّيّة معاصرة في قطاع غزّة. أمّا النّسخة الثّالثة والحاليّة، فيقوم الصّندوق العربيّ للثّقافة والفنون، آفاق، بدعمها وتمويل ورش العمل الفنّيّة للفنّانين المشاركين في برنامجها، ونقوم هذه الأيّام بتجهيز المعارض الفنّيّة، والّتي نتوقّع أن تشهد النّور في تمّوز القادم.'

بدوره، أوضح الفّنان التّشكيليّ محمّد الحواجري، وهو أحد القائمين على 'مجموعة التقاء': 'في النّسخة الثّانية من البرنامج شارك خمسة عشر فنّانًا وفنّانة، ثلاث عشرة من بينهم فنّانات. أمّا في النّسخة الثّالثة، فشارك أربعة عشر فنّانًا وفنّانة، حيث كانوا سبعة فنّانين وسبع فنّانات. هذا يعني الكثير لنا، إذ لطالما عانت الحركة التّشكيليّة الفلسطينيّة من قلّة حضور المرأة، لكن حديثًا، فإنّنا نلاحظ حضورًا لافتًا للفنّ النّسائيّ.'

روح الشّباب

وحول الحركة الفنّيّة في غزّة بعامّة يقول الحواجري: 'نستطيع القول إنّ الحركة الفنّيّة في غزّة ذات طابع مختلف وخاصّ، إذ نجد أنّ معظم روّاد الفنّ والفنّانين هنا من الشّباب، وهو ما يضفي على المشهد خصوصيّة معيّنة، ويجعله مفعمًا بالنّشاط والحيويّة، مقابل أوساط فنّيّة في مجتمعات أخرى، حيث أنّ نسبة الشّباب المهتمّين بالفنون والمقبلين على المعارض أقلّ. لقد صُدمنا من بعض المشاريع الفنّيّة الّتي أنجزها شباب بعيدون عن الوسط الفنّيّ، ووجدنا الكثير ممّا يمكن أن يحظى مستقبلًا بالرّواج والانتشار، أقول مستقبلًا، لأنّ واقع الفنّ اليوم صعب، وبالكاد نستطيع الحفاظ على أنفسنا، وسط كلّ هذه المتغيّرات الّتي تعصف بنا وبالمنطقة.'

وأضاف: 'حين وفّرنا الأجواء الملائمة للفنّان العشرينيّ ليتشارك مع فنّان آخر مثله، وجدنا أنّه على درجة عالية من الوعي والنّضوج والاطّلاع، فالفنّانون الشّباب يتحدّثون كأنّهم لا يعيشون في بلد فيها ما فيها من المشاكل والاضطّرابات؛ فهم يواكبون الحركة الفنّيّة في العالم، ويتحدّثون عن معارض وفنّانين في أماكن كثيرة، رغم أنّهم في حقيقة الأمر لم يخرجوا من غزّة من قبل، وهذا يعني أنّ الأمر ليس كما يدّعي البعض من أنّه لا يوجد حياة وانفتاح في غزّة، فالنّشاط وأثره الإيجابيّ على الفنّانين جعلهم يخرجون بأعمال فنّيّة راقية ومعاصرة، تضاهي أعمالًا نالت العالميّة، وسيرى النّاس ذلك في المعارض القادمة.'

الدّعم الرّسميّ؟

عند سؤالنا عن دعم السّلطات الرّسميّة للفنون، أجابنا الحواجري: 'الأحزاب السّياسيّة والحكومة ووزارة الثّقافة، بل حتّى المؤسّسات غير الحكوميّة، تدعم الفنون كما تريد هي، ومن المنظور المناسب لها، وضمن الأطر الّتي تعجبها. خذ على سبيل المثال لا الحصر دعمها ليوم الأرض، أو يوم المرأة، أو يوم الطّفل، أو المناسبات الوطنيّة المختلفة، ففي إطارها تُقام فعاليّات فنّيّة كثيرة، لكن ماذا لدينا في النّهاية؟ مزيد من الإقلال من شأن الفنّ، ومزيد من الإقلال من قيمة ما يُنتَج من أعمال؛ لذلك يعزف أغلب الفنّانين المستقلّين عن المشاركة في فعاليّات كهذه، ويتّجهون للمساحات الّتي تمنحهم خصوصيّة واعتبارًا وتقديرًا لما يقومون به، إضافة إلى التّمتّع بالاستقلاليّة.'

'ثمّة مفارقة بسيطة أودّ التّنبيه إليها،' يقول الحواجري معقّبًا على ذات الموضوع، 'عدد المعارض ما بين عامي 1994 و 1997 مثلًا، وهي حقبة حكمت فيها السّلطة الفلسطينيّة في غزّة، لم يتجاوز العشرة، وذلك رغم توفّر الإمكانيّات والأموال لدى السّلطات المعنيّة، ورغم إبدائها رغبة في دعم قطاعات واسعة، لكن لم يكن للفنّان وجود وتمثيل رسميّ. اليوم نتحدّث عن عشرات الفنّانين الّذين يشتكون قلّة الأدوات وعدم توفّر ما يريدون كي ينفّذوا مشاريعهم، ولا يوجد من يمثّلهم، مثل نقابة خاصّة بهم مثلًا، ورغم وجود بعض الممثّلين، إلّا أنّهم ليسوا بالقوّة الّتي يمكن لها أن تغطّي هذا القطاع.'

وأضاف الحواجري: 'بدأ إيهاب بسيسو، وزير الثّقافة الجديد، مؤخّرًا، بتغطية الفنون والآداب وبعض الفعاليّات، وهذا فقط لأنّ الوزير لديه رغبة ذاتيّة في ذلك، لا لأنّ هناك نظامًا وزاريًّا كاملًا يعمل على هذه المسألة. ومن الذّكاء أنّه يفعل ذلك.'

وقال أيضًا: 'دعت وزارة الثّقافة في غزّة فنّانين من ليبيا واليمن ومصر، نجحوا في اجتياز المعابر والدّخول إلى القطاع، كان هذا حدثًا مهمًّا بالنّسبة لنا، لكنّنا لم نلتق بهم! جاؤوا وغادروا دون أن نلتقيهم.'

وحين تساءلنا عن السّبب قال: 'هذا لأنّهم كانوا في دائرة محدّدة وضمن وسط معيّن، ولم يلتحموا مع الفنّانين هنا، وهو ما كنّا نطمح إليه، التحام فكريّ وثقافيّ فنّيّ حيّ ومباشر، بين فنّانين من داخل غزّة وخارجها. ربّما لم يحصل ذلك لأنّ عقليّتنا لا تتطابق مع عقليّة الحكومة!'

الطّموح... مدرسة

يقول الفنّان رائد عيسى في هذا السّياق: 'نحن مستقلّون، لا نتبع أحدًا، وقد تقدّمنا للحصول على أوراق ثبوتيّة وتراخيص للجاليري وحصلنا على ورقة من دائرة المراكز الثّقافيّة التّابعة لوزارة الثّقافة في غزّة.' وأضاف: 'نطمح لأن نؤسّس مدرسة للفنون البصريّة والمعاصرة في المستقبل القريب، وأن تضمّ أنواعًا أخرى من الفنون الأدائيّة والموسيقيّة والتّشكيليّة، من أجل الرّقيّ بالمشهد الثّقافيّ الفلسطينيّ والفنّيّ المعاصر، وبناء جيل واعٍ ثقافيًّا، بالإضافة إلى إيجاد منصّات واضحة ومريحة للمواهب الشّابّة بكلّ أنواعها.'

لماذا فنون معاصرة؟ لأنّ هناك شيئًا يريدون تحقيقه، هذا ما لمسته في حديثي مع التقاء،  تهشيم الصّورة النّمطيّة عن غزّة، تلك الّتي روّجت لها الأحزاب السّياسيّة والإعلام الرّسميّ.

لا يوجد هنا اهتمام خاصّ بالإبداعات المعاصرة، إنّما هي عرض مستمرّ لفنون مكرّرة ولا تعبّر عمّا يحصل حقيقةً. الفنّان المستقلّ هو الأكثر صدقًا بين الجميع، لأنّه خارج عباءة الإملاءات والأجندات الحزبيّة، ويعبّر عن واقع شعبيّ وذي فلسفة مختلفة عن الطّريقة الّتي يتّبعها فنّانو الأحزاب، أو الفنّانون التّجاريّون.

في التقاء تشعر بروح الفنّ، المكان مليء بالألوان، لوحات ملقاة هنا، أخشاب وإطارات وأقمشة مخبّأة هناك، ومن هذا المكان الصغير، تنطلق لوحات لفنّانين يحملون من القصص والصّور والمشاعر ما لن تكفي لوحة أو اثنتين للتّعبير عنها، لكنّهم، أقصد الفنّانين الشّباب، يحفرون في الصّخر ويقاومون الانتكاس والشّعور بالانغلاق وعدم التفات الجمهور لما يفعلون، فيخرجون بأعمال تستطيع أن توثّق ما في قلب الحصار المُحكم، وفي ذاتهم يرفعون همّ وطن بأكمله وشعب بأفرعه.