بشير آمال؛ نحو فنّ مفاهيميّ

بشير آمال

يتجلّى الفنّ التجريديّ في أفضل حالاته حينما ينتقل من التقليديّة إلى لعبة اللون والموضوع والتقنيّة، فيتجاوز زمنه مقتربًا أكثر من المعاصرة، كما حصل في خمسينات القرن الماضي، حيث شهدت تلك الفترة انفتاحًا على أنواع متعدّدة من الفنون، ما مهّد إلى سقوط المدارس الفنّيّة بمعناها الكلاسيكيّ.

كلّما تحرّك الفنّان وتوسّع في تجاربه ومعرفته الإنسانيّة، ازداد دوره في الفعل والتأثير والتغيير، وتُشكّل اللقاءات الفنّيّة في ورشات ومشاريع تجمع فنّانين من مناطق مختلفة من العالم، فرصة للتعرّف إلى خصائصهم الفنّيّة وتقنياتهم، والوقوف على أثر الجغرافيا والمجتمعات التي تحتضنهم في أعمالهم.

كولاج وتجريد

ينقل الفنّان المغربيّ بشير آمال (1954) ملوّنته من 'الباليته' إلى سطح اللوحة دون أيّ حواجز أو تردّد بينهما، ويمكن مشاهدة الأثر اللونيّ الناتج عن عمليّة بناء اللوحة وقدرته على تحريك فرشاته بأيّ اتّجاه كان، إذ تترك ضربات خفيفة جدًّا أحيانًا، وقويّة في أحيان أخرى، وتمنح إحساسًا بالبساطة والشفافيّة في علاقتها مع الطبقات الدسمة الأخرى من اللون، الأمر الذي يخلق حوارًا ملمسيًّا يمكن للعين المتدرّبة اكتشافه ومعرفة اللغة التقنيّة للّون نفسه.

كما نجد بعض الإضافات التي تظهر تحت اللون أو فوقه تبعًا لموضوع الفنّان، لكنّها تضعنا في زاوية الفنّ التجريديّ والكولاج، وكأنّ اللوحة عولجت 'بالفوتوشوب'. وعلى الرغم من أسلوب القصّ واللصق الذي ينفّذه الفنّان، إلّا أنّ هذه الإضافات لا تشعرنا بغرائبيّتها، بقدر ما تشعرنا بالقرب من العمل، عبر تقاطع الكلمات مع الصور، وبعض الضربات اللونيّة المنفردة على السطح.

تأثّر وخصوصيّة

تتقاطع أعمال بشير آمال مع فنّ الكولاج لدى بابلو بيكاسو وجورج باراك في بدايات المدرسة التكعيبيّة، وكذلك لدى التعبيريّين الجدد الذين وظّفوا الكولاج ببعده الجماليّ لا الوظيفيّ كما عند التكعيبيّين أيضًا، ليتطوّر بعد ذلك ويتّخذ أشكالًا مختلفة من طرق التنفيذ وأساليب استعمال الكولاج المتعدّدة، إن كان بالقصّ واللصق، أو الطباعة، أو التصميمات اليدويّة والتكنولوجيّة … الخ.

يلتزم بشير آمال بالفنّ التجريديّ المفتوح بعامّة، مع تطوّرات يمكن ملاحظتها في أعماله عبر الزمن، وهو في أسلوبه المدروس والأكاديميّ المعاصر يتقارب مع فنّانين دوليّين وعرب، مثل الأمريكيّ Robert Motherwell  (1915 – 1991)، وكذلك الفنّان العراقيّ علي رشيد، إذ نجد روحًا مشتركة بينهم مع اختلاف في طريقة التنفيذ، علمًا أنّ آمال يحافظ على أسلوبه الخاصّ في استخدام الملوّنة والكولاج.

بهذا التنوّع التقنيّ في نفس المدرسة الفنّيّة، تتجلّى لنا قدرة الفنّان على الخلق والإضافة حينما يكون حقيقيًّا، وكذلك قدرة الفنّ على استيعاب الفنّانين وجنونهم حين يكونون باحثين حقيقيّين كذلك، وهذا، ربّما، مؤشّر يشجّع الفنّانين أينما كانوا على عدم التوقّف أو الخوف، بل التميّز بالجرأة، والتمرّد على التقليد، لصناعة مناخ فنّيّ محفّز قادر على النهوض بالفنّ العربيّ.

اختراق الحدود

يمكن وصف لوحة بشير آمال بأنّها عمل فنّيّ بصريّ مثقّف، وهي مرحلة يحتاج بلوغها إلى مبادئ وقيم وبحث في العمل الفنّيّ، أهمّ ملامحها أنّه يتجاوز المحلّيّة ليصبح إنسانيًّا أكثر، ولا يعني ذلك إسقاط صفة الإنسانيّة عن أيّ فنّان محلّيّ مهما كانت تجربته، لكنّنا نجد لدى بشير قدرة على اختراق الحدود وتجاوز الجغرافيا والزمان، ما يعني أنّه استطاع تحقيق هدف العمل الفنّيّ في نقل الرسالة لشريحة أوسع دوليًّا، مع مراعاة الجانب التقنيّ للفنّ وما يقدّمه من طرح وقالب معاصرين يتناسبان وروح الثقافات الإنسانيّة المتجدّدة، ما يدفع على الاهتمام به وتبنّيه عملًا فنّيًّا يلبّي الشروط الإبداعيّة الحقيقيّة.

رؤيا واسعة

تدفع أعمال بشير آمال إلى التفاؤل في ما يمكن أن يقدّمه من معالجات وقراءات بصريّة مستقبليّة للعمل الفنّيّ، ويمكن توقّع قدرة أعماله على المنافسة، ليس على المستوى المحلّيّ فقط، بل على المستوى الدوليّ أيضًا، لما تمتاز به من نضج ورؤيا واسعة لمفهوم اللوحة والإمكانيّات التي يمكن توفيرها على السطح، ما يؤهّلها إلى أن تحافظ على مكانتها الفنّيّة النوعيّة مهما تجدّد الفنّ مستقبلًا وبلغ محطّات أبعد ممّا هو عليه الآن.

يمكن استشراف مستقبل عمل بشير آمال الفنّيّ بأنّه متّجه إلى ما يُسمّى 'الفنّ المفاهيميّ' (CONCEPTUAL)، دون استخدام إشارات أو رموز مباشرة للعناصر، بل السباحة في عالم روحيّ ومتصوّف يدلّل على فرادة الفنّان وتميّزه.