لمن البحر اليوم؟!

مقطع من عمل ماجد شلا

هذا البحرُ لي
هذا الهواءُ الرّطْبُ لي
هذا الرصيفُ وما عليْهِ
من خطايَ وسائلي المنويَّ... لي
ومحطّةُ الباصِ القديمةُ لي. ولي
شبحي وصاحبُهُ. وآنيةُ النحاسِ
وآيةُ الكرسيِّ، والمفتاحُ لي
والبابُ والحرّاسُ والأجراسُ لي
ليَ حَدْوَةُ الفرسِ التي
طارتْ عنِ الأسوارِ... لي
ما كانَ لي. وقصاصةُ الورقِ التي
انْتُزِعَتْ مِنَ الإنجيلِ لي
والملحُ منْ أثرِ الدموعِ على
جدارِ البيتِ لي...

في طريقي لتلبية دعوة حضور افتتاح معرض الفنّ التشكيليّ الذي اقتصر تنظيمه على كلّ من 'محترف شبابيك' و'مجموعة التقاء' بغزّة، في إطار محفل 'قلنديا الدوليّ' للفنون في دورته الثالثة، لم يغب عن بالي ترديد المقطع أعلاه من قصيدة درويش الوارد في مطوّلته الشعريّة الرائعة، 'جداريّة'. في هذا المساء المشاكس، بدأت وتيرة القصف التي تعرّضت له نواحٍ مختلفة من غزّة، كعادتها، في التلاشي رويدًا، لتدخل عجلة الحياة إيقاعها المعتاد.

نداءاتٌ للبدايات الأولى

ليس في وسع المرء أن يتجاهل دلالة الشعار الذي اختاره منظّمو المحفل لهذه الدورة، أو أن يغضّ الطرف عن الدلالة الرمزيّة لهذا المقطع من القصيدة الجداريّة، الذي يعلن فيه الشاعر امتلاكه للبحر وما يحيط به من تعاريج الجغرافيا وشواهد التاريخ، في بوح شجيّ يتداخل فيه الخاصّ بالعامّ على نحو استثنائيّ، في سياق استرجاعات لا يقدر عليها إلّا صاحب النصّ.

One Way | لوحة رائد عيسى

وإذا أخذنا في الاعتبار الظروف التي أحاطت الشاعر وهو في حالة ما بين الصحو والغيبوبة في غرفة الإنعاش، سندرك أنّ صيحته تلك، 'هذا البحر لي!' لمّا تزل هي صرختنا جميعًا وهو يطلّ على كلّ ما له من بوّابة رصيف ميناء عكّا... هي أصداء نداءات العودة إلى كلّ ما يشكّل البدايات الأولى؛ نداء الحبّ الأوّل، والبيت الأوّل، والذكريات الراسخة في الوعي الفرديّ والجمعيّ التي لن يطمسها أو يخفيها انتزاع سطر من آية الكرسيّ أو ورقة من الإنجيل.

هدير

بين ردهات صالتي العرض في كلّ من 'محترف شبابيك' و'مجموعة التقاء'، احتشد الحضور من الفنّانين المشاركين وجمهور المتابعين لمشاهدة الأعمال المعروضة، والتي اجتهد أغلب الفنّانين المشاركين من جيل الشباب إنتاجها لهذا الحدث بالتنسيق مع إدارة المحفل، والتي ارتأت بدورها أن يكون هذا العام موزّعًا على عدّة أماكن، تشمل مدنًا فلسطينيّة وعربيّة وعالميّة، للتأكيد على استمرار الشراكة الحقيقيّة بين المؤسّسات الثقافيّة، والتي تشاركت في الموارد والمصادر مع الإبقاء على الاستقلاليّة، رغم التحدّيات والجغرافيا المفكّكة.

للوهلة الأولى، يخال المشاهد أنّه يسمع هدير الموج الناجم عن إحاطته بعدد من المعروضات التي اتّخذت من ثيمة البحر وزرقته ومناخاته موضوعًا للأعمال الفنّيّة متنوّعة الأساليب والاتّجاهات والوسائط، وبقليل من التأمّل، تبدأ في البحث عن أشياء من قبيل طبيعة ارتباط المفاهيم وعلاقتها مع المحتوى والقيمة الفنّيّة والمستوى... ما الذي سيقوله الفنّ والفنّان حول ذلك؟ بإمكانك أيضًا أن تتجاهل الأمر كلّيّة لتُفْسِحَ المجال لأسئلة وتداعيات من نوع آخر، وتكتفي بتعقّب ورصد الأفكار التي أتت بها اللوحات والتكوينات المنجزة وهي تحاكي الموضوع الذي اتّخذ من البحر ثيمته الأساسيّة.

علاقة مريبة

ما البحر هنا؟ وما الذي يعنيه للفنّان؟ وبخاصّة ذلك الفنّان الذي يعيش واقعًا كواقع غزّة وعلاقتها المعقّدة مع بحر تتمدّد على ساحله ولا تتمكّن من التمدّد في أعماقة... لا تتمكّن من أن تراه أو تعيشه كما تفعل المدن الساحليّة الأخرى وسكّانها في مختلف بقاع الأرض؟ ما الذي يبقى في النفس من انطباعات وتأثيرات لدى من يعايش ويشاهد هذه العلاقة المشوّهة والمريبة مع البحر ومجاوريه على امتداد خارطة المنطقة العربيّة، الذين اضطّرت الأوضاع المضطّربة بعضهم إلى اعتلاء أمواجه والبحث عبر ظلمته عن طريق للخلاص؟ من منّا باستطاعته الإجابة على ذلك؟ أظنّ أن لا أحد بوسعه الإحاطة بهذه الرمزيّة الهائلة مترامية الدلالة والتصوّرات ومختلفة المصائر. وإن اقترب أحدهم من حوافّ الشواطئ، فهو إنّما فعل ذلك منطلقًا من رؤيته الخاصّة ومفهومه الشخصيّ للمعنى. أوليس هذا ما يجب أن يكون؟! بلى، هذا هو جوهر الأمر وخلاصته. الرؤية الخاصّة والفرديّة لكلّ منّا، وهنا نحن أمام تنويعات متباينة من حيث ملامسة عمق الرؤية ثقافيًّا وإدراكًا ووعيًا.

اللي مش عاجبه يشرب من البحر | عمل محمّد الحجراوي

إنّ الفنّانين الثلاثة عشر المشاركين من غزّة (باسل المقوسي، ديانا الحصري، دينا مطر، رائد عيسي، رفيدة سحويل، رقيّة اللولو، سهيل سالم، شريف سرحان، عبد الرؤوف العجّوري، ماجد شلا، محمّد الحواجري، محمّد ابوسل، ميّ مراد)، ورغم انتمائهم إلى جيل متقارب نسبيًّا ومعايشتهم لظروف حياتيّة تكاد تكون متشابهة بشكل أو بآخر، إلّا أن عامل فارق التجربة الشخصيّة والشعوريّة يظهر وينعكس في مجمل الأعمال المنتجة؛ لقد قدّم كلٌّ منهم عمله الذي يستحقّ قراءة خاصّة لا يتّسع لها المجال هنا.

ثلاثة بحور

لندع جانبًا ضيق مساحة مكاني العرض وما أدّى إليه من اكتظاظ في الافتتاح، حجب عين المشاهد عن الرؤية الكافية والمتّزنة للمعروضات التي يحتاج بعضها إلى الوقوف على مسافة أفضل للنظر والقراءة والحوار، ولنذهب في تلمّس ما تشي به بعض الملخّصات المرافقة للأعمال المشاركة.

يقدّم الفنّان محمّد الحواجري مشروعه بعنوان 'اللي مش عاجبه يشرب من البحر'، في إشارة إلى مقولة الزعيم ياسر عرفات في حالات نزقه الشديد تجاه خصومه، والمقصود هنا بالطبع بحر غزّة. يظهر على مدار العرض مقطع فيديو قصير مدّته دقيقة وعشرون ثانية من خطاب للرئيس ياسر عرفات وهو يردّد عبارته الشهيرة أمام طاولة وُضِعَتْ عليها كؤوس بلاستيكيّة ممتلئة بماء البحر. عمل فيديو تركيبيّ ينتمي لجنس 'الفيديو آرت.'

إنّه، وإن كانت قضيّة غزّة وقصّتها ومعاناة أهلها سببًا لتضامن الكلّ الوطنيّ والمؤازرة الإنسانيّة، حيث لمّا نزل نشهد قوارب البحر في حملات التضامن المختلفة تمخر العباب، إلّا أنّ الفنّان رائد عيسى له رأي آخر؛ فهو يعلن رفضه أن يتحوّل الأمر إلى ما يشبه النزوع للتضامن من منطلق الشفقة والإحسان فقط، مشيرًا إلى رغبته في إثبات الحالة الفنّيّة في قطاع غزّة، كشريك في منظومة الفنّ الفلسطينيّ عبر العالم، فقدّم لوحته المنفّذة بألوان الإكلريك، والتي يحاكي من خلالها موضوعة الهجرة عبر البحر ومتاهته التي لا تنتهي.

البحر لي والسماء سمائي | عمل ماجد شلا

استحضار صناعة المركب الورقيّ كان متن العمل التركيبيّ للفنّان ماجد شلا، الذي يوضح فكرته عبر التساؤل والتأكيد على مشروعيّة  الحلم: 'هل يستطيع المرء أن يبحر في قارب من ورق؟ وهل يمكن لحلم عودة إلى أرض الوطن عبر هذا القارب الورقيّ الرقيق الذي ما أن يبتلّ بالماء لا يصلح استخدامه ولو للّعب؟!' إنّه حلم، والحلم مشروع ومن حقّ الجميع أن يحلم، ونحن نحلم بالعودة حتّى ولو كانت في قارب من ورق.

متّسع للجميع

لن نأتي بجديد إذا أشرنا هنا إلى ما للبحر من ذكريات الهجرة والرحيل وعذابات المنافي المؤلمة في حياة الفلسطينيّ، على امتداد تاريخه المعاصر وأمله في اجتراح طريق للعودة يومًا، وهذا بطبيعة الحال ما انعكس في عشرات، بل ربّما مئات، الأعمال في شتّى المجالات الإبداعيّة، والتشكيليّة منها بشكل خاصّ.

لقد كانت مشاركة فنّانين فلسطينيّين من غزّة في 'قلنديا الدوليّ' هذا العام، بمثابة فرصة جديدة لإثراء المشهد الثقافيّ في حدّه الممكن، للتأكيد إلى ما ذهب إليه صنّاع التجربة التي يُحْتَفَلُ بها للمرّة الثالثة على التوالي، فتكون تجربة فريدة وجديرة بالاحتفاء، حيث يبقى في البحر متّسع للجميع.