مأساة وملهاة: عن معرض المدن 5، غزّة - إعادة إعمار

عمل "حجر 20 النفيس" لمحمّد أبو سلّ

لوزيّة بزّار

يُقدِّم معرض 'غزّة: إعادة إعمار- معرض المدن' بنسخته الخامسة في متحف جامعة بير زيت، مأساة قطاع غزّة في إطار مشروع الدمار وإعادة الإعمار الرأسماليّ من جهة، والملهاة الفنّيّة لتمثيل علاقات الهيمنة والتنمية على مسرح غزّة الاقتصاديّ والسياسيّ والثقافيّ والاجتماعيّ. وقد أُنجِز المعرض بمشاركة مجموعة كبيرة من الفنّانين والفنّانات والطلبة المبادرين، الذين استقوا أعمالهم من الحيّز الغزّيّ المحاصر والمدمّر، وما يحتويه من مشاريع اقتصاديّة جاءت لتحييد أشكال المقاومة والصراع من أجل التحرّر، والاستعاضة عنها بالبديل التنمويّ والتطبيع الاقتصاديّ.

جمع المعرض الذي يأتي في إطار محفل 'قلنديا الدوليّ' 2016، في فصله الأوّل، ما بين البناء والهدم، والإنتاج والاستهلاك ذات الأبعاد الثقافيّة في ظلّ الهيمنة الرأسماليّة. أمّا الفصل الثاني، فيستعرض جغرافيا غزّة في رحلة ما بين الماضي والحاضر، ما بين الحصار والإعمار داخل مشاهد مركّبة في عمليّة تخييل لإعادة بناء القطاع، وفي فصله الثالث طغى على المعرض تقديم الطابع التمثيليّ لأدوات البناء، والتصويريّ لواقع غزّة.

بحث في المنتج

تستقبلك في معرض المدن 5، لوحة تركيبيّة موسومة بـِ 'حائط يوميّ' لأماني يعقوب، إذ تلتقط العين مجموعة من المربّعات المجمّعة بداخلها لترسم علامات تجاريّة مُعَوْلَمة اخترقت المجتمع الفلسطينيّ بنعومة أيقوناتها، ومن اللافت في المعرض اعتبار أنّ هذه الأيقونات تمثّل نشوء مجتمع نيوليبراليّ جديد في فلسطين.

عمل 'حائط يوميّ' لأماني يعقوب

لكنّ تاريخ وجود الشركات العابرة للحدود والقوميّات بدأ منذ وجود الاستعمار البريطانيّ في فلسطين ولَبْرَلَتِه، والذي أسّس لثقافة الاستعراض أثناء استهلاك السلع الرأسماليّة، وهو ما يحيل إلى المنظومة الاستهلاكيّة للسلع الرأسماليّة، والتي من خلالها هُيْمِنَ على المجتمعات في إطار خطاب التقانة وأيديولوجيا السوق الليبراليّة. وتبرز ازدواجيّة الهيمنة لخلق مجتمع استهلاكيّ ليس فقط بفرض السلع الاستهلاكيّة على الأفراد، وإنّما بفرض خطاب اقتصاديّ - ثقافيّ، الأوّل يستنطق الحاجات المادّيّة، وهي 'زائفة'، بينما يخلق الآخر حالة تُدْعى بــ 'التشخصن' لاستعراض نمط العيش، في إطار التَبْيِئَة الثقافيّة التي أوجدها النظام الليبراليّ.

أمّا عمل 'الولع بالسلع' لحمزة عملة، فهو يستحضر هيمنة أيديولوجيا الاستهلاك على المجتمع الفلسطينيّ، لكنّه في الوقت ذاته يستدعي تصوّرات غريزيّة تأخذ الناظر والمستهلك لعوالم استيهاميّة تستثير الشهوة والرغبة بالفعل الجنسيّ عند امتلاك هذا المنتَج. ويصف عملة تركيبيّته بالكلمات التالية: 'كنت أفكّر بك منذ وقت طويل... كنت أنتظرك وأتخيّلك في أحلامي، أكاد أموت لأصل إليك. كلّ ما أحتاجه لمسة... لمسة شديدة وموجعة. ربّما أحتاج إلى عضّة. أتوق للتسلّل إليك بعمق بقدر ما أستطيع... لأصطدم بجسدك بقسوة قدر المستطاع. أوفففف! عندما أمسك بك، سأريك كيف من المفترض أن يكون ذلك،' كما صوّر عملة في مجموعته التركيبيّة وانتقى الخضروات التي ترمز إلى الأعضاء الجنسيّة. ففي هذه الجمل والصور ساديّة للفعل الجنسيّ بشكل مباشر، في حين أنّها سادّيّة للسوق الاستهلاكيّة بصورتها غير المباشرة. وهذه أبرز آليّات التنميط الثقافيّ التي يُوَظِّفُها الاقتصاد الليبراليّ في خطابه، لاستمالة المتلقّي ومحاكاة لاوعيه وتكييف سلوكه.

من عمل 'الولع بالسلع' لحمزة العملة

ومن شأن صور السلع أن تستبعد الحاجة الأساسيّة التي وُجِدَتْ من أجلها، لتولّد شيئًا آخر لدى المستهلك، تكمن قيمته في حركته كسلعة استهلاكيّة. إنّ هذا 'الشيء' يتجلّى في العمل التركيبيّ 'أعطني شيئًا لغزّة' لتالين صليبا وفضل المربوع، تلقي الضوء على التشيّؤ الذي صنعته قيم السوق الرأسماليّة في المجتمعات، فالتبرّعات التي قُدِّمَتْ لغزّة تمثّلت في الاستغناء عن 'أشياء أو سلع' مستخدمة في الحياة اليوميّة، أي أنّها ذات قيمة مادّيّة، وليست حسّيّة.

عرض في العمارة

طغت تصاميم البناء والمشاريع الهندسيّة على أعمال المعرض، ومن أكثر الأشكال استحضارًا في مشاريع إعادة إعمار غزّة، المربّعات الهندسيّة. فثمّة من يستحضر الحداثة في الفنّ والمعمار الهندسيّ، والتي توحي بالتجانس والانتظام في البناء. في المقابل، يستحضر آخرون البناء العشوائيّ وغير المنظّم، والبعيد عن الصلابة. بينما يُصَوِّرُ غيرهم الوحدات السكنيّة المتنقّلة التي تخرج من مكان الدمار إلى معمار مختلف معلّب كمكان آمن محميّ من القصف ومدفعيّات الاحتلال.

عمل 'الكبسولة' لسهير جرايسة

امتلأ مفهوم 'إعادة الإعمار' في غزّة بالزوايا الحادّة خلال تصويره ونحته، وقد لجأ الفنّانون إلى تربيع وتكعيب وكبسلة البناء في أعمال تنتقد مأساة القطاع في إنتاج الدمار من أجل إعادة بناء 'قفص حديديّ' جديد لعلّه يكون غير قابل للتدمير، أو بالأحرى معمار متنقّل. إنّه 'الكبسولة' لسهير جرايسة، وهو تجاوز للأنماط الاستثماريّة التنمويّة الحداثيّة، كونه ملجأ لمقاومة دويّ الانفجارات وصواريخ الآليّات العكسريّة الصهيونيّة.

معمار فوضويّ آخر تحت مسمّى 'إعادة تعمير/ تدمير' لآمنة خريس ونايف زايد، يتحدّى تكتيكات الهدم باستخدام بقايا الدمار لإعادة البناء العشوائيّ وإنتاج طراز معماريّ مختلف. وفي محاولة لكسر تكعيب وتجميل الدمار في القطاع، يصوّر العمل التركيبيّ 'مكعّب غزّة' لنور أبو هشهش، و'جماليّات الدمار' لوسام شرباتي، وحشيّة ممارسة التدمير، والكيفيّة التي يجري فيها تدوير هذا الدمار بتجميل مشاريع إعادة الإعمار المنمّقة وتسويقها. وهي أعمال نقديّة على الفعل التنمويّ الاقتصاديّ الرأسماليّ، الذي أخذ من قطاع غزّة مسرحًا يروّج لثقافة 'إعادة الإعمار'.

من عمل 'إعادة تعمير/ تدمير' لآمنة خريس ونايف زايد

 بينما يُومئ العمل التركيبيّ 'سنغافورة - غزّة' لمنال حمدان الديب، والعمل التصويريّ 'عمارة غزّة' للوني محمّد العمراني، إلى المعمار الحديث في بناء المدن ذات الخطوط المستقيمة والمرايا العاكسة. تلك التصاميم التي ارتبطت بالصوت 'العقلانيّ'، وهي الأصوات التي خرجت من رحم المراكز الاستعماريّة، لتتزيّن بالتجانس والتقدّم والتخطيط، وعلى بقايا الهدم والدمار تعلو البنيان التي تجسِّد المشروع التنمويّ لإعادة الإعمار، إنّه بديل التحرّر.

فنّ في الأداة

تتمظهر أدوات مشروع إعادة إعمار غزّة في الأعمال المعروضة في متحف جامعة بير زيت بعنوان 'عين على الخارج'، وقد زُيِّنَتْ أدوات وموادّ البناء المستخدمة في إعمار ما دُمِّرَ بالذهب والكريستال في عمل 'مهنة مقدّسة' لمحمّد أبو سلّ؛ فالذهب يضفي على أدوات البناء المطليّة به مدلولًا بقيمة وقدسيّة هذه المهنة، لكن وجدان الرائي الحسّيّ يدرك أنّه لمعان لن يُضيء الظلام في مكان الدمار. ولمعان الذهب يقابله بريق 'حجر 20 النفيس'. وهو حجر من الطوب مكسوّ بالكريستال، يأخذ الناظر لرمزيّة الثمن الذي يدفعه الغزّيّ من أجل بناء منزله، إلّا أنّ هذا التوهّج الألماسيّ يزول بمجرد استرجاع صور وجثث أطفال غزّة عندما كان يكسوهم غبار هذا الحجر المدمّر.

عمل 'مقبرة الأشياء' لفواء حوراني

 ويأخذك معرض 'عين من الخارج' من مشهد اللمعان على أنقاض الركام والجثث التي تستعيدها الذاكرة، إلى تصاميم بناء يتراتب إلى جانبها الطوب المكسوّ باللون الأحمر، والذي يُوحي بالنصر والدم في نفس الوقت، ثمّ ينقلك المعرض من الرماد والدمار والدم إلى 'مقبرة الأشياء' لوفا حوراني، تلك المقبرة جمعت بين الرتابة والزخرفة؛ أي الاستثمار فوق الدمار، وبين أسرار الشهداء في الصمود والمقاومة لآليّات الدمار الصهيونيّة. وإنّ حضور المقبرة هو حضور لجسد الميّت قبل إقصاء حياته إلى الموت وتغييبه عن سيرورة مقاومة الاستعمار.

 وما يجدر الإشارة إليه، اهتمام المعرض بآليّة تدوير القوّة الاستعماريّة لعمليّة الهدم والبناء تحت مسمّى 'إعادة إعمار'، فانتهى معرض المدن 5 بـ 'مربّع الصفر' و'عين على غزّة'، ليُشير إلى دورة ممنهجة للدمار والإعمار. وعكست أعمال المعرض ميكانيكيّة المشروع الاقتصاديّ الرأسماليّ الاستعماريّ الذي قَولب غزّة، المكان المستعمَر، من بقعة سياسيّة لها أشكالها الاجتماعيّة إلى مصنع لإعادة تدوير موادّ البناء، والاستثمار تحت وطأة 'التنمية وإعادة الإعمار' المموّل خارجيًّا، ضمن مخطّط الهدم والبناء على أنقاض سكّانه. فإعادة الإعمار مشروع سياسيّ - اقتصاديّ خاضع لسلطة التمويل الساعية لاستبدال ثقافة المقاومة والتحرّر بثقافة التنمية الاقتصاديّة.

***

تفاصيل 'معرض المدن 5: غزّة - إعادة إعمار':

الجهة المنظّمة: الأكاديميّة الدوليّة للفنون - فلسطين، بالشراكة مع متحف جامعة بير زيت.

قيّم المعرض: يزيد عناني.

قيّمون آخرون: رلى خوري، محمّد الحواجري، مجموعة 28 (لانا جودة ويارا سقف الحيط)، نادي سينما رام الله (سليم أبو جيل)، ناصر غولزاري، تينا شيرويل، يارا شريف.

الفنّانون المشاركون: خالد جرّار، نداء سنّقرط، عريب طوقان، محمّد أبو سال، محمّد جبالي، ربيع سلفيتي، غازي بركات، وفاء حوراني، رلى خوري، جمعيّة دار للتخطيط المعماريّ والفنّيّ (ساندي هلال وأليساندرو بيتي) مع ستوديو أرز. الطلّاب المشاركون من الأكاديميّة الدوليّة للفنون - فلسطين: عبد الله أبو السعود، عبد الرحمن محمّد، أماني حرحش، أماني يعقوب، داليا بخاري، هديل قطّينة، حمزة العملة، لارا الشروف، لارا هودلي، لبنى الأعرج، ميّ ميعاري، نور أبو هشهش، ريم المصري، تقى السراج، وسيم مخلوف، يسر حامد. الطلّاب المشاركون من جامعة بير زيت: عبد المجيد الهندي، آمنة خريس، أسيل خلايلة، فصل المربوع، إسراء حرفوش، ميشال جبارين، نايف زايد، سندس مليطات، سهير جرايسة، تالين صليبا، وسام شرباتي.

موقع المعرض: درج جاليري، متحف جامعة بير زيت - بير زيت.