قلنديا الدوليّ: جغرافيا الجسد والبحر

محمّد شقديح، "يا سمك الخليل"

كُتب في النشرة الخاصّة بمحفل 'قلنديا الدوليّ' 2016، حول معرض 'هذا البحر لي' المقام في دارة الفنون بالعاصمة الأردنيّة، عمّان (5 – 31 تشرين الأوّل/ أكتوبر): 'للمرّة الأولى منذ تأسيسه، يوسّع قلنديا الدوليّ من امتداده الجغرافيّ...' استوقفتني هذه العبارة كثيرًا: لماذا على 'قلنديا الدوليّ' أن يوسّع امتداده الجغرافيّ؟ هذا السؤال 'البحريّ' يرتبط لديّ بمقولة 'البلاد'، فالفلسطينيّ، وكجزء من سيكولوجيا المقاومة، يسمّي أيّ نقطة في فلسطين ويحيل إليها بكلمة 'البلاد'، هذه الكلمة التي يفوح منها المدى والاتّساع نقائضَ لسيرورة النفي والطرد والاقتلاع التي أُحيقت بالفلسطينيّ.

بلاد وبحر

'البلاد' و'البحرنحتان فلسطينيّان أسّسهما الطرد، اللجوء والنفي، داخل فلسطين وخارجها؛ لعلّ في هذا التقاء المعنيَيْن وانفتاحهما على التأويل في الأعمال الفنّيّة المتضمّنة في معرض 'هذا البحر لي'، لكنّ البلاد والبحر فضاءان لا يملكان معنًى إلّا إذا كان ثمّة جسد ما؛ جسد الإنسان الفلسطينيّ، جسد المدينة، جسد اللغة أو/ وجسد المادّة. كيف لا والسرديّة الوجوديّة الفلسطينيّة تقوم في أساسها على الجسد وحركته في مواجهة السلطة الكولونياليّة الاستعماريّة عليه، ضمن فضاءين: الزمان والمكان.

باجس معاوية، من عمل 'مسارات'

يسعى 'قلنديا الدوليّ' إلى 'تكوين علاقات ضمن سياق جغرافيا فلسطين المفكّكة'. هنا أيضًا إحالة مهمّة إلى أنّ جغرافيا 'البلاد' مفكّكة، وبالتالي جغرافيا 'البحر' مفكّكة أيضًا، فبحر يافا غير بحر عكّا، وإعادة توحيدهما هي مقولة درويش: 'هذا البحر لي'، ولي أنا، الفلسطينيّ الجسد، الفلسطينيّ المدينة/ المكان، الفلسطينيّ الزمن، الفلسطيني الكتابة.

تمثّل هذه الثلاثيّة أساسيّات السرد الفلسطينيّ بعامّة، والسرد الفنّيّ في 'قلنديا الدوليّ'، ومن خلالها نستطيع فهم العلاقة بين الذات الفلسطينيّة كسارد ومتلقّ، وسردها الفنّيّ في 'قلنديا الدوليّ'.

خطوط الترحال والتفكيك

في 'قلنديا الدوليّ'، يُرفع التجريد (البحر والبلاد) والتشخيص (الفلسطيني) باعتبارهما أساس العمليّة الإبداعيّة، إلى مستوى يجعل السرد البصريّ (اللوحة/ العمل/ التركيب) حدثًا بصريًّا تشكيليًّا في ذاته، قادر على أن يعكس السيرورة المادّيّة التاريخيّة للفلسطينيّ، وللعمل في ذات الوقت.

عدنان يحيى، 'حقوق الإنسان'

ففي عمل 'مسارات' للفنّان معاوية باجس (1989)، مثلًا، يستخدم الفنّان الجسد وعلاقة الدولة الحديثة ككيان جغرافيّ به، في سياق كولونياليّ فلسطينيّ، ليرسم سيرورة مفهوم 'البلاد' واتّساعه في كلّ خطوة يخطوها الفلسطينيّ بعيدًا عن البحر، بقيام دولة الاحتلال بينه وبين بحره، فتنقسم الرحلة وتتّسع البلاد ويمتدّ البحر في 1948 و1967 و1958  و1990 وصولًا إلى ما بعد الـ 2000.

هو عمل فنّيّ يرسم خطّ ترحال الفلسطينيّ منفيًّا، وخطوط تفكيك الجغرافيا، وتأثّر الجماعة العضويّة الفلسطينيّة التي وظّفت كلمة 'البلاد' لتقاوم هذا التفكّك والانهيار. يرسم هذا العمل، 'مساراتمراقبة الجسد الفلسطينيّ وحركته، بأدوات وترسيمات حداثيّة تتكثّف في مؤسّستين قمعيّتين (بمنطق فوكو): الدولة والحداثة (في شكلها القانونيّ الدوليّ)، لنجد أنّ مفهوم العالم لدى الفلسطينيّ يتّسع بالبحر والبلاد، لكنّ فلسطين الجغرافيا الفعليّة لهويّته وواقعه تضيق وتبتعد؛ فهي محصورة في نقطة البداية، من خطّ حركة الجسد على الخريطة. والبدايات لا تأتي إلّا مرّة واحدة فقط، ما يذكّرنا بعمل فنّيّ للفنّانة الأمريكيّة هيذر هنسن باسم 'بوادر فارغة' (2014)، حيث يقع الشدّ على الجسد ليصل إلى منتهى ما يمكنه أن يصله، لكن هنا، في 'مسارات'، يقع الشدّ على جسد فلسطين من خلال مسارات الفرد الفلسطينيّ، باعتباره بات تخومًا لفلسطين.

هاني علقم، 'حلمي'

 

جسد ممزّق

أمّا عدنان يحيى (1960)، فيستخدم في عمله الفنّيّ 'حقوق الإنسان'، أيقونة ووسمًا بات يحيط بنا من كلّ ناحيّة، وبالذات بعد أزمة سوريا؛ جسد يلتهمه البحر بعدما لفظته اليابسة وتنكّر له الوطن، ليعيد التأكيد على أيقونة الجسد السرديّة في الكثير من الفنون، كالرواية و الموسيقا والفنّ التشكيليّ بعد 2011. ولعلّ نظرة إلى قوائم الترشيحات لجائزة البوكر للرواية العربيّة بين عامي 2013 و 2016، تبيّن موقع الجسد والموت في أغلب تلك الأعمال الروائيّة، والذي كان جليًّا في رواية أحمد السعدون 'فرانكشتاين في بغداد' (2013)، التي تحكي قصّة شخص ما يلبس وجوه الموتى. هذا الجسد العربيّ المنتهك وهذا الانتهاك الذي يحاصرنا في كلّ شيءٍ حولنا تقريبًا، كان لا بدّ له أن يتجلّى في معرض يحكي سرديّة جغرافيا مفكّكة ووطن ممزّق، لذا بدا الجسد ممزّقًا على عتبات البحر، والحكاية.

رحم

في 'حلمي' للفنّان هاني علقم، لنا أن نستعيد تأمّلات غاستون باشلار عن المكان، إذ يوضح في كتابه 'جماليّة المكان' (1958)، كيف أنّ ارتباط البشر بالمكان لا يكون إلّا إذا حقّق هذا 'المكان' شرطين اثنين: أن يتّسع للحلم، وأن يعطي الأمان له (الحلم). البحر يحقّق هذين الشرطين، في إصرار طبيعيّ على هزيمة العنف والاحتلال، فإذا أوغلنا عميقًا في سيكولوجيا البحر والماء، وجدنا أنّ ارتباط هدير الموج بهدير الماء في الرحم، حيث الوسط السائل/ المائع، الذي قضى فيه الإنسان 9 أشهر من حياته، لا بدّ أنّه يشكّل مفهوم الأمان، لا سيّما إذا تأمّلنا كيف أنّ الرحم آمن الفضاءات للإنسان من ناحية، وأنّ الأمّ تحلم بوليدها من ناحيةٍ أخرى.

جهاد العامري، 'هذا البحر لي'

يذكّرني 'حلمي' هذا بكتابات السورياليّ سلفادور دالي عن ذاكرته الرحميّة (نسبة إلى الرحم)، فاتّساع المكان الضيّق حتّى تخوم الجلد، اتّساعًا يتغلّب على مادّيّة الجسد الضيّق، يماثل ما يؤسّس له البحر في ثقافة الفلسطينيّ الواقع تحت الاحتلال، ولنا في غزّة وبحرها الصغير وتحدّيه للاحتلال الكبير دائمًا، خير مثال، هنا بالضبط مشهد امتلاك البحر والبلاد، مقاومةً.

أثر

في 'هذا البحر لي' لجهاد العامري (1977)، وهو المأخوذ بالعلاقة بين الشعر والصورة البصريّة، لنا أن نتوقّف على دلالة الركام أو البقايا كنصّ كتابيّ في السياق الكولونياليّ الاستعماريّ وانعكاسه الصوريّ. فـ 'هذا البحر لي' قائم على فكرة الأثر، وفي السياق الكولونياليّ، للأثر ارتباط بالركام والبقايا، أو في لغة الشعر بالأطلال.

ثمّة أثر أساس في 'هذا البحر لي'، أثر قدم على زرقةٍ ما، ماء أو سماء. ثمّة قدم/ أثر تقول في مواجهة سياسة الركام الإسرائيليّة: 'هذا البحر لي،' ولا قيام للأثر بلا قامة تنعكس على السماء وزرقتها، وسياسات الوجود الكولونياليّ في بنيتها الأساسيّة مضادّة لتاريخانيّة الركام وأثر الآخر (التابع/ المُسْتَعْمَر)، وبالتالي فـ 'هذا البحر لي'، كما في قصيدة درويش، هو في ذاته إجابة على سؤال: 'هل يحقّ للتابع أن يتكلّم؟!' (غياتاري سبيفاك)، لأنّه يعادل، موضوعيًّا، ثلاثيّة سياسات الركام الاستعماريّة القائمة على: التفكيك، والإزاحة، والإحلال (بحسب دراسات ماري سوتلر عن الركام في الأنظمة الكولونياليّة)، إذ ثمّة حضور هنا للفلسطينيّ على الرغم من جغرافيّته المفكّكة، وعلى الرغم من المحاولات المستمرّة لتفكيك الجماعة الفلسطينيّة العضويّة.

رائد إبراهيم، 'يطفو'

وفي امتدادٍ لهذه الفكرة، يستخدم رائد إبراهيم (1971) مفهوم 'الطفو  على السطح' من خلال عمل فنّيّ تركيبيّ: 'يطفو'، وكأنّه على السطح الهادئ للوجود الفلسطينيّ الممأسس في الدولة والمدينة الفلسطينيّة الحداثيّة (مثل رام الله)، أو حتّى الوجود الفلسطينيّ ودعوات الاندماج في مجتمعات الشتات والمنافي. لكن ثمّة تناقضات مخفيّة، كجدليّة الأثر والمؤثّر الفلسفيّة، تطفو على سطح الأنا/ الذات الفلسطينيّة، وتنعكس على حوار الهويّة لديه ذاتيًّا وآخريًّا.

في المسافة...

أما محمّد شقديح (1976) في عمله الفنّيّ 'يا سمك الخليل'، فهو يستخدم تناقضًا أساسيًّا، إذ إنّ الخليل ليست مدينة ساحليّة ولا تطلّ على أيّ بحر، وكذلك عمّان، لكنّ استحضار أيقونة السمك البحريّة لتأكيد فضاء الملكيّة والمرجعيّة الفلسطينيّة للبحر، حتّى في مدينة لا بحر فيها، يؤكّد على الارتباط العضويّ بين الفلسطينيّ وبحره، حتّى لو كان من الخليل. ولعلّ موضعة الأسماك معلّقةً في المسافة البصريّة والإدراكيّة بين الرائي/ المتلقّي وعمّان، يؤكّد مقولة أساسيّة في الفنون بعامّة، والبصريّة التشكيليّة بخاصّة: الفنّيّ يوجد في المسافة بين العمل الفنّيّ والمتلقّي، أي أنّه يقع في فضاء التأويل والحوار.

محمّد شقديح، 'يا سمك الخليل'

قياس زمنيّ للمكان

وأخيرًا، صبا عنّاب وعملها الفنّيّ 'الزمن يقاس بالمسافة'، والذي يتّضح من فراغيّته وفضائيّته وهندسة الحيِّز فيه، أنّ الفنّانة معمارية؛ فإذا كان أوّل همّ للمعماريّ خلق الفراغات وتكييفها، فلا يمكنه ذلك من دون قياس زمنيّ للمكان، وهنا تغدو ارتفاعات الحداثة مكانيّة في السياق الإسرائيليّ الكولونياليّ لفلسطين، قياسًا زمانيًّا للمسافة (كمقولة العمل)، باعتبار فقدان المكان الفلسطينيّ بدأ في زمنيّة 1948، فإنّ الوجود المكانيّ الإسرائيليّ بدأ في نفس الزمنيّة، وبالتالي فالمسافة بين المستعمِر والمستعمَر يمكن أن تقاس مكانيًّا كذلك. ببساطة، يمكّننا هذا العمل من القول إنّ النكبة، كنموذج للزمن يقاس بالمسافة (الطرد والنفي واللجوء وفارق الحداثة)، هي حدث مؤسّس ومستمرّ مكانيًّا، وليست حدثًا زمنيًّا منتهيًا.

'قلنديا الدوليّ' امتداد للجسد والبحر والبلاد سويًّا.   

صبا غنّاب، 'الزمن يقاس بالمسافة'

 

 

عبد الله البيّاري

 

 

طبيب وباحث أكاديميّ فلسطينيّ، متخصّص في النقد الأدبيّ والدراسات الثقافيةّ، وله مقالات وبحوث منشورة في صحف ومواقع ومجلّات عربيّة.