بناء الأنا في مواجهة الهدم - حول أعمال محمود قيس الإنشائيّة

"أرابيسك 3"، 2015، 113*1300*330 سم

 

تقيم تقنية الهدم والبناء في خبايا النفس البشريّة منذ الأزل، وتتصارع ما بينها لتُحدث الفعل. فعل البناء، تحديدًا، ميثاق الحياة في مواجهة العدوان. يتحدّى الفنّان الشابّ، محمود قيس، بأعماله الإنشائيّة كبيرة الحجم والمنوطة بموقع العمل، آليّة الهدم المسيّس، من خلال تشييده البيت الرمزيّ بكلّ ما تتضمّنه تفاصيله من حميميّة ودفء. وفي خضمّ الاقتراب من هذا البيت، لا يسع المشاهد إلّا الهلع من ترقّب لحظة الانهيار.

من دون تصريح بناء

وحدة الأرابيسك في أعمال محمود قيس ثيمة مستعارة من الموروث الفنّيّ الإسلاميّ، بها يلج الفنّ المعاصر، فيشيّد بيتًا بدون تصريح بناء من 'الجهات المسؤولة'؛ بيتًا آيلًا للهدم، يتيمًا، أعزل، أساساته هشّة وزمنيّة، يستدرجك وهجه فتقترب، لتصبح آمالك، حالًا، في حيّز وقف التنفيذ. حالة تذكّرنا ببيوت إسمنتيّة عارية تملأ القرى العربيّة في أراضي 48 الفلسطينيّة، يهدّدها الهدم من جهة، ويغازلها حلم تكوين العائلة والاستقرار من جهة ثانية. هذا المشهد المتكرّر ما هو إلّا حالة إنسانيّة عميقة يجسّدها قيس لتعبّر عن همومه وهموم أبناء جيله، والتي يعايشونها على صعيد السياسيّ، واليوميّ، والنفسيّ.

'أرابيسك 1'، 2012، عمل تركيبيّ، 800*600*750 سم

في مركز العمل التركيبيّ 'أرابيسك 3' لقيس، يقع الأرابيسك، أسلوب الزخرفة التقليديّ الذي يزيّن المباني بتكرار لا نهائيّ، وينتج قوالب نباتيّة، أو أنماطًا هندسيّة تغطّي مساحات كاملة بمزيج من الخيوط الملوّنة الفاتنة، وهذا العمل التركيبيّ الثالث ضمن سلسلة افتتحها قيس بعملين تركيبيّين تناولا الموضوعة ذاتها.

عزل وتجميع

في 'أرابيسك 1' (2012) و'أرابيسك 2' (2014)، عزل الفنّان وحدة الأرابيسك الأساسيّة عن الجدار وعن اللون، كما أخضعها لعمليّة تكبير، وتحويل، وتجريد، وفكّكها إلى عواملها الأساسيّة، فنُثرت في أنحاء الفضاء حتّى فقدت شكلها الأصليّ تمامًا. بقيت زاوية مشاهدة واحدة فقط، تتيح القبض على اللحظة الساحرة التي تعود فيها الوحدة النوويّة لتعبّر عن نقطة بداية العمل التركيبيّ بأكمله.

في 'أرابيسك 3'، تمرّ الوحدة المجرّدة بعمليّة تكبير، فتتحوّل إلى ثلاثيّة الأبعاد، وأحاديّة اللون، وخشبيّة، بشكل مشابه للتركيبين السابقين. لكن هذه المرّة، تتّخذ عمليّة التجريد اتّجاهًا آخر، فبدلًا من اللامركزيّة يكون التجميع، لتكتسي الوحدة بهيئة مكعّب وتعود لتشكّل حجر الزاوية الذي يكرّر بدقّة كبيرة، فينبسط على وجه الفضاء.

'أرابيسك 2'، 2014، عمل تركيبيّ، 320*300*750 سم

يختبر قيس في الأعمال التركيبيّة الثلاثة إمكانيّة عزل الشكل عن هيئته التقليديّة المتعارف عليها، ومعنى هذا العزل، وإحلال الشكل في عالم مادّيّ ومفاهيميّ مختلف الطراز، وهي الطريقة المثلى لتناول أسئلة تتعلّق بالسياق.

بلا ألوان

تحافظ سلسلة قيس على جزء من خصائص الأرابيسك التقليديّة، لكنّها تتنازل تمامًا عن خصائص أخرى، أو تدخل عليها تغييرات جذريّة، وفي الوقت نفسه، ترهنها بتقاليد الفنّ الجاهز (ready madeوالأعمال الإنشائيّة المنوطة بموقع معيّن (site specific)، كما تتجلّى في الفنّ الحديث والمعاصر.

تعتمد الأعمال التركيبيّة الثلاثة على واحدة من الأشكال الكلاسيكيّة للأرابيسك الهندسيّ: النجمة. في 'الأرابيسك I وII'، تحافظ النظرة الأماميّة المباشرة، إلى حدّ معين، وكذلك وجود جدار خلفيّ جزءًا من التركيب، على الجانب ثنائيّ الأبعاد للأرابيسك الأصليّ، في حين يحافظ 'أرابيسك III' على مبدأ التكرار والاستنساخ بصفتها وحدةً أساسيّةً مماثلة. تمرّ الأعمال الثلاثة بتحوّل جذريّ في البعد التشكيليّ، سواء في الأسلوب، أو الموادّ، أو الألوان، وفي البعد النصبيّ كذلك.

'أرابيسك 3'، 2015، 113*1300*330 سم

يختتم 'أرابيسك III'، نهائيًّا، الانتقال إلى ثلاثيّة الأبعاد، المتجسّدة في واحد من الأشكال الكلاسيكيّة لهندسة المساحة: المكعّب. تنازل قيس في الأعمال الثلاثة عن الألوان تمامًا، واستخدم الخشب الطبيعيّ الخام وغير المطليّ من أجل إنشاء بناء لمرّة واحدة، ومؤقّت، وملاءمته مع مساحة المعرض العينيّة. مع نهاية المعرض يُفكّك العمل ويُحوّل إلى كومة من العوارض الخشبيّة للاستعمالات اليوميّة الأخرى.

هل نعطّل المعادلة الوجوديّة؟

تمثّل الأسئلة المفاهيميّة التي تطرحها أعمال قيس، إلى حدّ كبير، طريقتين مختلفتين في إدراك وتنظيم المعرفة المتعلّقة بالعالم، وتناول قضايا التصنيف والهرميّة. الأرابيسك، شكلًا، نموذج بلا بداية ووسط ونهاية، لا اتّجاهات له، لا يمين أو يسار، لا أعلى أو أدنى، لا تراتب هرميًّا أو مركز وأطراف. يتوافق هذا النموذج ومصطلح 'الريزوم' الذي اقترحه كلّ من جيل دولوز وفيليكس غواتاري، والمتناسب عكسيًّا مع نموذج الشجرة، إذ يتّجه محوره من الجذر ← الجذع ← إلى الفروع، وهو قاعدة أساسيّة في الفكر الفرويديّ العقلانيّ. يشغل هذا الجانب الفلسفيّ قيس، كما يعبّر عن ذلك بنفسه قائلًا:

'إنّ المعالجة البشريّة التي أقوم بها لمفهوم الجماليّ، على نحو مادّيّ، على غرار الأنشطة اليوميّة للإنسان في الطبيعة، محاولًا تقديم تصنيف وتعريف يوضّحان روح الأشياء من أجل السيطرة على القلق الوجوديّ والحدّ منه. أنا، ببساطة، أتساءل: هل نحن في صدد تغييب جوهر الحياة من خلال هذا الفعل؟ هل نعطّل المعادلة الوجوديّة لأنّنا لا ندعها تفلت من أيدينا؟'

'سجّادة'، 2010، عمل تركيبيّ، 250*350 سم

 

البيت

تطرح أعمال قيس، في موازاة البعد الروحيّ المجرّد، أسئلة تتعلّق بالأمور الحقيقيّة، هنا والآن. كما يُظهر مجموع أعمال قيس أنّ التجسيد يحتلّ جزءًا مهمًّا من إبداعه؛ فعلى امتداد مسيرته الفنّيّة، أشغلته موضوعة الانتماء والهويّة المتمثّلة برمزيّة 'البيت'، فنراه يتناول ضائقة السكن المتمثّلة بانعدام إمكانيّة بناء المنازل السكنيّة بسبب سياسة عدم تخصيص أراض لتوسيع البلدات العربيّة في أراضي 48، وعدم منح تراخيص بناء داخل البلدات القائمة، وذلك من خلال ثيمات تتجسّد على نحو لاذع بنَصْبَين إضافيّين لقيس: 'سجّادة' (2010)، و'اقتلاع' (2012).

ربّما تكون السجّادة الرمز الأمثل للحيّز الخاصّ، وللشعور بحميميّة البيت ودفئه. وللوهلة الأولى، فإنّ العمل يوحي بهذا الشعور فعلًا. سجّادة ساحرة وملوّنة ذات نمط هندسيّ تواتريّ دقيق ومثاليّ، جذّابة ومغرية. نظرة ثانية، وعلى مقربة، يتّضح أنّ هذه السجّادة مصنوعة من عود كبريت ورؤوس براغ، سجّادة شائكة ومرعبة، ماسوشيّة، يمكن أن تنفجر في أيّ لحظة، ترقد على شفا الاحتراق.

'سجّادة'، 2010، عمل تركيبيّ، 250*350 سم

أمّا في العمل التركيبيّ 'اقتلاع'، فتتبدىّ ازدواجيّة تباينيّة تماثل بين البيتيّ والمرعب. التركيب ليس إلّا برج حمام كبير شيّده قيس على شرفة غاليري 'بيت الكرمة' في حيفا، جزءًا من معرض جماعيّ، وأسكنه سرب حمام لفترة زمنيّة متواصلة، طرده قبل افتتاح المعرض بيوم، وترك باب القفص مفتوحًا. ما تبقّى للعرض، البيت - القفص المهجور مع آثار الحياة التي كانت داخله، ومع إمكانيّة عودة الحمام.

انتماء وانفصال

'البيت' مصطلح مشحون بمعان خارجة عن وجوده المادّيّ، بالإضافة إلى أنّه يعدّ الرمز الصرف للملكيّة وللانتماء. يشير السؤال: في أيّ الأمكنة تشعر وكأنّك في بيتك؟ إلى مكان محدّد، في الوقت نفسه الذي يشير به إلى حالة رمزيّة - عاطفيّة وروحيّة وسياسيّة.

أعمال قيس الأرابسيك استمرار لتناول هذه الأسئلة، وهي تعقّد فكرة الأرابيسك رمزًا؛ العلاقة النزاعيّة بين الثقافتين الإسلاميّة والغربيّة، والإمكانيّات التي يتيحها للحديث عن اللانظام من خلال النظام، ومن خلال الانسجام لتناول انعدام الانسجام، وبواسطة الكمال للحديث عن الانكسارـ وذلك باستخدام عمل بناء وتشييد، استعارةً لحالات الانتماء والانفصال.

'اقتلاع'، 2012، عمل تركيبيّ، 300*300*400 سم

'أرابيسك III' هيكل مؤقّت ومتحرّك، من دون أسس، سهل التركيب وسريع التفكيك. مكعّبات الأرابيسك في هذا العمل الإنشائيّ النحتيّ تتصرّف مثل لبنات بناء، تتكدّس الواحدة فوق الأخرى بطريقة نموذجيّة لخلق جدار أو سقالة ضخمة، مصنوعة من نموذج متكرّر ينتشر على طول الفضاء وعرضه. إنّه مبنى هندسيّ غريب، يبدو نموذجًا خرج عن حجمه الطبيعيّ، في لحظات معيّنة يكون مبهجًا للعين، وفي لحظات أخرى كئيبًا ومخيفًا. سقالة يتيمة، مستقرّة، لكنّها على وشك الانهيار أيضًا، دون أيّ وظيفة، لا تصل إلى أيّ مكان ولا تسند شيئًا، تتدلّى وتقف في فضاء فارغ، منزوعة السياق، وفي الوقت نفسه مشبّعة بسياقات.

'تجاوز'

اللافت في اختيارات قيس في أعماله التركيبيّة استعمال موادّ مستعارة مع عالم البناء، تتمّة لفعل البناء والتشييد الذي يقوم به، كالخشب في سلسة 'أرابيسك'، والباطون في إنشائيّة 'تجاوز'، المادّة الخامّ، والباردة، والخشنة، والمكشوفة التي لا تخفي شيئًا. تلك المادّة التي تعبّر أكثر من سواها عن العمران الوحشيّ الذي اعتمده وأمّمه المعماريّون الإسرائيليّون في العقود الأولى التي أعقبت احتلال عام 1948. يضمّ العمل عناصر شبه وظيفيّة مرتبطة بمفهوم البيت بعامّة، وصالة البيت بخاصّة، ومنها الأريكة وخزانة الكتب والطاولة وغيرها، الحاضرة كحطام لما كان في فترة مضت، أو كان يمكن أن يكون، بيتًا.

'تجاوز'، 2015، عمل تركيبيّ

الدمار الذي حلّ بالمنازل وواقع الحياة فيها، اللذان انكشفا لكلّ ناظر في الحرب الأخيرة على غزّة (2014)، شكّلا نقطة الانطلاق للعمل الإنشائيّ. فإنّ التشكيل المعماريّ المرعب الذي سبّبه جبروت الحكم الإسرائيليّ لمنازل غزّة، يتّخذ شكلًا وصورة في العمل الإنشائيّ، من خلال إعادة خلق الحيّز الخالي الذي تكوّن حين جُرّد البشر من كلّ ما يملكون. إنّنا نقف أمام اللا شيء، أمام المكان الذي كان فيه من قبل شيء ما.

بهذا المعنى، يمكّننا عمل قيس من التفكير في المنزل، ورؤية المنزل والحركة نحو داخله وخارجه، كأنّها الحلبة التي انكشف المنزل عبرها للناظرين بخلاف رغبة قاطنيه، على نحو يقتحم فيه الخارج الداخل، مفرغًا خصوصيّته ولاغيًا إيّاها بعنف. ومع التمعّن في العمل، لا يغيب عن أذهاننا جدار الفصل العنصريّ، والذي يجسّد آليّة هدم النفوس بهمجيّة القمع والعزل، ومحاولة سلخ أجزاء البيت عن بعضها البعض.  

'تجاوز'، 2015، عمل تركيبيّ

الطرح المغاير في تداول مفهوم 'البيت' من خلال سيرورة من التجريد و الصياغة التصويريّة، ما هو إلّا تعبير عن 'الأنا' الراسخة، والتي تبحث عن جذور هويّتها في زمن اختلطت فيه المفاهيم والقيم، هو أسلوب الفنّان محمود قيس، والذي تعتريه بساطة اختيار المواد، والعمل بطرق يدويّة أثناء بلورته للغته النحتيّة، تتميّز بالرقيّ، وعمق التفكير، والعمل الدقيق المدروس الذي يستند إلى خلفيّة ثقافيّة تحاكي، استطراديًّا، الفنّ الغربيّ التجريديّ، ودراية بتاريخ الفنّ تجعله يواكب الفنّ المعاصر في زمن ما بعد بعد الحداثة.

***

الفنّان محمود قيس: من مواليد نحف عام 1985، حاصل على بكالوريوس وماجستير الفنون الجميلة من جامعة حيفا، ويعمل محاضرًا مؤهّلًا في كلّيّتي "صفد" وأورانيم"، وجامعة حيفا.

 

 

ياسمين حجيرات

 

مؤسّس شريك في 'جاليري أبيض' للفنّ المعاصر، المنبثق عن جمعيّة أبيض لتطوير مشاريع فنّيّة وثقافيّة في المجتمع الفلسطينيّ. ناشطة في مجال المبادرات الفنّيّة الجماهريّة. حاصلة على بكالوريوس الفنون الجميلة وعلم النفس، وماجستير في العلاج بواسطة الفن.  قيّمة معارض، بالإضافة إلى عملها في مجال العلاج بواسطة الفنّ.