عصام طنطاوي: أعجب من فنّان تشكيليّ لا يقرأ الشعر

للفنّان عصام طنطاوي

المدينة، الطفولة، الحنين، الشعر، الموسيقى، مفاتيح روحانيّة لعالم الفنّان التشكيليّ الأردنيّ عصام طنطاوي. المدينة وبيوتها، على حدّ تعبيره، جدليّة بصريّة لا تنتهي، بأضوائها وظلالها. فنّان يتداعى على سطح اللوحة بتلقائيّة طفل تغمره الدهشة والرغبة بالولوج إلى مناطق جديدة كلّ مرّة، والتشكيليّ لديه لا ينفصل عن الشاعر وعن الموسيقيّ، ويثير استغرابه فنّان تشكيليّ لا يقرأ الشعر، أو لا يسمع الموسيقى، أو لا يشاهد السينما على نحو دائم.

يتمرّد في تجريده على الإيقاع، ليؤكّد أنّ نسقًا داخليًّا ما في العمل الفنّيّ، يمنع الفنّان، وهو في أقصى حالات الفوضى، من التشظّي، ويدير اللعبة بدهاء. ويقول إنّ علاقته بالأدباء أوثق وأعمق من علاقته بالفنّانين.

محمّد: أنت فنّان بارع في رسم بيوت مدينته، ولفرط حساسيّتك تكاد البيوت المأهولة تقول لنا ما يدور داخلها من حكايات. حتّى تلك المهجورة نكاد نرى حنينها ونحسّه، كأنّ اللوحة لقطة متحرّكة من شريط سينمائيّ، وعلى الرغم من هذه العلاقة، إلّا أنّك اخترت العيش في مرسمك...

عصام: مرسمي جزء من هذه البيوت التي أطلّ عليها من شرفتي في جبل اللويبدة، أمام الجانب القديم من  الجبل المقابل/ عمّان. من هنا أتأمّل خيوط ذهب الشمس وهي تتجوّل صباحًا بينها، وكيف تنسحب عنها قبيل الغروب؛ جدليّة بصريّة لا تنتهي ما بين الأضواء والظلال، وهي حالة عشق لا تنتهي، تتغيّر ألوانها كلّ ساعة في النهار، وعبر الفصول.

عصام طنطاوي

أكثر لون يسحرني آخر الليل، هو ذلك الأزرق الفضّيّ في سكون المدينة. أصغي لأنفاس النائمين فيها، هذه البيوت التي تتسلّق الجبال بلا نسق واضح... العشوائيّة اللذيذة. هل كنت سأعشق 'عمّان' الجديدة التي يمكن أن تراها في أيّ مكان؟ أتذكّر كلمة لمحمود درويش 'من مبنى بلا معنى إلى معنى بلا مبنى'.

أتجوّل عادة في الفجر، أحمل كاميرتي وأجلس على جبل القلعة بدايات الصباح. العجيب أنّني كلّ مرّة أرى المشهد/ المشاهِد بعين جديدة، الكاميرا تحتفظ ببعض الصور ضمن كادرها المحدود، لكنّ الصور الأجمل التي تظلّ كامنة في رأسي محاطة بمشاعر جميلة تثري لوحاتي القادمة. عمّان موجود في كلّ لوحاتي، القريبة من الواقع، الحالمة، حتّى التجريديّة... عمّان القديمة، الفوضويّة والعشوائيّة، مثيرة لعين الفنّان الذي تصادف أنّه 'أنا'.

محمّد: لوحاتك تجمع بين المرأة والرجل غالبًا، وثمّة حوار مفترض يدور بينهما على لسان اللون الذي تختاره. من المعروف أنّ مهمّة الشاعر الرسم بالكلمات، لكن كيف للفنّان أن يرسم الكلمات نفسها ويصوغها بجملة لونيّة يتحدّث بها شخصان في اللوحة؟

عصام: أعترف لك بأنّني لم أخطّط يومًا لأيّ لوحة رسمتها، أو سأرسمها، وبأنّني أتداعى على سطح اللوحة بتلقائيّة طفل تغمره الدهشة والرغبة بالولوج إلى مناطق جديدة كلّ مرّة. لم أكن أقصد وجود الرجل والمرأة المتلازم على هذا النحو، لكن ربّما هو الأمر كذلك لأنّني لا أريد ترك أحدهما وحيدًا، فكلاهما يؤنس الآخر. هكذا يتخيّل الطفل الذي نشأ في بيئة بسيطة في بيوت الطين القديم، البيت المكوّن من غرفة واحدة، العائلة المتلاصقة بالحيّز الضيّق. لكنّ حضور المرأة/ الأمّ في اللوحة كان أقوى من حضور الأب الغائب معظم الوقت بحكم عمله البعيد. ثمّة أطفال أشقياء يشبهونني، يلعبون في أرجاء لوحاتي، يتسلّقون جدران المدينة.

لا ينفصل التشكيليّ عن الشاعر عن الموسيقيّ، كلّهم يلتقون على ذات الموجة، ولو اختلفت وسائطها ووسائل تعبيرها. أنا مسكون بالشعر والموسيقى أوّلًا، وفي التشكيل كما في الموسيقى بناء المشهد البصريّ يسبق اللون، النوتة التي يلعب عليها المايسترو وينثر الألوان والأصوات من خلالها.

محمّد: في لوحاتك التجريديّة لا تكتفي بإعادة تشكيل الأشياء الموجودة في الكون ومن حولك، واختزال أفكارها ودلالاتها، بل إنّك تمنحها حقيقة مطلقة، بعد أن تخلّصها من آثار الواقع. أظنّ أنّ التجريد رهان الموهبة، لتطلبه ذهنيّة معرفيّة يتسلّح بها الفنّان. لكنّه في الوقت نفسه، وفق نقّاد، أشرع الباب أمام كلّ من أراد أن يكون فنّانًا. إلى أيّ مدى يتقبّل الجمهور الفنّ الذي يعتمد على العلاقات اللاعقلانيّة والتقابل اللغزيّ للأشياء؟

عصام: ليس مطلوبًا من اللوحة التجريديّة محاكاة أيّ واقع، وإن تشابهت معه بصورة عفويّة، أو غير مفتعلة. إنّها كائن جديد تمامًا، أهمّيّتها أنّها تخلق كيانها الخاصّ، المثير للدهشة، الغامض/ الواضح. اسمها تجريد، حرّيّة مطلقة، إيقاع لونيّ، أشكال تتصارع على مساحة اللوحة، طاقة انفعاليّة لا يجدها بالرسم الكلاسيكيّ ولا التعبيريّ.

اتّسعت مدارس الفنّ الآن، واختلطت ببعضها؛ تجريد غنائيّ يلعب تونات اللون، أو تجريد مشاكس يتمرّد على الإيقاع بخطوط سوداء لا نسق لها. في أقصى حالات الفوضى التي يدّعيها الفنّان، ثمّة نسق داخليّ ما في العمل الفنّيّ يمنعه من التشظّي، ويدير اللعبة بدهاء يحاول ألّا يكشف الصنعة وأسرار الفنّيّة، جدل غريب يحتاج إلى حرّيّة وشيء من الحكمة، لكنّني لا أخفيك أنّ اللعبة دخلت الاستسهال أو الاستهبال، فوضى عارمة لا أعرف نهايتها. ما أخشاه أن تصبح كلّ لوحاتي شيئًا من زمن منقرض لا ضرورة لوجوده في زمن الحداثة المجنونة هذه.

محمّد: يرى فنّانون تشكيليّون ونقّاد أنّ الحديث عن سوق ومزادات للفنّ التشكيليّ العربيّ، بصفتها تعكس القيمة الفنّيّة، أمر لم يعد ممكنًا، ويرون أنّ انقلابًا كبيرًا حدث مؤخّرًا، وجعل السوق تنفصل عن الوسط التشكيليّ، فترفع معاييرها التجاريّة مَنْ تشاء، وتخفض مَنْ تشاء. كيف تنظر إلى الأمر؟

عصام: هذه حالة غامضة لا أفهمها، ولم أتقنها بعد، إنّها لعبة دهاقنة تسويق وشبكات (بزنس) قد لا تكون قيمة الفنّ لديها بذلك العمق الذي نعتقده. فوجئت، مثلًا، في برنامج وثائقيّ طويل، أنّ المافيات الروسيّة التي دخلت السوق التشكيليّة هي التي تصنع نجومها في روسيا، وكذلك في أسواق أخرى، من خلف ستارة، بمعاييرها لا بمعايير الفنّ.

نشأت في العالم العربيّ أيضًا ظواهر شبيهة طغت على أسواق الفنّ، سببها الإسفاف، فلم يعد يحتاج الأمر للمسة يد الفنّان، أو مهارة فرشاة، أو كلّ ما عرفناه عن تاريخ الفنّ.

قد تكون لدى أحدهم فكرة يرتكبها في فضاء ما، قد تكون حمقاء، أو حتّى سطحيّة، فتجد من يصدّقه ويروّج له، مثل الفنّان الصينيّ الذي ملأ قاعة ضخمة بالموز! هل سنشهد السنة القادمة للفنّان نفسه أرضًا مغطّاة بالفراولة، أو البطّيخ، أو الصراصير الميّتة؟ لا أتكهّن... لا أعرف. أو فنّان ألمانيّ في سمبوزيوم يونانيّ عالميّ، وضع كومة هائلة من القمامة في صالة بيضاء.

كنت أعاني في الأردنّ من صفات يطلقها الكثير من السذّج على أعمالي التجريديّة التي باتت تبدو متّزنة جدًّا، بأنّها شخابيط لخابيط. سأضحك الآن وأنا أتذكّر أنّني خلال معرضيّ في هامبورغ 2006، وبرلين 2007، قالوا لي بلطف: إنّ أعمالي هذه باتت كلاسيكيّة! لكنّ بعض الناس يحبّون هذا، وللناس في ما يعشقون مذاهب، أو كما يقول المثل الفرنسيّ: لا نقاش في الأذواق.

محمّد: ما هي مواردك المعرفيّة، فنّانًا تشكيليًّا، وإلى أيّ حدّ تلتقي الفنون مع الآداب والفنون الأخرى؟ وكيف تنظر إلى مسار الفنّ التشكيليّ الأردنيّ والعربيّ؟

عصام: الموارد المعرفيّة متاحة الآن لكلّ إنسان/ فنّان، المهمّ كيف يوظّفها في أعماله. أنا لم أدرس الفنّ في أيّ معهد أو أيّ جامعة مثلًا، وقد اخترت لنفسي هذا المصير الذي أعشقه ولا أجد نفسي من دونه، مع أنّ الكتابة تحاول أن تنافس أحيانًا. كتبت الكثير من المقالات الساخرة، والجادّة الفنّيّة، في الصحافة الأردنيّة قبل سنوات، وكتبت القصّة القصيرة التي نشرت منها في الصحافة السعوديّة وفي مجلّة 'كل العرب' التي كانت تصدر في باريس عندما كنت أعمل هناك مدّة تسع سنوات.

لديّ مخطوطات/ أفكار لمسرحيّات لم تظهر في العلن، وقد يبدو غريبًا أنّني، فنّانًا تشكيليًّا، شحيح العلاقة مع التشكيليّين إلى درجة مجحفة، لسذاجة معظمهم في نظري. علاقاتي مع الأدباء أعمق وأوثق من غيرهم، وأكثر استمراريّة وقربًا. عندي أوراق في أدراجي قد تكفي لأكثر من كتاب، لكن في الوسط الثقافيّ، هنا وهناك، يقولون 'فنّان يكتب'، أو 'كاتب يرسم'، أي صفة أولى تتبعها أخرى بخجل.

الثقافة الفنّيّة لا تُجزّأ، وأنا أعجب من فنّان تشكيليّ لا يقرأ الشعر، أو لا يسمع الموسيقى، أو لا يشاهد السينما على نحو دائم. كما أعجب من القطيعة بين محترفي أصناف الفنون والآداب، إنّه الخواء الذي يجعلك تشعر بالدهشة والمرارة بين هؤلاء. كلّ حقل إبداعيّ يثري الآخر ويوسّع دائرة الرؤيا والرؤية.

 

محمّد عريقات

 

شاعر وكاتب فلسطينيّ يقيم في الأردنّ. صدرت مجموعته الشعريّة الأولى تحت عنوان 'أرمل السكينة' بطبعتين، عن المركز القوميّ للدراسات والتوثيق في فلسطين 2009، وعن المؤسّسة العربّية للدراسات والنشر في بيروت 2010. صدرت مجموعته الشعريّة الثانية 'أكلتني الشجرة'، عن المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر في بيروت 2016. حاصل على عدّة جوائز أردنيّة وعربيّة. يعمل في مجال الكتابة الدراميّة في المركز العربيّ للإنتاج الإعلاميّ.