بانكسي يقدّم: الفنّ الاستشهاديّ

لوحة بانكسي، "طفلة البالون"، تدمّر نفسها | جاك تايلور - جيتي إيميجز

 

لا نعرف في تاريخ الفنون عملًا فنّيًّا تضاعف سعره، بالسرعة الّتي تضاعف بها عمل بانكسي "طفلة البالون"، لكنّ تضخّم السعر - على نقيض ما تكتبه معظم الصحافة العالميّة - ليس أثرًا ناتجًا عن العمل الفنّيّ الّذي "دمّر نفسه"، إنّ التصاعد الفوريّ في القيمة الماليّة لهذا العمل الفنّيّ - بذاته ولا شيء غيره - يكمن في المقولة الفنّيّة الّتي قدّمها الفنّان المجهول الهويّة.

 

تفجير علاقة

من نافلة القول إنّ تدمير العمل الفنّيّ بذاته، ليس خطوة مجدّدة؛ "تدمير الفنون" بسياقات ومعانٍ مختلفة فعل فنّيّ كُتب فيه الكثير، إنّ "التدمير الذاتيّ" للفنون يعود إلى حركة فنّيّة، بدأها غوستاف متسيغر في الستّينات؛ إذ أبدع أعمالًا قائمة على تدمير ذاتها "والعودة إلى عدمها".

 

 

تقوم الفنون الجميلة الحديثة على محاكاة ذاتها، عبر الحوار مع تاريخ تكوّنها وسيرورته، وتحوّل سياقها إلى عامل جوهريّ في مقولتها؛ حتّى بات هذا السياق غالبًا على المضمون البصريّ للأعمال. تطوّرت الفنون الحديثة والمعاصرة؛ من خلال قدرتها على الحوار مع ذاتها، والحوار مع تاريخ الفنون، ومع مركّباتها وسياقها الفنّيّ. اختبرت الأعمال الفنّيّة أشكالها الهندسيّة والألوان والموادّ والتقنيّات، كالمعاني المتكوّنة من رموزها البصريّة، وبحثت أعمال كثيرة في العلاقة بين العمل الفنّيّ وفضاء العرض، كالعلاقة بتقنيّات إعادة إنتاج الصور، وعلاقة الفنّ بالصحافة والإعلام، وغيرها. بانكسي يستمرّ بهذا المسار، ويطلب في عمله أن يفجّر علاقة جديدة.

 

تدمير رأس المال

في "تدميره" للوحة "طفلة البالون"، يعرض بانكسي العلاقة بين العمل الفنّيّ وعامل آخر في النظام البيئيّ للفنون، وهو عامل بات حاكمًا ورئيسيًّا: سوق الفنّ. لقد شهد القرن الحادي والعشرون تهافتًا خياليًّا على سوق الأعمال الفنّيّة، من قِبَل مُتخمي العالم. إنّ جمع المقتنيات الفنّيّة صار فريضة أساسيّة بين فاحشي الثراء، وممارسة تعبّر عن سباق ماليّ فظّ للسيطرة والاستحواذ، وليس مجرّد رأس مال رمزيّ يدلّ على "رُقيّ" اجتماعيّ.

أمّا المزادات العلنيّة، فباتت تُذكّر بصالات البورصة، ليس فقط إن تمعّنّا بمظهر المندوبين، وهم يتحدّثون عبر الهاتف مع مشغّليهم لاتّخاذ القرارات، إنّما تذكّر بسوق الأوراق الماليّة بسبب افتراضيّة ما تتاجر به: إنّها لا تتاجر في القيمة المادّيّة الفعليّة، قدر ما تتاجر بقيمة معنويّة تعبّر عن العلاقات الماليّة ذاتها، عن الثقة والائتمان في "سلعة" ما، بمعزل عن ماهيّتها.

 

دمّروا الرأسماليّة | بانكسي

 

إنّ التعبير عن خرائط القوى الرأسماليّة بات جوهريًّا في العمل الفنّيّ، وقدرة العمل الفنّيّ على مضاعفة سعره هي ما باتت تمنح الثقة بمعناه، وليس مضمونه البصريّ.

هكذا، تصبح رأسماليّة ما بعد الحداثة قادرة على ابتلاع كلّ شيء، حتّى ما يهدّدها ويهاجمها، تنزع منه سمّ المعنى، ولا تُبقي له إلّا قيمته في البيع والشراء. وقد عبّر بانكسي عن ذلك سابقًا في جداريّة "Destroy Capitalism"، حيث رسم شابّات وشبّان يصطفّون في طابور؛ لشراء قمصان كُتب عليها "دمّروا الرأسماليّة"، بسعر 30 دولارًا.

 

لحظة اهتزاز

ما فعله بانكسي، عمليًّا، أنّه جعل جموع البشر تشاهد اللحظة الّتي يهتزّ فيها ميزان المال، وتتضاعف القيمة المادّيّة للمعنويّ الافتراضيّ. هذه المضاعفة في السعر هي ذاتها العمل الفنّيّ، وليس تقطيع اللوحة. إنّ استعراض هذه اللحظة وكشفها، ذروة تاريخيّة في الجدل العنيف بين المال والفنون، هذه اللوحة "الاستشهاديّة" لم تدمّر نفسها؛ فقد كان يمكنها أن تبقى كما كانت لمئات السنوات؛ لو أنّها لم تُبع في المزاد، لكنّ الّذي يعرضه بانكسي، آليّة رأس المال في الامتلاك وبسط السيطرة، ثمّ تحويل مقاومة السيطرة والاحتجاج عليها، إلى وسيلة لمضاعفة القوّة، وهو تعبير عن الأزمة الحقيقيّة، الورطة الحقيقيّة، الانسداد الحقيقيّ في الأفق الوجوديّ، لمن يناضلون حول العالم ضدّ النظام العالميّ المُجرم.

 

التفشّي

يجدر الإشارة في هذا العمل إلى عاملين أساسيّين: الأوّل له علاقة بالجمهور المتفرّج، والثاني بالمضمون البصريّ. أمّا في ما يتعلّق بالعلاقة بالجمهور، فإنّ تصوير العمل الفنّيّ ونشره عبر الإنترنيت، ووصوله إلى الملايين، جزء لا يتجزّأ من طبيعة العمل.

في بيانه حول الفنّ "المدمّر ذاتيًّا"، يكتب غوستاف متسيغر عن أهمّيّة "مشاركة الجمهور" في مشاهدة العمل الفنّيّ في الحيّز العامّ، وألّا تقتصر المشاركة على مجموعات أو نخب مغلقة.

 

غوستاف متسيغر

 

ما يفعله بانكسي في هذا السياق أنّه يستغلّ مزيّة التفشّي "أي Virality"، في عالم وسائل التواصل الاجتماعيّ؛ حتّى يحرّر اللحظة الفنّيّة، أو الحدث الفنّيّ لحظة تقطّع اللوحة، من الصالة الفارهة المغلقة، الّتي لا يعرف عنها إلّا فئة ضيّقة جدًّا من الناس، يحرّر اللحظة الفنّيّة من النخبة الّتي تختطفها، ويحوّلها مرئيّة لجميع الناس؛ أو بكلمات أخرى، يُعيدها إلى فنّ الشارع المتاح للجميع؛ وهذا دليل آخر على أنّ العمل الفنّيّ، يكمن في هذه اللحظة الّتي التقطتها الكاميرات، ما يحدث فيها وما يحدث حولها، وما هو غير المرئيّ فيها "تضاعف السعر"، وليس تقطيع اللوحة ذاته.

 

ألوان بانكسي

العامل الثاني يتعلّق باللوحة ذاتها؛ فإنّ اختيار لوحة "طفلة البالون" تحديدًا، لتنفيذ هذه المهمّة، يستحضر إلى حدّ بعيد عملًا فنّيًّا آخر، عملًا كبير الحجم، مجسّمًا، ملوّنًا لامعًا، سجّل رقمًا قياسيًّا في المزادات العلنيّة؛ باعتباره أغلى عمل يباع لفنّان على قيد الحياة، بقيمة 58,4 مليون دولار: "كلب البالون" لجيف كونز.

في لوحة بانكسي، طفلة باللون الأسود تفارق بالونها الملوّن بالأحمر. إنّ الألوان، في عدد من أعمال بانكسي، تظهر في "أشياء" تربط العلاقة بين الإنسان "بالأسود" والسلطة؛ باقة الورد الملوّنة الّتي يقذف بها متظاهر بالأسود، رجل أعمال يلحق الناس "المظلّلين بالأسود" بسوط أحمر اللون على هيئة دالّة ارتفاع أسهم البورصة. وحتّى في "Destroy Capitalism"، فإنّ العامل الوحيد الملوّن في الجداريّة، القميص "السلعة".

 

كلب الشرطيّ | بانكسي

 

اللافت في سياق "كلب البالون" لجيف كونز، أنّ بانكسي يستعمل في إحدى جداريّاته كلب بالون ملوّنًا مربوطًا بيد ضابط شرطة، وسيلةً للقمع؛ لهذا يجب الانتباه إلى أنّ لوحة "طفلة البالون" لم تقطّع كاملة، إنّما الطفلة السوداء ممزّقةً، تفارق مخيّلة انقطعت عنها، مخيّلة اختُطفت وصودرت في الإطار الفخم، الّذي لم يُبقِ من العمل إلّا رمزيّة القلب الأحمر التافهة.

 

 

مجد كيّال

 

صحافيّ وروائيّ. وُلد في حيفا عام 1990 لعائلة مهجّرة من قرية البروة. صدرت له رواية "مأساة السيّد مطر" عن الدار الأهليّة، ودراسة "كيف يتغيّر النظام الصهيونيّ؟" عن مركز "مسارات".