سوريا في "متحف بروكلين": أعمال مهمّة، إطار مستخفّ

جانب من عمل "مياه سوداء، عالم يحترق" (2017) لعصام كرباج | vam.ac.uk

 

المعرض عن اللجوء السوريّ في "متحف بروكلين للفنون"، لا يفي بالوعد الّذي يقدّمه عنوانه: "سوريا حينها، والآن: قصص لاجئين يفصلها قرن". يحاول المعرض أن يمدّ جسرًا فوق قرن من اللجوء، من سوريا وإليها؛ فيجمع أعمالًا لفنّانين سوريّين معاصرين، حول لجوء ما بعد الثورة، إلى جانب قطع أثريّة من القرن الثالث عشر، لكنّ الجسر الّذي يمدّه المعرض هشّ، ويفتقر إلى المبرّرات الفنّيّة أو التاريخيّة لجمع هذين العالمين.

 

القطع الأثريّة من العصر الأيّوبيّ ضمن المعرض | جوناثان دورادو

 

حسب القصّة الّتي يسردها المعرض، فقد وُجدت قطع السيراميك الّتي تعود إلى الحقبة الأيّوبيّة في بداية القرن العشرين. شهد القرن التاسع عشر غزوًا روسيًّا للقوقاز، ثمّ تهجير الشركس ولجوءهم إلى سوريا، وفي أثناء تنقيب الشركس عن الحجارة؛ لبناء بيوتهم في منطقة الرقّة، حسب المعرض، عثروا على هذه القطع الأثريّة الّتي وجدت طريقها - وهذه قصّة أخرى - إلى "متحف بروكلين"، الغريب في الأمر أنّ هذه القطع، بخلاف ما يرويه المعرض، مقيّدة في سجلّ المتحف، على أنّها وُجدت في أثناء حفريّات "المتحف الإمبرياليّ العثمانيّ" في 1906 - 1908.

 

استسهال

المعارض الموجودة في "متحف بروكلين" هذه الأيّام، بالغة الحساسيّة الفكريّة والجماليّة. "أزرق لانهائيّ" يقدّم استعراضًا ضخمًا ومتماسكًا على مستويات عدّة، لتمظهرات اللون الأزرق في تاريخ الفنون، أو "روح أمّة: الفنّ في عصر القوّة السوداء"، الّذي يعالج بجدّيّة وقوّة، وجَمْعٍ لأكثر من 150 عملًا فنّيًّا، عقدين من الفنون الأفريقيّة - الأمريكيّة، من جماعات فنّيّة وتباينات بحسب الولايات والفترات، والمسافة من العمل السياسيّ وغيرها.

 

جانب من عمل "لاجئون" (2018) لجنان مكّي | edgeofarabia

 

على خلفيّة معارض بهذه الجدّيّة؛ يصبح هذا المعرض باهتًا يسخر من زائريه؛ فقصص اللجوء إلى سوريا، للأسف، "غنيّة" جدًّا ومأساويّة، منها لجوء الأرمن والشركس في بدايات القرن العشرين، ولجوء اليونانيّين في الحرب العالميّة الثانية، وأهمّ موجاته لجوؤنا الفلسطينيّ إلى سوريا، ثمّ اللجوء العراقيّ عند الغزو الأمريكيّ؛ ولا يعني هذا أنّ كلّ معرض يجب أن يشمل التاريخ بأسره، لكن حتّى معرض عن اللجوء الشركسيّ وحده إلى سوريا، بوسعه أن يشمل معرفة وذائقة أعمق وأرفع؛ فهل هو استسهال لإرفاق قطع موجودة في المتحف أصلًا وإلصاقها للمعرض؟

 

بعد ذاتيّ

هذا الإطار لم يضف إلى الأعمال الفنّيّة المعاصرة قيمة، لكنّه لم ينتقص منها أيضًا. إنّ أعمال الفنّانة اللبنانيّة جنان مكّي باشو، والفنّانَين السوريَّين عصام كرباج ومحمّد حافظ، تُعطي رموز اللجوء المألوفة والعامّة – مثل الحقائب والقوارب والجموع النازحة - بُعدًا ذاتيًّا لطالما يفقده الناس في تشابه مآسيهم. الألوان المختلفة في كلّ واحد من شخوص جنان مكّي باشو المعدنيّة في "لاجئون" (2018) تتآكل، كأنّما مسيرة النزوح في ذاتها درب يفقد الإنسان فيها مزاياه. أمّا عيدان الثقاب المحترقة، اللاجئة المكدّسة في قوارب عصام كرباج "مياه سوداء، عالم يحترق" (2017)، فإنّ سوادها الميّت يُعيدها في مخيّلتنا، إلى اللحظة الّتي احترقت فيها. لا يمكن أن نرى أعواد الثقاب المحترقة، دون أن نرى لحظة الاحتراق، لكلّ واحد منها – رؤوس أعواد الثقاب - ذاكرتها، عقليّتها، أفكارها، احترقت كلّها احتراقًا لا يعرضه العمل، قدرما يدفع بذاكرتنا إليه.

 

صورتنا داخل المرآة

ينسحب هذا على أعمال محمّد حافظ، الّتي تحوّل حقيبة السفر/ اللجوء إلى حقيبة لصور الذاكرة وصدمات الحرب. من داخل الحقيبة المفغورة "سلسلة الحقائب، #4" (2016)، تخرج عمارة مدمّرة بكامل تفاصيلها، تفاصيل العمارة الّتي يجسّدها الفنّان والمهندس المعماريّ بدقّة هندسيّة عالية، تنقل إلى المشاهد معرفة شخصيّة صادقة بالمبنى، كذاكرة خامّ للمكان، وتصميم غرفه الداخليّة ودرجه، ومداخله قبل تدميره، لكنّه نقل أيضًا شكل هذا التدمير وأثره في المبنى.

 

جانب من عمل "سلسلة الحقائب، #4" لمحمّد حافظ | ماهر داوود

 

عمل آخر لحافظ هو "أذان دمشقيّ"، الّذي يبيّن مركبة للمخابرات السوريّة، تقف باب بيت في دمشق، يرافق هذا العملَ تسجيل لأصوات الأذان من دمشق، يختلط بأصوات مقهًى و"أطلال" أمّ كلثوم. غير أنّ الأهمّ في هذا السياق، تأطير هذا العمل التركيبيّ في إطار معدنيّ، يوحي أنّ الصورة المتكوّنة أمامنا، برعبها وقلقها وهمجيّتها، هي صورتنا داخل مرآة.

 

 

مجد كيّال

 

 

صحافيّ وروائيّ. وُلد في حيفا عام 1990 لعائلة مهجّرة من قرية البروة. صدرت له رواية "مأساة السيّد مطر" عن الدار الأهليّة، ودراسة "كيف يتغيّر النظام الصهيونيّ؟" عن مركز "مسارات".