لنتوقّف عن كنس أسئلتنا الصعبة تحت السجّادة

عمل الفنّان الفنلنديّ جاني لينونين، في "متحف حيفا للفنون"

 

لا يعفينا

لا يعفينا عنف الشرطة الإسرائيليّة في التعامل مع المتظاهرين الفلسطينيّين أمام "متحف حيفا للفنون"، أمس الجمعة، ضدّ معرض يدّعي المتظاهرون أنّه يسيء للمسيحيّة، لا يعفينا من طرح أسئلتنا الداخليّة على أنفسنا، ونحن مَنْ صرنا نحترف تصدير أزماتنا المجتمعيّة، وحصرها في البعد الاستعماريّ الإسرائيليّ فقط، فهو على ما يبدو الحلّ الأسهل والأقلّ "وجع راس"!

ثمّة إرباك لا يمكن إخفاؤه في حالة "متحف حيفا للفنون"، إرباك يكمن في إسرائيليّته، إدارةً وتمويلًا وعقليّة صهيونيّة، ما يجعله مؤسّسة تهميشيّة للفلسطينيّ، لا يحضر فيها إلّا تابعًا وفضلةً ضمن منظومة الصناعة الثقافيّة الإسرائيليّة بعامّة، وفي مدينة حيفا بخاصّة، الّتي تضمّ 6 متاحف رئيسيّة تحت إشراف بلديّتها، تُعنى بالفنون على نحو متفاوت، لكنّ واحدًا منها لا يرى في ثقافة سكّانها الأصليّين العربيّة، ومركزيّة هذه الثقافة في مشهدها اليوميّ، السياسيّ، والثقافيّ، والترفيهيّ، والاقتصاديّ، ما يدفع إلى منحها ما تستحقّه من مساحة واستثمار؛ "فشفافيّة الفلسطينيّ" وريثة المحو الكبير له عام النكبة، وليس حضوره القليل أكثر من عَرَضٍ جانبيّ للتعامل مع بقاياه الّتي تفرض نفسها حيّةً في المادّة وذاكرة المكان وواقعه، أمام ضغط أسئلة الوجود والهويّة المقلقة لدى نخب الاستعمار.

وهذا الإرباك لا يعفينا هو أيضًا من طرح أسئلتنا الداخليّة، الضروريّة رغم صعوبتها، حول قيم مجتمعنا، وسلوك وتوجّهات أفراده وشرائحه. وفي حالتنا هذه - أي الاحتجاج على مجموعة أعمال فنّيّة بادّعاء إساءتها لمعتقد ما، وفق وجهة نظر المعترضين - يُطرح السؤال حول مكانة الإبداع والفنون، وما يرتبط بها من حقوق إنسان وقيم ديمقراطيّة مركزيّة، وعلى رأسها التعدّديّة والحرّيّة في الاعتقاد والتفكير والتعبير، ولا سيّما أنّ سؤال الحرّيّة مكوّن مركزيّ من مكوّنات هويّة وثقافة الإنسان الفلسطينيّ المعاصر في ظلّ الاستعمارين الإنجليزيّ وخلفه الإسرائيليّ.

 

سبّابة الأحزاب

ومن دوافع "لا يعفينا" الّتي أصرّ عليها، أنّ بيانات الأحزاب المختلفة في أراضي 48، حول قضيّة "متحف حيفا للفنون"، وتحديدًا المتّصفة بـ "العَلْمانيّة"، لجأت، كما تفعل غالبًا، إلى البقاء في دفء الكنبة، في منطقة راحتها وأمانها تحت اللّحاف، تحرّك سبّابة الألفاظ لتدين عنف الشرطة وقمعها، وعنصريّة بلديّة حيفا، ولتحذّر من خبث ميري ريغف، الّتي رقّ قلبها على السيّد المسيح وأمّه العذراء، فجأة ودون مقدّمات، مطالبةً هي أيضًا، كما المحتجّين، بإزالة الأعمال من المعرض، وهي "فْريخَة اليمين" الّتي يرعى نظامها عصابات التطرّف المعتدية على نحو دائم على الكنائس والأديرة والمقابر المسيحيّة، والمتحالفة مع محتالي تشويه الهويّة، عبر تطييف التجنيد واختراع شعوب وأمم باستحضار تعريفات ثقافيّة من تاريخ الحضارات القديمة المندثرة، كالآراميّة!

في بيانات الأحزاب ما من أحد يسأل الأسئلة الداخليّة الصعبة، فتغدو حرّيّة التفكير والتعبير مجرّد جملة مُلْحَقَة عابرة، "ونؤكّد في الوقت نفسه على احترام..."، وذلك بعد استسهال الحكم على أعمال فنّيّة بأنّها "تسيء للمسيحيّة" أو أيّ معتقد آخر، دون تكليف للنفس بزيارة المعرض ومحاولة فهم رسالته وسياقه، أو اللجوء لمختصّين في الفنون ونقدها، ولو من باب الاستئناس برأيهم، والاكتفاء بالمؤسّسة الدينيّة وحدها لتكون صاحبة الخيار والقرار. ألم يُسأل قاتل فرج فودة خلال محاكمته، عن كتبه الّتي استنتج منها أنّه مرتدّ، فأجاب بأنّه لا يقرأ ولا يكتب!

نخبنا السياسيّة تحبّ غالبًا أن تمارس كنس الأسئلة الصعبة تحت السجّادة، أن تتهرّب من القضايا الاجتماعيّة والثقافيّة بادّعاء انشغالها بمناهضة الصهيونيّة (ويا ليتها تفعل بجدّيّة)، فما بالنا ونحن في موسم انتخابات، ولا مفرّ بالتالي من التأكيد على مسيحيّة المسيحيّ، ليَسْهُلَ التعامل معه بصفته خزّان أصوات يمكن دغدغته لنيل رضاه في نيسان القادم؟ حتّى مَنْ لم يتدخّل يومًا من الشخصيّات القياديّة، الّتي تملك حزبًا خاصًّا، في قضيّة من هذا النوع، قال إنّه اتّصل بإحدى الشخصيّات الدينيّة الحيفاويّة، وإنّه يستنكر ويدين ويرفض ولا يقبل وإلخ!

 

كلّ شيء يسيء

بذريعة "الإساءة"، وتحديدًا تلك الّتي ترتبط بمسوّغات دينيّة، شهدنا خلال سنوات قليلة، عشرات حالات التحريض والحظر والملاحقة والأذى، طالت أعمالًا ومؤسّسات وشخصيّات إبداعيّة وعلميّة وتربويّة وسياسيّة، في مختلف أماكن وجود الفلسطينيّين ضمن حدود فلسطين الانتدابيّة (التاريخيّة)؛ فتحظر السلطة الفلسطينيّة رواية "جريمة في رام الله" في الضفّة الغربيّة لأنّها "تخدش الحياء العامّ"، وتُخضع حماس "مهرجان السجّادة الحمراء" في قطاع غزّة لسلسلة من الإجراءات الرقابيّة الخانقة، كما تمنع كتاب "قول يا طير" العلميّ لأنّه "يخدش الحياء العامّ" أيضًا! ويكون التحريض والتعرّض بالأذى من قبل ناشطين وقيادات في التيّار الإسلاميّ في أراضي 48، بمختلف مشاربه، إلّا الصوفيّ والدعويّ، تجاه "عرض الستّ" لـ "جوقة سراج" في أمّ الفحم، وفيلم "المخلّص" ليوسف قمر في سخنين، و"رمضان ماركت" في الطيّبة والطيرة، كما تُمنع سناء لهب من العمل في مجال الدراما بمؤسّسات باقة الغربيّة لأسباب تتعلّق بآرائها السياسيّة من الأزمة السوريّة، وتُهاجم الفنّانة رنا بشارة بسبب إقامتها عملًا فنّيًّا تجسيديًّا يحاكي طقس المناولة المسيحيّ عبر استخدام الزيت والزعتر، وتُخَرَّب وتُزال مجموعة من التماثيل للفنّان أحمد كنعان في عدد من المواقع، ويُلغى عرض ستاند أب للفنّان نضال بدارنة لأنّه يتناول كوميديًّا التعامل الخرافيّ مع دموع تمثال مريم العذراء في إحدى قرى الجليل، وتتعرّض المخرجة ميسلون حمّود للملاحقة والتهديد بالقتل بسبب فيلم "برّ بحر"، بل ويُطلق الرصاص على سيّارة العدّاءة حنين راضي لتنظيمها ماراثونًا رياضيًّا نسائيًّا في الطيرة، وعشرات الحالات الأخرى.

إنّ إحصاء قرابة 200 حادث من هذا النوع، خلال عقد، يرشّح المجتمع الفلسطينيّ لأن يكون في مقدّمة المجتمعات العربيّة الّتي تنتشر فيها ثقافة الحظر، ما يحيل إلى أمرين، في مستوًى أوّليّ من الافتراض؛ أوّلها أنّ شرائح واسعة من هذا المجتمع تعيش حالة أزمة في علاقتها مع التعبيرات الإبداعيّة، الفكريّة والجماليّة، على نحو غير مسبوق في تاريخ هذا المجتمع، وذلك على الرغم من حجم الإنتاج والاستهلاك الضخم للثقافة، الّذي يعبّر عنه تنظيم مئات الأحداث الثقافيّة شهريًّا في مختلف أنحاء فلسطين، في القرى والمدن والمخيّمات، ولعلّ موسم احتفالات الميلاد ورأس السنة الميلاديّة، الفترة الأقرب منّا زمنيًّا لنقيس عليها. هذا الواقع بحدّ ذاته يدعونا إلى التفكير ومحاولة التفسير لما قد يبدو تناقضًا وانفصامًا: هل المجتمع الّذي يملأ مدرّجات مسرح روابي بـ 15 ألفًا في حفل غنائيّ صاخب، أو 20 ألفًا في ساحة "كريسماس ماركت" بالناصرة، هو نفسه الّذي يمارس كلّ أشكال الحظر والملاحقة هذه، بما تتضمّنه من عنف وتسلّط؟

أمّا ثاني الأمرين، فهو أنّ المجتمع الفلسطينيّ يعيش مخاض صناعة عقده الاجتماعيّ، بناءً وتفكيكًا، ويتّخذ من الثقافة مجالًا لذلك، حيث يدير صراعاته ويرتّب علاقاته، وذلك في ظلّ "انهيار النظام" السياسيّ - وفق تعبير سليم تماري في مقدّمة كتاب "القدس العثمانيّة في المذكّرات الجوهريّة" -؛ إذ ما من مشروع سياسيّ وطنيّ وحدويّ جامع يسعى للإجابة عن احتياجات الإنسان الفلسطينيّ، الفرديّة والجَمْعيّة، في ظلّ واقع المعازل والتشتيت الاستعماريّ، وترهّل المؤسّسات الوطنيّة، وعلى رأسها منظّمة التحرير، ما يجعله يرتدّ إلى دوائر هويّاتيّة ضيّقة، طائفيّة، وعشائريّة، ومناطقيّة، وفصائليّة، والّتي بضيقها يزيد التمترس، ويكون التضييق أكثر على إمكانيّات ومساحات التفكير والتعبير، لتنحصر في بؤر مدينيّة، بل وفي بؤر قلب مدينيّة، سيحلو لنا تسمية جانب منها "الثقافة النخبويّة"، وجانب آخر "الثقافة التحتيّة – under ground"، ولعلّ تطوّر النوع الثاني من الثقافة، وتزايد انتشاره، ليس إلّا تعبيرًا عن ضيق الـ "Ground"، ما يُضطرّ بعضنا إلى حفر هذا الـ "Under"!

 

الفرق أنّنا لا نملك الديناميت فقط

في ظلّ هذا الواقع، هل يمكن الادّعاء أنّنا نعيش شرخًا، بل شروخًا في العمق، مفاهيميّةً وقيميّةً، وليس بيننا والانهيار أو الانفجار المدوّي سوى الحدث الصدفة، أو التريجِر، وأنّ "الصمغ الاستعماريّ" حتّى، لم يعد قادرًا على جمعنا؟

وفي ظلّ هذا الواقع أيضًا، أليس يحقّ للدماغ أن يُبطئ قليلًا، وأن يسترجع مشهد تدمير تماثيل بوذا في أفغانستان على يد طالبان، بذريعة "الإساءة" للدين ومخالفة المعتقد الإسلاميّ، أو تدمير كنوز الحضارتين البابليّة والتدمريّة على يد تنظيم الدولة (داعش)، ثمّ أن يسأل: ما الفرق بيننا؟ أليست المنطلقات والنتيجة نفسها؟ هل الفرق أنّنا لم نبلغ مرحلة استخدام الديناميت، وأنّنا نقف عند حدود رشّ اسم محمود درويش على لافتة في شارع ما لأنّه "ملحد"؟ أو إلقاء قنبلة حارقة على مركز ثقافيّ أو متحف بسبب عرض موسيقيّ أو عمل فنّيّ؟

لقد كثرت ادّعاءات "الإساءة" والاحتجاجات عليها، إلى درجة أنّك لم تعد تستطيع أن تفرّق بين ما يسيء وما لا يسيء، هل هو الموسيقى، أم السخرية والضحك، أم الرياضة النسائيّة، أم الاختلاط، أم نقد المؤسّسة الدينيّة، أم اختراع شخصيّة رجل سكّير عاهر في رواية، أم شتيمة في فيلم، أم رقص الباليه، أم الدبكة لطلّاب وطالبات، أم حفلات محمّد عسّاف وهيثم خلايلة، أم ماذا؟ مَنْ يجيب عن هذا السؤال، ومَنْ يملك صلاحيّة تحديد "الإساءة" من عدمها طالما أنّ كلّ شيء يمكن أن يكون مسيئًا لأيّ شخص أو جماعة، فجأةً ومن دون مقدّمات، هل يحتمل المجتمع كلّ هذا التفريخ لأسباب وأشكال ومدّعي "الإساءة" و"مسّ المشاعر"، لنشهد كلّ يوم طوشة!

وإن كانت المسألة حقًّا احترام الأديان والمعتقدات، فهذا قيمة تعدّديّة، والتعدّديّة أن تتفهّم وجود مختلف معك في مجتمعك والعالم، وأنّك متى أردت الاعتراض على شيء بدر عنه، وإن كان منكرًا لدينك ومعتقدك، لا بدّ من احترامه أيضًا كما تطالبه باحترامك.

 

لحظة جماليّة

ما أنا أكيد منه على الأقلّ، أنّني زرت "متحف حيفا للفنون" مرّتين، لأغوص في معرض "SHOP IT"، المفتوح أمام الجمهور منذ تمّوز (يوليو) 2018، أي منذ نصف عام، والّذي يضمّ مئات الأعمال الّتي تنتقد بشدّة تسليع الإنسان ورغباته، وتحوّله إلى مسخ استهلاكيّ في ماكينة الرأسماليّة البرّاقة، حتّى عبر الفنّ الّذي ينقد نفسه في المعرض أيضًا.

لسبب ما توقّفت مطوّلًا أمام عمل الفنّان الفنلنديّ جاني لينونين، "مَكْيسوع"، مثار الجدل الحاليّ، وأمام عمل آخر ينقد بيع مجموعات صهيونيّة توراتيّة "للهواء المقدّس" من أرض الميعاد، مُعَلَّبًا ومدموغًا، للمؤمنين البيض، فتجني بذلك الملايين سنويًّا، وثالث يتساءل عن الأموال الّتي تُدَرّ في حصّالات (قُجج) لجان الزكاة الّتي لا تنتهي، على كلّ واحد منها صورة لجماعة أو مذهب أو تيّار.

أمام مثل تلك الأعمال وقفت، وأنا أفكّر: أيّ حسّ رائع يجب أن يتوفّر لدى فنّان ما، حتّى يتمكّن من صناعة مثل هذه اللحظة الجماليّة المستفزّة والمباغتة، حيث الانقضاض على نقطة التقاء سلطة المال بسلطة الدين، ليكون الفساد والجشع حاكمين!

 

 

علي مواسي

 

 

شاعر وباحث ومدرّس. يعمل محرّرًا لفُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة، بالإضافة إلى تحرير إصدارات مؤسّساتيّة وخاصّة، وتدريب مجموعات، وتدريس اللغة العربيّة وآدابها. ينشط ثقافيًّا وسياسيًّا في عدد من الأطر والمبادرات. له مجموعة شعريّة بعنوان "لولا أنّ التفّاحة" (2016)، صادرة عن الدار الأهليّة للنشر والتوزيع - عمّان.