محمّد سباعنة: لا أريد لأعمالي هويّة، ولا الوقوف خلف إمام

الفنّان محمّد سباعنة

 

وكأنّ المبدع الفلسطينيّ سيصل عاجلًا أو آجلًا إلى المشي على الحبل. المشي على تلك الحوافّ الّتي يكون فيها ملتزمًا لعدالة قضيّته، أو معبّرًا عنها، أو ناقلًا إيّاها إلى القارّات الصمّاء، ويكون فيها ملبّيًا لنداءاته الفنّيّة الداخليّة الخالصة. يبدو أنّ المشي على هذا الحبل، أصبح كالمشي على أوتوستراد عريض عند الفنّان محمّد سباعنة. وقد يلاحظ المشاهد ذلك بسهولة، حين يتفرّس بأعماله الأخيرة، الّتي وصفها فنّان الكاريكاتير والصحافيّ الأمريكيّ، بأنّها تخلق عالمًا بين الكاريكاتير واللوحة التشكيليّة. المشي عند سباعنة في صورته المُثلى، مشي الأعمى في حقل ألغام. هكذا يفكّر في فنّه وهكذا ينجزه، غير آبهٍ باعتبارات أو شخصيّات أو قوانين. هذا النوع من الرسم، الاحتجاجيّ والحادّ والرافض والصريح، يبدو دون حرّيّة فارغًا من معناه ومحتواه وتاريخه، وسباعنة ينتزع هذه الحرّيّة انتزاعًا، ولا يطالب بها، هو الّذي حتّى في زنزانته شعر بها، واعتبر الأسر مختبرًا لرسوماته.  

حاورته: أسماء عزايزة

 

فُسْحَة: ثمّة استخدام واضح في رسوماتك - غير الكاريكاتيريّة منها أيضًا -  للرموز والعلامات، سواء الدينيّة أو الوطنيّة أو غيرها؛ ما مكانة الرمز عندك؟ وهل تتخوّف منه؟ هل تتكرّر رموز دون غيرها؟ ولِمَ؟

محمّد: الرموز دلالة وإشارة على الشيء ومعناه وصفته في الكاريكاتير، ولا يستطيع فنّان الكاريكاتير تجاوز استخدام هذه الدلالات، في فنّ موجّه إلى الشارع، على اختلاف ثقافاته وتباين قدرته على الفهم والتفاعل مع اللوحة، الّتي بالضرورة تسعى إلى التعبير عن موضوع يمسّه ويمسّ حياته اليوميّة. ما أقوم به، أيضًا، هو استكمال لدور هذا الفنّ، في محاولته الدائمة لالتزام خطاب "الكلّ".

 

 

لا أنكر محاولاتي الحثيثة للتخلّص من تكرار اللغة المستخدمة في أعمالي، وأحيانًا في أعمال غيري، وفي الإرث الفلسطينيّ بعامّة؛ وهذا ناتج عن خوفي الدائم من تكرار اللوحة أو الفكرة، والبقاء في خانة التكرير. إنّ الالتزام اليوميّ في مخاطبة الجمهور يشكّل عبئًا على الفنّان، الّذي يتجسّد بخوفه من تكرار نفسه، أو تكرار مشاهداته الّتي تخزَّن في عقله الباطنيّ؛ هذا ما يدعوني إلى محاولة تطوير الرمز الفلسطينيّ. أعتبر محاولاتي لتجاوز بعض الرموز مسألة جدليّة؛ فمفتاح العودة مثلًا، الّذي أصبح مستهلكًا في كثير من الأحيان، أريد تثبيته رمزًا فلسطينيًّا، وتأكيد فلسطينيّته وعولمته من جهة، وأسعى إلى تعزيز خاصّيّتي؛ من خلال ابتكار رموز جديدة وخلقها من جهة أخرى، ولا أخفيك أنّ في هذا شيئًا من "الأنا" خاصّة الفنّان، ومحاولته لوضع بصمته. الموضوع جدليّ وشائك، ثمّة هويّتنا الفلسطينيّة ورموزنا ولغتنا البصريّة، في فنّ يسعى إلى مخاطبة الجميع، وثمّة مسعى الفنّان نحو تحقيق مشروعه الشخصيّ. لا يمكن تجاهل سعي الفنّان إلى وضع بصمته الفنّيّة، بعيدًا عن المحتوى السياسيّ أو الرسالة الوطنيّة؛ ولتحقيق واجبه الوطنيّ الّذي يجعل مسألة الحفاظ على الرموز أمرًا ضروريًّا.

حاولت في السنوات الأخيرة أن أخلق طريقًا فنّيّة، تعتمد بشكل أكبر على التكعيب، والتجريد أحيانًا؛ في محاولة لكسر الرموز التقليديّة، وجعل كلّ شخص رمزًا، ولا أعرف إن كنت قد نجحت في ذلك. على سبيل المثال، يظهر الفلسطينيّ دون فمّ؛ وذلك تجسيدًا للمناضل الّذي أضرب عن الطعام، وأصبح فعله بعيدًا عن الظواهر الصوتيّة.

 

فُسْحَة: كلّما تحدّث العالم عن الكاريكاتير الفلسطينيّ تذكّر ناجي العلي، لا شكّ في أنّ الفلسطينيّين أيضًا يعتبرونه الأب الروحيّ، أو المدرسة الّتي نشأ فيها فنّ الكاريكاتير الفلسطينيّ؛ إلى أيّ مدًى في رأيك، تقنيًّا وفنّيًّا، تأثّر الجيل اللاحق به؟ وهل كان لديك محاولات للنجاة من سيطرة إرثه؟

محمّد: عُرف رسّامو كاريكاتير فلسطينيّون قبل ظهور ناجي العلي، كربحي الصغير مثلًا، الّذي يُعَدّ مؤسّسًا لهذا الفنّ في فلسطين والأردنّ، لكنّ نشأة ناجي العلي لاجئًا، ومواقفه السياسيّة، وقضيّة اغتياله الّذي نجهل مَنْ نفّذه حتّى الآن، جميعها كانت عوامل أدّت إلى تحويل ناجي، ليس إلى أب روحيّ لفنّ الكاريكاتير الفلسطينيّ فحسب، بل العربيّ أيضًا، ويُعَدّ أيضًا رمزًا عالميًّا في هذا المجال، ثمّ إنّ حنظلة أصبح أيقونة الفلسطينيّ أينما وُجِد.

للأسف، يحاول الكثيرون من فنّاني الكاريكاتير، وبشكل دؤوب، أن يحملوا لقب خلافة ناجي العلي؛ تأثّرًا به واستكمالًا لدوره، أمّا أنا فأعتقد أنّ تجربة ناجي - بإيجابيّاتها وسلبيّاتها - هي لناجي، وأنّ على كلّ فنّان أن يصقل عمله، بعيدًا عن التشبّث باسم ناجي العلي. أنا أرفض فكرة استخدام حنظلة في أعمال الفنّانين شخصيّة كاريكاتيريّة، لا أستخدمها إلّا في رثاء ناجي، أو للحديث عن الكاريكاتير الفلسطينيّ، أمّا أن تكون شخصيّةً متحرّكة في أعمالي، وتطرح مواقف، وتعبّر عن اللحظة؛ فهذا ليس من حقّي، ومن السطحيّ أن نتشبّث بإرثه. كثيرون ممّن يدّعون أنّهم يسيرون على درب ناجي العلي، ويطربهم القول إنّهم خلفاء له، تلوّثهم الحزبيّة، وتلوّث أعمالهم ومسيرتهم مواقفهم المطبّلة للمسؤولين والوزراء، يريدون أن يتقمّصوا صورة ناجي البطل، ويتناسوا ناجي الفنّان والإنسان. وتعقيبًا على قولك "محاولات للنجاة من سيطرة إرثه"، فنعم، أنا أسعى إلى أن أكون راضيًا عن منتجي الفنّيّ، وعن موقفي السياسيّ والاجتماعيّ، إذا ما تحدّثنا عن المحتوى، ولا أخفيك أنّي أحاول وبشدّة، ألّا أُسأل عن ناجي العلي ومدى تأثّري به. هو خلق مدرسته وفنّه ومواقفه، وينبغي أن أعمل بدوري بعيدًا عن أسطورته، الّتي أحبّها فلسطينيًّا وشخصًا، يمتهن الكاريكاتير عملًا، ويحاول به فنًّا.

 

كتاب "أبيض وأسود" لمحمّد سباعنة، الصادر بالإنجليزيّة

 

فُسْحَة: بعد نشر كتابك "فلسطين بالأبيض والأسود"، وإطلاقه في الولايات المتّحدة وبعض الدول الأوروبّيّة؛ كيف تنظر إلى تلقّيه عند الناس من جهة، والإعلام من جهة أخرى؟ وأنت، أيّ رسالة تحديدًا شعرت بأنّك نجحت في إيصالها؟

محمّد: ربّما من الصعب نقل رسائل الناس وردود أفعالهم على الأعمال، "ما حد بيحكي عن زيتو عكر"، لكن ما وصلني من مقالات وقراءات في كتابي كان جيّدًا جدًّا. أهمّ رسّامي كاريكاتير كتبوا عن كتابي، منهم رسّامو صحائف "الإيكونومست" و"البوليتيكو" و"الجارديان"، والفنّان المعروف جوساكو، هذه شهادات تهمّني بصفتي فنّانًا، وقد دُعيت من قِبَل أهمّ الجامعات في الولايات المتّحدة؛ للحديث عن تجربتي في هذا الكتاب، وفي بعض الأحيان كان الاهتمام فنّيًّا، وفي أخرى سياسيًّا، وفرحت بأنّه يدرَّس في جامعات أمريكيّة. شارك الكتاب في "مهرجان إدنبرا"، وهو في صدد ترجمته إلى اللغة الكتلانيّة، بصدقٍ لا يمكنني تقييم هذه التجربة، أختصر القول بأنّي بدأت فعليًّا العمل على مشروع جديد، بعيدًا عن الاستثمار بنتائج هذا الكتاب ونجاحاته، إن كان قد نجح. 

فُسْحَة: على سيرة غير الفلسطينيّين، هل تشعر بأنّ مَنْ لا يتابع ويتعمّق في القضيّة الفلسطينيّة عن قرب، قد يستعصي عليه فهم بعض رسوماتك، الّتي تعتمد على الإيحاء والمناورة؟ وكيف تتعامل مع هذا الموضوع؟

محمّد: أنا لا أؤمن برسالة الفنّان ذات الإجابات المباشرة، إنّ مجرّد خلق التساؤلات والرغبة في الفهم هو الأهمّ. لقد حضر المحاضرات الّتي أقمتُها، العديد من الأشخاص غير الفلسطينيّين، وغير المطّلعين على القضيّة الفلسطينيّة، الّذين أبدوا اهتمامًا بالفنّ المطروح وبالتجربة. أعتقد أنّ ما تقدّمه وتفجّره هذه اللوحات من تساؤلات، كفيل باستفزاز الرغبة في البحث لدى المتلقّي، وهذا ما أطمح إليه. أعتقد أنّ مادّة الكتاب تفجّر كذلك مشاعر الحزن، ولا سيّما في مشاهد دراميّة قد تثير في الجمهور البحث عن المعرفة. أؤمن بأنّ علينا أن نحمل هذه الجغرافيا وتفاصيل قضيّتنا، بما ننتجه من معرفة وفنّ لا العكس. نحن لا نشحذ الاحترام من هذا الجمهور، بل ننتزعه برسالة وبلغة بصريّة، آمل أن تكون ناجحة، تتضمّن هذه الدعوة الجامحة إلى المعرفة. 

 

فُسْحَة: مَنْ يتابعك منذ بداياتك، يلحظ تطويرك للرسومات من جانب تقنيّ، كالاشتغال الدقيق على التفاصيل، وآخر تخيّليّ يظهر في الأجسام والتمثيلات "السرياليّة"، الّتي يُعرف من خلالها فنّ الكاريكاتير بعامّة، لكن نلحظ أنّها مشغولة لديك بشكل خاصّ. حدّثنا عن هذا التطوير.

محمّد: أعتقد أنّ لتجربتي في الكاريكاتير منعطفين مهمّين؛ الأوّل عام 2008 والثاني عام 2014، في الأوّل، وبعد معرضي الّذي نُقل من رام الله إلى فتّوش في حيفا، ومنه إلى عمّان، تعرّفت على صديقي أمجد رسمي، الّذي ألحّ عليّ بأن أبدأ باستخدام الحاسوب والرسم الرقميّ، وكان عرّفني الأجهزة والبرامج الّتي يمكن استخدامها، وكيف ينجز أعماله بدوره.

أمّا المنعطف الثاني، فكان حين شاركت في مهرجان في مدينة كونت الفرنسيّة، والتقيت بفنّانين مهمّين، فوجئت بأنّهم ما زالوا يستخدمون الطرق التقليديّة لإنجاز الكاريكاتير، كان الأهمّ لديهم الاهتمام بالقيمة الفنّيّة في الكاريكاتير، وأحيانًا على حساب الفكرة. مررت بنقاشات طويلة مع أصدقاء عن أهمّيّة الاعتناء بالجانب الفنّيّ في الكاريكاتير.

 

 

ثمّة مَنْ انتقدني بشدّة، لكنّي اتّخذت قرارًا بضرورة تقييم تجربتي السابقة، مررت آنذاك بأزمات عدّة نتيجة عملي رسّام كاريكاتير، كان آخرها اعتقالي من قِبَل الجيش الإسرائيليّ، بعد ذلك أقنعت نفسي بأنّ جلّ ما قدّمته كان ساذجًا، وأنّ عليّ أن أبدأ من نقطة الصفر. بدأت البحث الفعليّ عمّا أريده، عن الشيء الجديد. بعد تجارب عديدة خرجت بهذا الشكل الجديد من الكاريكاتير، الّذي وصفه جوساكو بأنّه "تجربة جديدة أنتجت فنًّا بين الكاريكاتير واللوحة التشكيليّة". 

 

فُسْحَة: ربّما نستطيع القول إنّ مسألة الأسرى تشغل جزءًا كبيرًا من موضوعات رسوماتك. حدّثنا أكثر عن الدوافع، وعن تجربتك الشخصيّة في الأسر. هل رسمت هناك؟

محمّد: الأسير هو مَنْ يقدّم كلّ يوم قطعة من جسده قربانًا لنا، الأسير مَنْ ينزف في ظلّ بارد كي يسقي ريحاننا، كيف لا يكون بوصلتنا جميعًا؟ لي أخ قضى سنوات طويلة داخل الأسر في فترات متقطّعة، في كلّ مرّة كان يُعتقل فيها، كان يحفر جرحًا في ملامحنا، يُسقط حجرًا من منزلنا؛ فكانت قضيّة الأسرى قضيّة شخصيّة بالنسبة إليّ، لكن عندما انتقلت إلى داخل اللوحة الّتي رسمتها للسجن، وأصبحت جزءًا من لوحتي؛ شعرت بأنّ كلّ ما قدّمته عن الأسرى كان سخيفًا. القيد الّذي رسمته لم أشعر ببرودته حين رسمته، الزنزانة الّتي بنيتها في أوراقي كانت أقلّ عتمة.

 

 

نعم، رسمت داخل السجن، هناك لم يكن الرسم أداة للمقاومة، بل للبقاء وللصمود، أداة تُشعرني بأنّي ما زلت حرًّا. أمضيت أيّامًا داخل الزنازين الباردة، في عتمتها ما كاد يُسْقِطُني فريسة للخوف من الغد، فريسة لليأس الّذي أرادوا – ويريدون - أن يكبّلوا الأسرى به؛ فاتّخذت قرارًا بأنّي هنا لست أسيرًا؛ بل جئت لأخوض تجربة رسّام كاريكاتير، أو صحافيّ سيعمل على نقل معاناة الأسرى إلى العالم.

قرّرت أن أُقيم معرضًا عن الأسرى، ينقل هذه الصورة من السجن. في الزنازين لم أملك -  مثل بقيّة الأسرى - إلّا فرشاة أسنان مكسورة وكأسًا بلاستيكيّة للماء. بدأت أفكّر في هزيمة الوقت؛ من خلال التخطيط لمعرضي عن الأسرى، شرعت برسم لوحاتي في مخيّلتي، وأحيانًا كنت أرسمها في الهواء. سرقت في إحدى جلسات التحقيق ورقة وقلمًا، وبدأت بكتابة أفكار الكاريكاتيرات الّتي سأرسمها، وحين نُقلت إلى السجن بدأت فعليًّا برسم هذه اللوحات، ثمّ هرّبتها مع بعض الزملاء الأسرى إلى الخارج. أقمت معرضي الّذي خطّطت له، وأعطيته عنوان "زنزانة 28"، وهو رقم الزنزانة الّتي قرّرت فيها أن أُقيم هذا المعرض. أستذكر أصدقائي في سجن النقب، عندما كانوا يرونني أرسم يُمازحونني: "يا رجل، قوم انسجن معنا شويّ"؛ في إشارة إلى قضاء كامل وقتي في الرسم.

 

فُسْحَة: من المعروف أنّ عمل رسّامي الكاريكاتير، يرتبط مباشرة بالأحداث والأخبار الجارية؛ هل تجد نفسك دائمًا على تجهُّز واستعداد؟ أتجد في ذلك متعة أم واجبًا؟

محمّد: "بدّك الصراحة؟ لأ"، ليس التجهُّز للرسم شيئًا موجودًا على الدوام. أنا أعمل في "الجامعة العربيّة الأمريكيّة"، وفي الكثير من الأحيان لا أجد وقتًا للرسم، بين الكاريكاتير اليوميّ والمشاريع الفنّيّة الكثيرة، الّتي أعمل عليها وأفكّر فيها، الرسم عندي متعة، لكن مع الأحداث المتلاحقة، وضيق الوقت، وإجبار نفسي على التفكير، والعمل رسّام كاريكاتير؛ يصبّ في فكرة الواجب والالتزام من طرفي، بصفتي رسّام كاريكاتير.

 

من سلسلة رسومات "أبو فايك"، الشخصّة الّتي ابتكرها سباعنة

 

فُسْحَة: من أين وُلد "أبو فايك"، الشخصيّة الفلسطينيّة "المعتّرة" في رسوماتك؟ وأين هو الآن؟

محمّد: هو جدّي الّذي كان يمثّل إليّ فلسطين، حين كنت أجيء إلى فلسطين زائرًا في الثمانينات. جدّي بالزيّ الفلسطينيّ؛ القمباز والحطّة، يفترش الأرض وأمامه كانون، رسمته سنوات عدّة ولكنّي قتلته. كان أبو فايك يتحدّث عن هموم الفلسطينيّ اليوميّة؛ عن الغلاء والفساد ومظاهر الدولة الكاذبة. وحتّى لا أكون أداة لتسويق هذه الدولة بمؤسّساتها ووزاراتها وسيادتها المنقوصة قتلته؛ قتلته لأنّه تحدّث مع الفلسطينيّ بصفته مواطنًا في دولة ليست موجودة، قتلته لأنّه عاجز عن إيصال المعاناة الفلسطينيّة إلى العالم بلغة عربيّة، قتلته حتّى لا يكون تكرارًا لتجارب غيري من الفنّانين؛ ولأنّ اللغة البصريّة كانت أكثر أهمّيّة. يظهر أحيانًا حتّى يحارب محاولات سحق الفلسطينيّ داخليًّا، لكنّه ليس رئيسيًّا في عمل محمّد سباعنة.

 

فُسْحَة: في أيّ اتّجاهات تحبّ، أو تطمح إلى أن يمشي فنّك، باتّجاه مجرّد الاحتجاج والتعبير؟ التأثير؟ التغيير؟ وكيف؟

محمّد: فنّيًّا، ما زلت أبحث وأجرّب في كلّ صوب، أحاول جاهدًا أن أثبت أنّ الكاريكاتير الفلسطينيّ نجح بلغته الفنّيّة، الّتي تُحترم وسط التجارب العالميّة، بعيدًا عن محتواها السياسيّ. أحاول تطوير ما بدأته بخلق هذا الاشتباك، بين الكاريكاتير واللوحة التشكيليّة، أمّا من حيث المحتوى، فأذكر سؤالًا وجّهه إليّ صحافيّ أمريكيّ: "إسرائيل تتّهمك بالتحريض؛ ما ردّك؟"، أجبت: "هذه ليست تهمة، هذه وظيفة، وظيفة المثقّف بعامّة أن يحرّض على الاحتلال والفساد والديكتاتوريّة".

 

حينيفير مارلو تحاور سباعنة حول ورشات العمل الّتي يقدمها في فلسطين | JustWorldEd

 

أحاول جاهدًا ألّا أكون تابعًا لقبيلة أو قطيع، ألّا أصطفّ خلف إمام وأردّد "آمين"، أحاول أن أكون أنا، أن أرسم بغضبي وتلعثمي وخوفي وجبني، ألّا أرسل أحدًا إلى حتفه، من أجل أن يكون بطلًا في كاريكاتيري، ألّا يكون عملي مجرّد ردّ فعل أو إعلان، ألّا يُفرش بساطًا أحمر لجلالته أو سعادته أو دولته، أن يكون عملًا أعمى؛ يعبر حقل الألغام معتقدًا أنّه حديقة زهور، وأن يكون مرضًا مزمنًا، أن يُقرأ أحيانًا كقراءة الفنجان أو الكفّ، وأحيانًا يكون واضحًا كالشمس، أن يجلس في مقهًى شعبيّ ويسافر إلى متحف عالميّ، لا أريد له هويّة؛ أريد أن أُفقده القدرة على نطق الحروف، وفي الوقت ذاته أن يجيد كلّ اللغات، أريده أن يستمتع بعرض باليه، ويمضي وقته الطويل في جمع الأغاني الشعبيّة، أريد كاريكاتير ملثّمًا بالكوفيّة، ولا يجيد وضع ربطة العنق؛ وما زلت أبحث عن كلّ هذا.

 

فُسْحَة: ما منابرك الرئيسيّة؟ هل حلّت وسائل التواصل الاجتماعيّ محلّ الصحف؛ المنبرِ الكلاسيكيّ للكاريكاتير؟ وهل تتمنّى لو توفّرت وسائل أخرى؟ ما هي؟

محمّد: أنا أعمل في كلّ المنابر، أرى أنّ كلّ أداة، يمكنها أن توصل عملي إلى الناس، يجب استخدامها، سواء عبر الأدوات التقليديّة، أو مواقع التواصل الاجتماعيّ، أو الكتب، أو المعارض، لست أرفض أيّ أداة.

 

 

أسماء عزايزة

 

شاعرة وصحافيّة. حاصلة على البكالوريوس في الصحافة والأدب الإنجليزيّ من جامعة حيفا. لها مجموعتان شعريّتان، "ليوا" (2010)، الحاصلة على جائزة الكاتب الشابّ - حقل الشعر، من مؤسّسة عبد المحسن القطّان، و"كما ولدتني اللدّيّة" (2015). تشارك في أنطولوجيّات ومهرجانات شعريّة في العالم. تُرجمت قصائدها إلى لغات عدّة، مثل الإنجليزيّة والألمانيّة والفارسيّة. عملت لسنوات في الصحافة المكتوبة وفي التلفزة. تدير حاليًّا "فناء الشعر"، وهي مبادرة مستقلّة أسّستها عام 2017. كما تعمل كاتبة مقالات ومديرة فنّيّة لمتجر فتّوش للكتب والفنون، وبار وجاليري فتّوش.