"المَرْفَق": معرض كأنّه حارة

إحدى حجر معرض "المَرْفَق"

 

على عكس المعارض ذات الجدران البيضاء الصامتة، خلق معرض "المَرْفَق" حياة داخل الحياة، في مساحة منفصلة عن الواقع الخارجيّ، صنعت واقعها الشخصيّ داخل مكان ساكن؛ ليطرح تساؤلات حول الفنّ، وتأثّره بشغف الفنّان ببيئته وتفاعله معها، ثمّ تمثيله بلوحة أو عمل فنّيّ، يشاهده الجمهور وهو في طور العمل والنموّ، لا جاهزًا متكاملًا كالمعارض التقليديّة.

 

حارة من "مَشاتيح"

زارت فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة معرض "المَرْفَق"، في مركز القطّان الثقافيّ، في مدينة الطيرة - رام الله، وشاهدت الأعمال والمساحات الّتي تجانب بعضها بعضًا، مستقلّة ومترابطة في آن معًا، تشبه الحارة في تركيبها؛ فبعد أن تدخل الباب الأبيض الكبير، ينتابك الهدوء، إضاءة متوسّطة، أصوات العصافير، رسومات أشجار على الحيطان، عليها عرض ضوئيّ لأشجار حقيقيّة تتحرّك، والكثير من الغرف المتلاصقة المبنيّة من ألواح خشبيّة (المعروفة بِالمَشاتيح تأثّرًا من العبريّة)، تكاد ترى ما في داخلها، لكنّك لا تراها بوضوح. عليك التجوّل في الحارة المصنوعة داخل مساحة المعرض، لتعرف ما في داخلها.

 

يزيد عناني ومجاهد خلّاف

 

كلّ غرفة هي أستوديو منفرد، وتتوسّط الأستوديوهات مساحة مشتركة هي جزء من المعرض، فيها مطبخ، ومساحة للطعام، ومساحة للجلوس والراحة؛ للتفاعل بين الفنّانين والجمهور، ولتفاعل الفنّانين مع بعضهم بعضًا. داخل الأستوديوهات تجد بيئات متعدّدة خلقها الفنّانون بأنفسهم، في محاكاة للبيئة الّتي يريدون أن يكونوا فيها.

 

منحوتة مجتمعيّة

يقول يزيد عناني، القيّم على معرض "المَرْفَق"، لفُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة، "إنّ هذا المعرض منحوتة مجتمعيّة متكاملة؛ فإن لم ير أحد الشجر، فسيذكّره المكان بالحوائط البيضاء الفارغة الخاصّة بمساحات المعارض، هذا ما لا نريده. التساؤل الّذي تطرحه هذه المنحوتة المجتمعيّة هو: هل نحن جزء من هذا الأداء؟ ما الحقيقيّ في هذا المعرض؟ هل الأستوديو عمل فنّيّ؟ هل المعرض – ككلّ - عمل فنّيّ؟ أم مجموعة من الأداءات الّتي تجتمع في أداء واحد كبير؟".

يتابع عناني: "لو تعاملنا مع المعرض على أنّه عمل فنّيّ كبير، في داخله أعمال فنّيّة أصغر، وفي داخلها مؤدّون يقومون بأداءات مختلفة، لأصبح كلّ ما هو داخل المعرض جزءًا من العمل الفنّيّ الكبير، الّذي تكوّن وتشكّل داخل المساحة الّتي أصبحت بمنزلة منحوتة مجتمعيّة مصغّرة. معرض ’المرفق‘ مساحة مسالمة جدًّا، كان تحدّيها الأكبر استخدام الموادّ، أي الألواح الخشبيّة، وكيفيّة توظيفها في خلق المساحات الخاصّة. لو كانت هذه مساحات صمّاء بيضاء، ما بدت عليها هُويّة الأستوديوهات، وستشكّل قَطْعًا تامًّا بينها والجمهور، وبين بعضها بعضًا أيضًا؛ وهذا يحوّلها إلى غرف مقتطعة، بينما شكلها المفتوح بهذا الشكل يحوّلها إلى موائل للفنّانين، أكثر منها إلى أيّ شيء آخر".

 

 

عن التحضيرات للمعرض، أوضح عناني أنّه كان ثمّة دعوة مفتوحة للفنّانين، وأنّه تمّ قبول جميع مَنْ تقدّم، ثمّ بدأت عمليّة الإنتاج والتصميم. ويضيف: "فكّرنا معًا بتصميم الأستوديوهات. لدينا سبعة عشر فنّانًا، حسبنا المساحة اللازمة لهم، ثمّ ديناميّة الحركة، كي تكون سائلة وسهلة، ولتكون أيضًا نوعًا من الحارة والجيرة، فتربط الفنّانين ببعض؛ وهكذا أصبح المعرض كأنّه مساحة داخل العالم، أو خارجه، لا نعلم فعليًّا".

 

كي يعيش الجمهور مع الفنّان

أمّا مجاهد خلّاف من "مؤسّسة عبد المحسن القطّان"، فقال لفُسْحَة: "فكرة المعرض أن يعيش الفنّانون مع بعضهم بعضًا؛ وليشاهد الجمهور عمليّة إنتاج العمل الفنّيّ، ويتفاعلوا معه، ويروا الأسباب وراء العمل والمنطق من خلفه".

ويضيف: "هي أيضًا فرصة للجمهور؛ ليعيش مع الفنّان ويفهم كيف يعمل، أمّا للفنّانين فهي مسألة تغذية راجعة ووحي؛ لأنّ التفاعل مع الناس والزوّار وتعدّد الوجوه، يفتح آفاقًا متعدّدة أمام الفنّانين، فمن واجبنا أن نصنع وعي الفنّ لدى الناس، أن يعي الجمهور الحالة الفنّيّة من بداية تشكيلها إلى نهايتها، وهذا فنّ".

 

"عالم ليس لنا"... كوميكس

وقفت فُسْحَة ثقافيّة فلسطينيّة على أعمال ثلاثة من الفنّانين المشاركين في معرض "المَرْفَق"؛ أوّلهم الفنّانة حنين نزّال، وهي مهندسة معماريّة تعمل الآن على تغيير مسارها المهنيّ نحو الفنّ التشكيليّ والإبداع، وقد قالت لفُسْحَة: "أعمل على تحويل قصّة من مجموعة ’عالم ليس لنا‘ لغسّان كنفاني، بعنوان ’مسخ العالم‘، إلى كوميكس".

 

 

وتضيف حنين: "الصور المعلّقة على جدار الأستوديو مرجعيّات لتصميم الشخصيّة، حاولت جمع هذه الصور بصفتها تصوّرات بصريّة لصياغة شكل الشخصيّة الرئيسيّة. الفكرة الأساسيّة منه تحويل القصّة إلى كوميكس؛ من خلال الرسم الرقميّ. أحبّ أن أعمل على المجموعة كاملة، لكنّني شعرت بأنّ هذه القصّة أسهل للبداية فيها لعمل الكوميكس؛ لأنّ فيها ما يكفي من الحوار لصناعة كوميكس بطريقة أسهل، وآمل أن تكون البداية لعمل المجموعة كلّها".

 

الحلّاج في المخيّم

أمّا الفنّان علاء البابا، فهو يعمل على إعادة تحريك الشخصيّات، الّتي رسمها الفنّان التشكيليّ الراحل مصطفى الحلّاج؛ فانتقى بعضًا منها ليحرّكها في فضاءات المخيّم، صانعًا منها شخوصًا تحيا في لوحاته، وتمارس الحياة بشكلها الطبيعيّ، بقدر ما تتيحه الحياة في المخيّم. الجانب الشخصيّ في عمل علاء البابا أنّه اختار مخيّم الأمعري، في مدينة رام الله، حيث وُلد وتربّى وعاش، ليكون فضاءً لإعادة بثّ الحياة في شخصيّات الحلّاج.

من وجهة نظر علاء البابا، تكمن أهمّيّة العمل في إعطاء مصطفى الحلّاج حقّه، في العرفان والتقدير بشكل فنّيّ؛ إذ توفّي وهو يحاول إنقاذ أعماله الفنّيّة من حريق في مرسمه عام 2002، ثمّ قُصف المكان الّذي يحتوي لوحاته، في بيروت عام 1982؛ ففُقد معظمها، ولم يتبقّ من إرثه الفنّيّ إلّا القليل.

 

الحدود السياسيّة

يعمل الفنّان عصمت زيد ضمن موضوعة الحدود السياسيّة، وأثرها في العلاقات الاجتماعيّة بين الشعوب المختلفة، وداخل الشعب نفسه. ثمّة ثلاثة أعمال يقدّمها عصمت في هذا المعرض، أحدها طيف ألوان متجانس ومنسجم، ضمن فكرة هيكليّة الأرض وطوبوغرافيّتها، والثاني لوحة ملوّنة مركّبة من أشكال سداسيّة متلاصقة، تتدرّج بألوان الطيف السبعة وانسجامها واندماجها، والثالث عمل تفاعليّ مع الجمهور، يتكوّن من فسيفساء مكوّنة من الأشكال السداسيّة ذاتها، لكنّ الجمهور يلوّن هذه الأشكال، ويختار موقعها في اللوحة.

 

 

كيف يرى الفنّان محيطه المخلوق المحاكى؟ وكيف يرى الجمهور هذا العمل من الخارج والداخل؟ هذه هي مقولة المعرض؛ فقد كسر معرض "المَرْفَق" حاجز تقاليد المعرض، وأصبح كلّ شيء جزءًا من المعرض، من "البيتزا" إلى الصحافيّ الّذي جاء ليغطّي، كأنّها دورة من الزمن تستمرّ وتخرج بنتائج، لا أحد يعرف كيف ستنتهي.

 

 

نداء عوينة

 

 

بدأت العمل الصحافيّ وكتابة المحتوى والتحرير عام 2008، نشرت العديد من المقالات في الصحف والمواقع العربيّة والفلسطينيّة. حاصلة على البكالوريوس في اللغتين الفرنسيّة والإنجليزيّة، والدبلوم العالي في الإعلام، ودرجة الماجستير في دراسات التواصل الدوليّ، والدكتوراه في نقد الأدب العربيّ المعاصر.