"دار الكلمة"... وجه لنهضة فنّيّة ممكنة في فلسطين

أحد مرافق "كلّيّة دار الكلمة الجامعيّة للفنون والثقافة"

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

في "كان"

سار وسام الجعفري على السجّادة الحمراء لـ "مهرجان كان السينمائيّ 72"، يحمل صورة بطل فيلمه الّذي فاز بالمرتبة الثالثة لفئة الأفلام القصيرة، محمّد خمور الطالب في كلّيّة الهندسة، الّذي كان أسيرًا لدى الاحتلال الإسرائيليّ. فيلم "أمبيانس" الّذي أنتجه وسام ليتخرّج صانع أفلام في " كلّيّة دار الكلمة الجامعيّة للفنون والثقافة"، في مدينة بيت لحم جنوب الضفّة الغربيّة، بدرجة البكالوريوس، هو الرابع الّذي ينجزه خلال دراسته الجامعيّة الّتي انتهت صيف عام 2018.

في الفيلم القصير الّذي يبلغ طوله 15 دقيقة، يحاول الشابّان اللذان يسكنان مخيّمًا للاجئين إنتاج قطعة موسيقيّة، وفي كلّ مرّة يبدآن التسجيل تُفشلهما أصوات الضجيج في المخيّم المتلاصق المباني والضيّق الشوارع؛ لكنّهما استطاعا في النهاية تحويل الإزعاج والضجيج اللذين سجّلاه إلى قطعة موسيقيّة، ليشارك الفيلم الّذي كان ممثّلوه من المخيّم في غير مهرجان فلسطينيّ ودوليّ وعالميّ، أبرزها "مهرجان كان" الّذي أهدى وسام فوزه به إلى بطله الأسير خمور.

 

وسام الجعفري

 

وسام وزميله في الكلّيّة صلاح أبو نعمة، الّذي أنتج هو الآخر فيلم "منطقة ج"، يتشاركان وطاقمًا من طلبة ومعلّمين ومختصّين، يتبادلون المعارف المختلفة، للخروج بما يُسجَّل على المستوى الفلسطينيّ والعربيّ والدوليّ.

التقت فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة وسام الجعفري في مبنى "كلّيّة دار الكلمة الجامعيّة للفنون والثقافة"، وهو يشعر بالفرحة الكبيرة لإنجازه، الّذي قدّمه نِتاجَ عمل طاقم كبير، ومعدّات قدّمتها الكلّيّة، ما ساعده على إنجاز فيلم بمستوًى عالميّ.

يقول وسام إنّه لم يُتعامَل معه طالبًا يُلقَّن، بل كان الجميع شركاء في كلّ شيء، طلبةً وأساتذة وعاملين وخبراء معدّات؛ الجميع واكبوا كلّ المراحل في العمل، والجميع كان مستعدًّا لبذل الوقت والجهد الكبيرين وصولًا إلى الهدف المرجو.

 

نحو سوق العمل

يبدو أنّ ما يشعر به وسام اليوم، هو ما أراده مؤسّسو الكلّيّة لتكون صرحًا غير عاديّ في ما يقدَّم للطلبة الفلسطينيّين؛ فعندما أُسّست قبل 25 عامًا، كان ثَمّ 47 جامعة وكلّيّة في فلسطين، لم يكن أيٌّ منها متخصّصًا في الفنّ والثقافة تعليمًا جامعيًّا. رأى مؤسّسو الكلّيّة في حينه أنّ الفنون والثقافة في نظرة المجتمع، تُعتبران شيئًا ثانويًّا لا أساسيًّا، رغم أنّهما ترتبطان ارتباطًا وثيقًا بالهويّة والتراث، وتُعتبران وسيلتين مهمّتين لتوصيل الصوت والصورة الفلسطينيّين بطرق أكثر إبداعيّة. كما أنّ لدى أهالي دارسي الفنون عمومًا معتقدات بأنّ هذا الحقل لن يكون مصدر رزق لأبنائهم، وأنّ الفنون أمور ثانويّة، وهو ما كان يشكّل تحدّيًا كبيرًا أيضًا.

بينما تُظهر آخر الاستطلاعات أنّ قرابة 45% من الخرّيجين الفلسطينيّين عاطلون عن العمل، فإنّ "دار الكلمة" تُحصي اليوم 78% من خرّيجيها عاملين في الحقول المختلفة، بعد 13 عامًا من حصولها على الترخيص الرسميّ

اجتمعت هذه الأفكار وغيرها، لتدفع نحو تكوين بداية متواضعة في "دار الندوة الدوليّة"، بإعطاء دورات وتمكين النساء والشباب، ومع مرور الوقت لاحظ القائمون عليها الحاجة إلى التعليم العالي، للحصول على شهادات تربط المساقات بسوق العمل.

وفي ما يتعلّق بسوق العمل، فإنّه بينما تُظهر آخر الاستطلاعات أنّ قرابة 45% من الخرّيجين الفلسطينيّين عاطلون عن العمل، فإنّ "دار الكلمة" تُحصي اليوم 78% من خرّيجيها عاملين في الحقول المختلفة، بعد 13 عامًا من حصولها على الترخيص الرسميّ، وقد قدّمت لسوق العمل الفلسطينيّ مجموعة من الكوادر الفلسطينيّة في مجالات مختلفة.

 

تخصّصات

تقدّم الكلّيّة في مبانيها الخمسة اليوم، 17 تخصّصًا في الحقول الفنّيّة المختلفة، بين شهادة الدبلوم والبكالوريوس، وأبرزها "الإخراج الفيلميّ"، و"الفنون المعاصرة" الّتي يدخل فيها "الرسم الفنّيّ التركيبيّ"، و"الفلسفة"، و"فنّ الأداء الموسيقيّ"، و"الدراما والمسرح"، و"التصميم الداخليّ"، و"التصميم الجرافيكيّ"، و"السياحة الثقافيّة"، وغيرها.

أمّا في مجال الدبلوم، فتُخرِّج الكلّيّة "فنّ الصياغة للذهب والفضّة"، و"فنون الطبخ والطهي"، و"الخزف والزجاج"، و"الفيلم الوثائقيّ"، و"التربية الفنّيّة"، إضافة إلى "الدليل السياحيّ".

وحول تخصّص الدليل السياحيّ، يُذكر أنّه قبل عقدين، كان ثمّة أربعة آلاف دليل سياحيّ إسرائيليّ، مقابل 60 دليلًا سياحيًّا فلسطينيًّا فقط، معظمهم كبار في السنّ ومُرخَّص لهم في زمن الحكم الأردنيّ للضفّة الغربيّة، واليوم ثمّة 400 دليل سياحيّ فلسطينيّ

وحول تخصّص الدليل السياحيّ، يُذكر أنّه قبل عقدين، كان ثمّة أربعة آلاف دليل سياحيّ إسرائيليّ، مقابل 60 دليلًا سياحيًّا فلسطينيًّا فقط، معظمهم كبار في السنّ ومُرخَّص لهم في زمن الحكم الأردنيّ للضفّة الغربيّة، واليوم ثمّة 400 دليل سياحيّ فلسطينيّ، معظمهم من خرّيجي "دار الكلمة".

 

من فلسطين إلى العالم

يرى القسّ الدكتور متري الراهب، رئيس "دار الكلمة الجامعيّة للفنون والثقافة"، أنّ طلبة الكلّيّة مبدعون في مختلف التخصّصات؛ فاستطاعوا الإنتاج والإبداع، وفتح المشاغل الصغيرة، والعمل في المطاعم، والتصاميم والنقش، والفوز بالجوائز العالميّة؛ وهو ما يعني أنّ الاختيار كان صحيحًا.

يقول الراهب لفُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة إنّ الكلّيّة أدّت دورًا دفع نحو منح قيمة أكبر للفنون الفلسطينيّة؛ فإحدى اللوحات الفلسطينيّة بيعت بمبلغ فاق 260 ألف دولار أمريكيّ، بعد أن كان أكبر ثمن للوحة فلسطينيّة ثلاثة آلاف دولار. ويعزو الراهب ذلك إلى أنّ نظرة المجتمع الدوليّ إلى الإنتاج الفلسطينيّ اختلفت، وأنّ قيمة ما يقدّمه الفلسطينيّ اختلفت عمّا قبل، وأصبح إدراك السوق العالميّة للفلسطينيّ مختلفًا عمّا كان عليه قبل عقود.

وقد أحصى القسّ الراهب أربعة معارض لصور من فلسطين، جابت أكثر من 25 مدينة أمريكيّة، تبتعد عن الأساليب التقليديّة في تناول القضيّة الفلسطينيّة، الّتي يبدو فيها الفلسطينيّ ضحيّة غير فاعلة.

ديميتري الراهب

يرى الراهب أنّ الكلّيّة أسهمت في جمع فريق مؤهَّل من عشرات المتخصّصين في الفنون المختلفة، يحملون الشهادات العلميّة العالية، لتقديم طلبة جدد للسوق، استطاعوا أيضًا وضع بيت لحم على خريطة الثقافة العالميّة، إضافة إلى جلب الفلسطينيّين من الجيلين الثالث والثاني المهجَّرين، وربطهم بوطنهم الأمّ. ويوضح أنّ الكلّيّة وقّعت أكثر من 20 اتّفاقيّة مع جامعات ومؤسّسات ثقافيّة دوليّة، فضلًا عن اتّفاقيّات التبادل الثقافيّ طوال العام؛ فالطلّاب الدوليّون يأتون إلى بيت لحم، والفلسطينيّون يقصدون الجامعات الدوليّة، كما نظّمت الكلّيّة أكثر من 17 مؤتمرًا منذ تأسيسها، كان آخرها في بيت لحم، وهذه المؤتمرات تنتج عنها أوراق بحثيّة تُقدَّم على شكل كتب في مجالات مختلفة، يستطيع أيّ شخص في العالم شراءها، بعد توفيرها على المنصّات العالميّة لبيع الكتب وبأسعار منافسة؛ وهو ما يجعل الكتاب الفلسطينيّ متوفّرًا عالميًّا.

ويؤكّد الراهب أنّ كلّ ما راكمته الكلّيّة من أدوات ومعارف وخبرات سيكون مسخّرًا لتكون "بيت لحم 2020 عاصمة للثقافة العربيّة" لها لمستها الخاصّة والمختلفة.

 

الفنّ للجميع

ترى الكلّيّة أنّ الفنون يجب أن تؤثّر في الشارع بطريقة ما؛ فهي وُجدت لخدمة البلد، وهي ليست فقط للأغنياء، بل لكلّ الناس بفئاتهم المختلفة، للاستمتاع به والاستفادة منه، وهذه مسؤوليّة اجتماعيّة ترى أنّها تقع على عاتقها؛ لذلك تسعى إلى تخريج طلبة يملكون المعرفة والخبرة للعمل في قطاعات مختلفة، ويخدمون مجتمعهم ووطنهم.

هل جهود "دار الكلمة" وحدها تكفي للتعامل التحدّيات الّتي يواجهها هذا الحقل والاستجابة لمتطلّباته؟ وما الّذي يمكن لمجتمعنا، أفرادًا ومؤسّسات، تقديمه لها ولغيرها من جهات تُعنى بالفنون والثقافة، نحو تحقيق واقع فنّيّ وثقافيّ فلسطينيّ قويّ ومتعدّد ومنتج؟

هذه الرؤية تطبّقها الجامعة عبر زمالات وشراكات ومشاريع مع مؤسّسات وجهات فلسطينيّة عديدة، رسميّة وأهليّة، وكذلك تنظيمها لمشاريع فنّيّة في الحيّز العامّ، ومن الأمثلة على ذلك، استضافتها لفنّان مكسيكيّ، يزور فلسطين للمرّة الأولى، لنقل تجربته في الرسم على الجدران إلى فلسطين، محاكيًا الجدار بين الولايات المتّحدة والمكسيك. ابتكر الفنّان طريقة رسم تُحاكي التطريز الفلسطينيّ، وزيّن برسوماته أبوابًا ومحالّ تجاريّة خاصّة وقديمة، جامعًا بين الجمال والبعد التراثيّ والتاريخيّ.

أمام هذه الرؤية والأدوار المتعدّدة الّتي تضطلع بها "دار الكلمة" في حقل الفنون والثقافة في فلسطين، وعلى مدار أكثر من عقدين، وقد كان التقرير أعلاه محاولةً للإضاءة على بعض جوانبها؛ يمكن القول إنّ للكلّيّة مساهمة جدّيّة في تطوير وتعزيز هذا الحقل، نحو تحقيق نهضة فنّيّة فلسطينيّة بدأنا نرى ثمارها من خلال إنجازات ملموسة. لكن، هل جهود "دار الكلمة" وحدها تكفي للتعامل التحدّيات الّتي يواجهها هذا الحقل والاستجابة لمتطلّباته؟ وما الّذي يمكن لمجتمعنا، أفرادًا ومؤسّسات، تقديمه لها ولغيرها من جهات تُعنى بالفنون والثقافة، نحو تحقيق واقع فنّيّ وثقافيّ فلسطينيّ قويّ ومتعدّد ومنتج؟

 

 

فادي العصا

 

 

صحافيّ ومذيع من بيت لحم.