فنّيّة الفنّ... معانٍ جوهريّة أم مبتكرة؟

موزة كاتلان

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

"لا توجد أشياء في محيطنا، كلّها فاعلة"

- أندريه برتون -


ضجّت وسائل الإعلام منذ شهور بقطعة فنّيّة غير مألوفة للفنّان الإيطاليّ مريتسيو كاتلان Maurizio Cattelan، عُرضت في معرض "آرت بازل" في ميامي، وهي عبارة عن موزة مثبّتة على حائط بشريط لاصق. وبيعت إصدارات من العمل بـ 120,000 و150,000 دولار؛ وهو ما ولّد أصواتًا مستهجِنة وردود فعل متباينة من الجمهور والمحلّلين على حدّ سواء، فبينما رفض الكثيرون هذا العمل على أنّه فنّيّ، واعتبروا أنّ فيه إسفافًا للعقول، رأت فئة أخرى أنّ هذا العمل قابل للنقد والتحليل؛ فقد يكون العمل ذاته نقدًا لفنّ ما بعد الحداثة، أو تعمّقًا بأبعاده الفلسفيّة؛ لأنّ هذا العمل يسلّط الضوء على تعريف الفنّ (أو استحالة تعريفه)، لأنّه أثار ضجّة تجعل الجمهور يقف باحثًا عن أسباب تدفعه إلى أن يصنّف العمل فنًّا، أو أن يقصيه من دائرة الفنون؛ فهل سيكون هذا العمل فنًّا لو وُجِدَ خارج أسوار معرض فنّيّ؟ أيتعلّق التصنيف بنيّة الفنّان، الّذي وضع هذا العمل في معرض على أنّه فنّ، أم بتقدير الجمهور وتحليله، أم بسياق معرفتنا بأنّ صاحب العمل هو فنّان، أم أنّ العمل نفسه يحتوي على معنًى جوهريّ يجعله فنًّا أو يُبْعِدُه عن هذا التصنيف؟

 

تجربة فيش

يخبرنا ستانلي فيش Stanley Fish في إحدى محاضراته، بأنّه قام بتجربة على طلّابه كتب فيها أسماء ستّة لغويّين بشكل عموديّ، وعرضها على مجموعتين من الطلّاب، إحداهما متخصّصة بالشعر الدينيّ في القرن السابع عشر. عندئذٍ بدأ الطلّاب بتحليل تلك الأسماء على أنّها قصيدة، بل ربطوها بأفكار ورموز دينيّة.

يؤمن فيش بأنّ ثمّة مجتمعات تفسيريّة Interpretive Communities، تُوَجِّه القارئ إلى أن يفهم العمل الفنّيّ بطريقة معيّنة...

استنتج فيش من هذه التجربة أنّ المحلّل أو القارئ هو مَنْ يصنع المعنى، على الرغم من أنّه معنًى غير مستقلّ عن أيديولوجيّة المحلّل أو ثقافته؛ بمعنًى آخر، يؤمن فيش بأنّ ثمّة مجتمعات تفسيريّة Interpretive Communities، تُوَجِّه القارئ إلى أن يفهم العمل الفنّيّ بطريقة معيّنة. وهذا ما جرى مع الطلّاب في التجربة؛ إذ ساقتهم الأيدولوجيّة الأدبيّة - الدينيّة إلى تحليل قائمة الأسماء على أنّها قصيدة دينيّة. 

 

ضدّ "ضدّ الفنّ"... وتعريفات أخرى

وبالعودة إلى عمل كاتلان الفنّيّ، نجد أنّ المحلّلين قد اختلفوا في تفكيك معناه؛ فراح الجمهور الّذي لا يملك خلفيّة فنّيّة، يبحث عن معنًى فنّيّ جوهريّ في العمل، يتجلّى للناظر عن طريق خصائص معيّنة تتوافق مع تعريفه للفنّ؛ لذلك رأت هذه المجموعة أنّ موزة ملصقة بالحائط لا تُعَدّ فنًّا، لأنّها لا تحمل أيّ حقيقة فنّيّة أو جماليّة. ذلك رأي يعارض فنّ ما بعد الحداثة؛ لأنّه لا يتوافق مع تعريفات الفنّ، فهو لن يُعَدّ فنًّا خارج أسوار المعرض. على سبيل المثال، يزعم روّاد حركة "Stuckism" الّتي بدأت في التسعينات أنّ "الفنّ الّذي يجب أن يوجد في معرض فنّيّ حتّى يُصَنَّف فنًّا، لا يُعَدّ فنًّا"؛ فيهاجم هؤلاء الحركات الّتي ترفض تعريف الفنّ، أو فرض معايير محدّدة عليه، ممّن ينتمون إلى ما يُعرف بـ "ضدّ الفنّ = Anti - Art"؛ فيُسمّي منتمو حركة "Stuckism" توجّههم بأنّه "Anti - Anti Art"؛ أي أنّه ضدّ حركة "ضدّ الفنّ". 

من ناحية أخرى، ثمّة مجموعة من المحلّلين وجدت أنّ عمل كاتلان ذو قيمة فنّيّة فريدة، وذو معانٍ مبطّنة؛ إذ فسّرت تلك المجموعة العمل على أنّه يقع في سياق فنّ كاتلان الساخر؛ فهو صاحب عمل "المرحاض الذهبيّ" وأعمال أخرى غير مألوفة، وهو أيضًا المعروف بأنّه الفنّان صاحب المقالب وصاحب النكتة. ويرى هؤلاء المحلّلون أنّ عنونة العمل بـ "كوميديّ Comedian"، يضع سياقًا معيّنًا يمكّننا من التحليل بناءً عليه. ولقد بنى المحلّلون - الّذين أخذوا العمل على محمل الجدّ – تفسيراتهم، وفق فهمهم للفنّ على أنّه لا يأتينا محمّلًا بمعانٍ جاهزة، بل يكتسب تفسيرات غير منتهية؛ فكما تقول توني موريسون إنّ "التعريفات لا تنتمي إلى المعرَّف بل إلى المعرِّف"، كذلك ترى المثاليّة الألمانيّة أنّ ما يُنْتِج المعنى هو تجربة الفاعل لا ماهيّة الشيء، ولا يمكن إدراك المعنى بلا هذه التجربة العقليّة، وهذا الرأي معاكس لرأي أفلاطون الّذي يزعم أنّ الفنّان يقلّد عملًا ذا جوهر ثابت.

 

التشويه... إيجابًا

إنّ مسألة إيجاد المعنى الفنّيّ كانت ولا تزال جدليّة وشائكة، خاصّة في زمن لا يتساءل فيه الإنسان عن إيجاد المعنى فحسب، بل عن وجود المعنى أصلًا؛ فقد أصبح المعنى في الدراسات الثقافيّة الحديثة كائنًا ديناميكيًّا في حالة تشكيل مفتوحة لاحتمالات غير متناهية؛ لذا يستحيل إيصال المعنى إلى المتلقّي بلا حدوث حالة من "التشويه Distortion"، كما وصفها ستيوارت هول. والتشويه هنا لا يؤخذ بالمعنى السلبيّ للكلمة، بل بمعنى إنتاج إصدارات جديدة من الخطاب أو الفنّ، لم يقصدها الفنّان نفسه. 

يستحيل إيصال المعنى إلى المتلقّي بلا حدوث حالة من "التشويه Distortion"، كما وصفها ستيوارت هول. والتشويه هنا لا يؤخذ بالمعنى السلبيّ للكلمة، بل بمعنى إنتاج إصدارات جديدة من الخطاب أو الفنّ...

يستنتج ستانلي فيش أخيرًا أنّ الإستراتيجيّات التحليليّة لا تبحث عن العمل بل تصنعه؛ لذا لم يفصح كاتلان عن غاية من وراء عمله الفنّيّ يتطلّع أن يجدها المحلّلون، فلم يدافع عن نفسه أمام موجة السخرية أو التفسيرات غير المألوفة، الّتي كانت إحداها أن أكل شخص أطلق على نفسه اسم "الفنّان الجائع" الموزة، لإيصال رسالة قد يكون مفادها أنّه من السهل استبدال أيّ موزة أخرى بموزة كاتلان.

لم يكن كاتلان بصدد أن يختزل العمل بمعنًى واحد، أو أن يضع نهاية للتأويلات؛ فهذه التفسيرات المفتوحة هي – أخيرًا - ما جعلت هذا العمل بالتحديد أشبه بكائن حيّ دائم التشكّل، وعصيّ على الثبات وعلى اختزالات التعريف؛ لذا استطاع عمل كاتلان دون غيره أن يجتاح وسائل الإعلام، على الرغم من وجوده في زاوية صغيرة، ضمن آلاف الأعمال الفنّيّة في المعرض.

 

 

د. سميّة الحاجّ

 

 

أستاذة مساعدة في الأدب الإنجليزيّ في جامعة بيرزيت، حصلت على درجة الدكتوراه من الجامعة الأردنيّة عام 2016، وقد تخصّصت في الأدب الكاريبيّ ودراسات ما بعد الاستعمار. لها العديد من الأبحاث في النقد والنظريّة الأدبيّة.