«جمل المحامل»... يعود شابًّا وملثّمًا في غزّة

«جمل المحامل» لسليمان منصور (1973)، وتناصّ معها لفنّان غزّيّ مجهول (2021)

 

أجرى رئيس حركة «حماس» في غزّة يحيى السنوار مؤتمرًا صحافيًّا بالأمس، تحدّث فيه عن نتائج معركة «سيف القدس»، الّتي خاضتها فصائل المقاومة في غزّة، دفاعًا عن العاصمة الفلسطينيّة ومقدّساتها وأحيائها، وتحديدّا المسجد الأقصى وحيّ الشيخ جرّاح، وقد استمرّت 11 يومًا، انتهت بوقف إطلاق نار متزامن بين الفصائل وجيش الاحتلال الإسرائيليّ.

أكّد السنوار مكتسبات المواجهة، وتغيّر معادلة الصراع مع الاحتلال على نحو جذريّ، في ما كان جالسًا تحت لوحة ضخمة كُتِبَ عليها «سيف القدس» بخطّ فارسيّ أبيض، وعلى يسار الصورة كان مقاتل ملثّم من «كتائب الشهيد عزّ الدين القسّام» يحمل فوق ظهره مدينة القدس، ويمسك بيده رشّاشًا، وفي يده الأخرى يرفع علم فلسطين، في تناصّ لا تُخطئه العين، مع لوحة الفنّان الفلسطينيّ سليمان منصور الشهيرة «جمل المحامل».

ملأت «جمل المحامل» بيوت الفلسطينيّين على شكل بوسترات منذ منتصف السبعينات، وصارت أيقونة بصريّة تعبّر عن الشتات، كأثر لا ينتهي لنكبة عام 1948، وارتبطت بحالة الفلسطينيّ المهزوم المسلوب الإرادة...

ملأت «جمل المحامل» بيوت الفلسطينيّين على شكل بوسترات منذ منتصف السبعينات، وصارت أيقونة بصريّة تعبّر عن الشتات، كأثر لا ينتهي لنكبة عام 1948، وارتبطت بحالة الفلسطينيّ المهزوم المسلوب الإرادة، متمثّلًا بعجوز فلسطينيّ مُرهَق وحزين، يمشي حافي القدمين نحو وجهة غير معلومة، حاملًا وطنه فوق ظهره.

كان الناظر إلى تلك اللوحة، وهي على جدران المنازل، يتملّكه إحساس بوقع الهزيمة على النفس والأسى؛ ومن هنا تحديدًا تحضر قوّة «جمل المحامل»، في اختصارها لما لا يسهُل قوله على أيّ حال، ومن هنا أيضًا لا يمكننا سوى الالتفات إلى ما تُمَثّله تلك اللوحة في غزّة، والحالة الشعوريّة الجديدة المتولّدة عنها.

 

رحلة العجوز 

رسم سليمان لوحته هذه عام 1973، لكنّها تعرّضت لحريق جرّاء القصف الأميركيّ على ليبيا عام 1986؛ إذ كانت اللوحة بحوزة معمّر القذّافي كهديّة. أعاد سليمان رسمها عام 2014، وقد أجرى تعديلًا على نوع الحبل المرسوم، كما زاد من الحضور الدينيّ المتنوّع في أفق المدينة، إلّا أنّ نسخة ثالثة منها ظهرت في مزاد «دار كريستيز» العالميّة للفنون الحديثة والمعاصرة، الّذي أُقيم في دبيّ عام 2015، حينئذٍ بيعت اللوحة بـ257 ألف دولار.

عادت اللوحة للظهور عام 2017، لكن بشكل مختلف، عندما افْتُتِحَ في بيت لحم فندق «The Walled Off Hotel» بالتزامن مع مئويّة «وعد بلفور» بإنشاء وطن قوميّ لليهود في فلسطين، وهو فندق يتمتّع «بأسوأ منظر في العالم» كما يقول مالكه وسام سلسع ساخرًا؛ فهو يطلّ على حاجز عسكريّ لجيش الاحتلال وجدار الفصل المغطّى برسومات للفنّان البريطانيّ الشهير بانكسي، الّذي ملأت أعماله ردهات الفندق وغرفه كذلك.

بعدها بعامين، يقترح سلسع إعادة تكوين لوحة «جمل المحامل»، بما يتناسب مع الظرف الفلسطينيّ الراهن آنذاك، فترجم الفنّان التشكيليّ وائل أبو يابس تلك الرغبة عمليًّا، بأن رسم تصوّرًا مغايرًا تمامًا، ظهر فيه العجوز جالسًا على كرسيّ، ويستند إلى طاولة، وبيده كأس تبدو مليئة بالكحول، وقد أزال القدس عن ظهره، في ما تملّكته حالة من الإحباط واليأس، وربّما اجتاحته سيول من ذكريات البلاد السليبة، في تناصّ مع مشهد من فيلم المخرج الفلسطينيّ إيليا سليمان الأخير «إن شئت كما في السماء»، وجملة جاءت لوصف حالة الراحل/ الشارد الّتي تمثّلت في ثلثَي الفيلم الأوّلين: "إنتو الفلسطينيّة غريبين: العالم كلّو بيشرب حتّى ينسى، إنتو الشعب الوحيد اللّي بيشرب ليتذكّر".

 

تصوّر الفنّان وائل أبو يابس لـ «جمل المحامل» (2017)

 

فنّان غزّة المجهول

حرّكت أحداث الشيخ جرّاح جموع الفلسطينيّين، ورفعوا شعار «آن للنكبة ألّا تستمرّ». أمّا إعلان ذلك وَضْعًا لا رجعة عنه فجاء من غزّة، وعلى يد فنّان مجهول ينضمّ إلى قافلة مجاهيل غزّة الأبطال، فيرسم تصوّرًا جديدًا يمتلئ بحالة النقيض عن لوحة سليمان، نلاحظها بدقّة في نظرة الملثّم الّذي توحّد مع القدس وعلم فلسطين وسلاحه. تتغيّر حالة الإحباط الّتي سادت في السنين الأخيرة فتنقلب، بعد 73 عامًا من النكبة، إلى فعل ثوريّ يُجْبِرُ العدوّ على إحياء ذكرى «استقلاله» في الملاجئ.

الّذي هدّد الاحتلال وتحدّاه على الهواء مباشرةً ومن خلفه اللوحة، أسير مُحَرَّر قضى في سجون الاحتلال 23 عامًا، خرج منها في صفقة «وفاء الأحرار» عام 2011، وهو مَنْ سقوط «صفقة القرن»، ومشاريع التسوية، وحملات التطبيع، وتهويد القدس، وأسرلة المجتمع الفلسطينيّ في أراضي 48، ومشاريع التعايش الوهميّة؛ وهنا، يتحرّر المؤتمر الصحافيّ ذاته من وظيفته الإعلاميّة المعتادة، ليصير فعلًا ملموسًا يستكمل المعركة ولا يُعَلّق عليها فقط. وصلت ذروة هذا الفعل عندما تحدّى السنوار «أقوى جيوش المنطقة»؛ بأن عاد إلى منزله مشيًا على الأقدام، محدّدًا وقت ذلك، دون أن يجرؤ على استهدافه.

في الوقت ذاته، عاد الاحتلال لمحاربة الجداريّات الفلسطينيّة، وعلم فلسطين المعلّق على سلك الكهرباء، وأغاني الأعراس الّتي تمجّد المقاومة... كم يستفزّه حضور الأيقونة!

هنا تبدو لوحة فنّان غزّة المجهول، كأنّها أمر لازم، ونتيجة حتميّة لما حقّقه الفلسطينيّون جميعًا، خلال الأيّام الماضية، على اختلاف أماكن وجودهم وتوجّهاتهم.

هنا تبدو لوحة فنّان غزّة المجهول، كأنّها أمر لازم، ونتيجة حتميّة لما حقّقه الفلسطينيّون جميعًا، خلال الأيّام الماضية، على اختلاف أماكن وجودهم وتوجّهاتهم. فاليوم لا تتغيّر مشاعر الفلسطينيّ نحو النكبة فحسب، بل يمتدّ التغيير إلى كيف يرى نفسه. 

انتهت معركة «سيف القدس» دون اتّفاق أو توقيع، انتهت عبر وسائل الإعلام قبل أن تنتهي على الأرض، لكنّ انتهاءها كان مجرّد بداية لمرحلة جديدة، بات فيها الفلسطينيّون على إجماع حول المواجهة الشاملة، أقصرَ الطرق نحو القدس.

وبانتهاء هذه الجولة، حقّق الفلسطينيّون مكتسبات عدّة، كان أهمّها عودة القدس لمكانتها وثقلها السياسيّ والشعبيّ، هذه المرّة على ظهر مقاتل شابّ، يحمل علم فلسطين وبندقيّة.

 

 

إسلام السقّا

 

 

 

كاتب من غزّة.