«402 من الرماديّ»... لماذا تكتسي الحياة الفلسطينيّة بالرماديّ؟

من أعمال محمود الحاجّ في معرض «402 من الرماديّ»

 

كيف يمكن استخدام صور العنف الّتي ينتهجها الاستعمار الإسرائيليّ ضدّ الفلسطينيّين والأرض والبيئة في عمل فنّيّ؟ كان هذا التساؤل الّذي سعى الفنّان البصريّ محمود الحاجّ من غزّة، إلى الإجابة عنه في مشروع «402 من الرماديّ».

اشتقّ الحاج (30 عامًا) تسمية المشروع من الحالة الرماديّة الّتي تكتسي الحياة الفلسطينيّة، بدءًا من الحالة السياسيّة وصولًا إلى تفاصيل الحياة والعمران. لا يتعامل الحاجّ في مشروعه الّذي استغرق إنجازه مدّة عامين من البحث والتجريب مع الرماديّ بصفته حالة لونيّة، بل بصفته صبغة احتلاليّة على الحياة الفلسطينيّة. في ما اختار الحاجّ الرقم «402» للإشارة إلى المسافة الّتي قطعها جدار الفصل العنصريّ في الضفّة الغربيّة حتّى عام 2006، وهو العام نفسه الّذي بدأ فيه بالبحث عن معنى الجدار والحصار.

 

الحقّ في النظر

ثمّة كثير من المحاولات الّتي يسلكها الناس في غزّة للنظر والتفاعل مع الأشياء خارج القطاع؛ لتفادي حالة العزل الّتي يعيشونها، إثر الحصار الإسرائيليّ الشديد منذ أكثر من 14 عامًا. بعضها يبوء بالفشل، كمحاولات الفنّان محمود الحاجّ في الخــروج من غزّة إثر ظروف القطاع وصعوبة السفر، وبعضها كان محرّكًا ودافعًا لإيجــاد طــرق بديلــة لرؤيــة فلسطين والعالم الخارجيّ، كما حدث مع الحاجّ أيضًا، الّذي لم يجد أمامه سوى «خرائــط جوجــل» نافــذةً وحيــدةً متاحــةً لزيارة العالم. أضاءت هذه النافذة مختلف المعالم حول العالم، حتّى وصلت إلى فلسطين وأصبحت قاصرة عن الرؤية؛ إذ يحظر «قانون كايل – بينجامان» الّذي سنّه الكونغرس الأميركيّ عام 1997، وجرى إقراره بتفويض الدفاع القوميّ الأمريكيّ، توفير صور من الأقمار الصناعيّة لفلسطين ذات جودة عالية وطبيعيّة، بذريعة حماية الأمن القوميّ لإسرائيل، وهو بذلك يمنع أيضًا إظهار جدار الفصل في الضفّة الغربيّة، والكتل الاستيطانيّة، وآثار صور العنف الأخرى الّتي ينتهجها الاحتلال ضدّ الفلسطينيّين والجغرافيا.

 

من أعمال محمود الحاجّ في معرض «402 من الرماديّ»

 

كان حظر الخرائط شكلًا من أشكال عنف الاحتلال، الّتي وقفت في وجه سعي الحاجّ إلى رؤية فلسطين. هنا اصطفّ حظر الخرائط إلى جانب أسئلة أخرى عن معنى جدار الفصل وآثاره، والحصار في مخيّلته. ومنها، انطلق في مشروعه، بدءًا من البحث والمقابلة لمعايشة جوّ جدار الفصل وآثاره بشكل كامل، وصولًا إلى التجريب وجمع الموادّ.

عمل الحاجّ على إخضاع الصور الأرشيفيّة الّتي جمعها من الإنترنت، إلى جانب ما تقدّمه «خرائط جوجل» من صور لفلسطين، لعمليّة معالجــة رقميّة شــديدة؛ لتشــكّل استعراضًا للمشـهد الزمنـيّ للحالة المادّيّة والمعنويّة، الّتي أحدثها جـدار الفصـل العنصـريّ، وحصـار قطـاع غـزّة.

لم يكن الحاجّ مرغمًا فقط في استخدامه للصور المنخفضة الجودة، الّتي تقدّمها «خرائط جوجل» للأراضي الفلسطينيّة، بل استخدمها أيضًا للإشارة إلى «جودة حقوقنا نحن الفلسطينيّين»، كما يقول، مضيفًا "في الوقت إلّي كلّ العالم بمارس فيه حقوقهم في النظر بشكل طبيعي، إحنا ممنوعين! مش فقط على مستوى النظر فقط، لكن التأكيد على الحقّ في النظر هو لإظهار مستوى الحرمان إلّي منعيشه بسبب الاحتلال".

أنتج الحاجّ مؤخّرًا فيلمًا تجريبيًّا قصيرًا عنوانه «الحقّ في النظر»، استخدم فيه صورًا ومقاطع أرشيفيّة توثّق مرحلة بدء بناء الجدار عام 2002، حتّى تاريخ إنتاج الفيلم في العام الجاري، ويرصد الفيلم الّذي بدأ بعبارة "بدأ/ قرّر الجنرال" سياسات الاستعمار وتناميها في المنع وحرمان الفلسطينيّين من حقّهم في النظر والوصول.

ترشّح الفيلم للعرض في «مهرجان القاهرة للفيديو» (2021)، وسيُعْرَض في شهر تشرين الأوّل (أكتوبر) القادم.

 

سلاسل

بإشراف الفنّان الجزائريّ سفيان زوقار، وضمن برنامج المنح الإنتاجيّة من «محترف شبابيك» و«دائرة الفنّ المعاصر» التابعة لـ «الاتّحاد العامّ للمراكز الثقافيّة»، وبالشراكة مع «مؤسّسة عبد المحسن القطّان»، أنجز محمود الحاجّ مشروعه «402 من الرماديّ»، مرتكزًا على قاعدة أنّ الجــدار هــو الشــكل المــادّيّ للإغــلاق، وأنّ الحصــار هــو الحالــة المعنويّة له. قسّم الحاجّ مشروعه الّذي عُرِضَ في «محترف شبابيك» بغزّة في تمّوز (يوليو) الماضي، ويقدّم سرديّة تمزج الواقع وتفاصيله الّتي تضجّ بصور عنف الاحتلال، بالخيال، لثلاث سلاسل.

 

من أعمال محمود الحاجّ في معرض «402 من الرماديّ»

 

اعتمد الحاجّ في سلسلة «البُعْد الخامس» على تخيّله الشخصيّ للماضي والحاضر والمستقبل، وأزال الحدود بين المدن الفلسطينيّة؛ لتكون بمنزلة مساحة واحدة، وحوّل صور عنف الاحتلال إلى أشكال فنّيّة، لتعطي "انطباعًا أوّليًّا على أنّها خرائط جديدة أو خلايا من نوع جديد"، كما يقول.

استخدم في هذه السلسلة، برنامج «مارسيل» للمعالجة الرقميّة، وهو برنامج صُمِّمَ حَصْرًا له، وسُمِّيَ على اسم ابنه مارسيل. يشرح الحاجّ آليّة عمل البرنامج الّذي صُمِّمَ حصرًا لهذا المشروع: "أنا أعطي هذا البرنامج مجموعة صور وأوامر، وهو يعطيني نتيجة، غير قابلة للتعديل، وهي الحالة ذاتها الّتي نعيشها مع مُخْرَجات الاحتلال وصور عنفه كالحصار والجدار؛ إذ لا يمكننا الرفض أو معالجة صور عنف الاحتلال".

في سلسلة «تشويه»، عمل الحاجّ على إعادة تمثيل الحالة النفسيّة الّتي يتركها الجدار والحصار في الفلسطينيّين، وقد استخدم فيها مجموعة صور للجدار وصور لأشخاص، وأخضعها لعمليّة تجريد ودمج؛ لإظهار آثار الجدار والحصار على المستوى النفسيّ.

حاول الحاجّ أيضًا، في هذه السلسلة، استعراض أثر الجدار في تشويه الجغرافيا والشكل المعماريّ المدنيّ. يقول: "حاولت إظهار شكل التشويه الّذي أحدثه الجدار على مستوى الجغرافيا الفلسطينيّة، والشكل المعماريّ للمدن".

ضمّت السلسلة أيضًا عملًا فنّيًّا تفاعليًّا هو الأوّل من نوعه في فلسطين، تمثّل في عرض «بروجكتر» تفاعليّ، وهي تقنيّة غير دارجة في غزّة والضفّة الغربيّة.

مكّنت هذه التقنيّة زوّار المعرض من صناعة خرائطهم الخاصّة، من خلال استخدام صور عنف الاحتلال وتشويهه للجغرافيا، عبر التفاعل بحركة أجسادهم وأيديهم. يقول الحاجّ إنّ هذه التقنيّة كانت محاولة لـ "إعطاء الجمهور حقّه في إعادة توليف خرائط بلاده، بعيدًا عن قيود الاحتلال وسياساته في المنع والحرمان".

 

من أعمال محمود الحاجّ في معرض «402 من الرماديّ»

 

استعرض الحاجّ في سلسلة «الهندسة المعماريّة للمنع»، أثر الجدار في الهندسة المعماريّة للبيوت الفلسطينيّة، ويظهر في أعماله بهذه السلسلة كيف غيّر الجدار ملامح البيوت وهندستها.

يقول: "حاولت أن أستعرض شكل الجدار، أن أظهره كتلةً كبيرةً واحدة، لها أثر في هندستنا المعماريّة في بيوتنا. لا يمكن أن أشرح بالضبط تفاصيل العمل، لكن يمكن ملاحظة شكلها؛ كيف تظهر البيوت على أنّها أجزاء تسبح في فضاء أسود".

 

عن محمود الحاجّ

محمـود الحـاجّ فنـّان بصـريّ ومـدرّس فنـون، حصـل عام 2012 علـى درجـة البكالوريـوس في «الصحافة والإعلام» من «جامعة الأقصى»، ويعمل مدرّسًا للفنون في «جمعيّة الهـلال الأحمـر الفلسـطينيّ» منـذ عـام 2017. 

يهتمّ الحاج بكلّ الوســائط الفنّيّة المختلفــة، كالرســم والنحــت وفــنّ الفيديــو. يشير خلال حديثه إلى فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة، إلى أنّه ركّز خلال العاميــن الماضييــن، على العمــل في الوســائط الرقميّة حتّى يتمكّــن مــن مواكبــة التدفـّـق الجنونــيّ للأحـداث والصــور مــن حوله.

عُرِضَت أعماله في فلسطين وأوروبّا والولايات المتّحدة الأميركيّة، وشارك في معرض «الفنّ في العزلة» في «معهد الشرق الأوسط» في واشنطن عام 2020، ومعرض «في الفراغ» في «محترف شبابيك» في فلسطين عام 2019، ومعرض «مقارنات تأمّليّة»، في «مؤسّسة عبد المحسن القطّان» في فلسطين عام 2019، ومعرض  «Orient 2. 0» في «Pulchri studio den Hague» في هولندا عام 2017.

 

من أعمال محمود الحاجّ في معرض «402 من الرماديّ»

 

 


عمر موسى

 

 

 

صحافيّ من غزّة. خرّيج قسم الإعلام في جامعة الأزهر. يكتب في عدد من المواقع الفلسطينيّة والعربيّة.