"سلع بشعة لا تفي بحقوقكم"... الجريمة إذ تُباع

الفنّان محمّد أبو سلّ

 

بيع السلاح المجرّب

عام 2020، برزت الأسلحة الإسرائيليّة في المواجهة الدائرة بين أذربيجان وأرمينيا، وكانت عنصر تفوّق لأذربيجان، ولا سيّما الطائرات المسيّرة بأنواعها والصواريخ. ومن القوقاز إلى غربيّ أمريكا الجنوبيّة، استنسخت قوّات الأمن التشيليّة في قمعها للاحتجاجات الشعبيّة في تشيلي، سيناريوهات القمع والمحاربة الّتي يستخدمها الاستعمار ضدّ الفلسطينيّين؛ إذ غدت سيناريوهات إسرائيل خططًا معلّبة، تشاركها من موقع خبرة إلى الراغبين.

في الغضون، لا تزال أنظمة التجسّس والمراقبة الإسرائيليّة، بينها برنامج «بيغاسوس»، يحتلّ حيّزًا من حديث العالم. أُضيف إليه مؤخّرًا ما كشفته صحيفة «واشنطن بوست»؛ أنّ جيش الاحتلال أنشأ قاعدة بيانات كبيرة من الصور والمعلومات حول الفلسطينيّين. تُسَمّي مؤسّسة الاحتلال البرنامج «Blue Wolf» )الذئب الأزرق). لكنّ الصحيفة نقلت عن أحد الجنود أنّهم يسمّونه «فيسبوك الفلسطينيّين»، وهي تقنيّة مربوطة بنظام تعرّف الأوجه، تقدّم التقنيّة للجنود تقييمًا ‘أمنيًّا‘ للفلسطينيّ فور رؤيته.

بحسب الصحيفة، فإنّ المستوطنين أنشؤوا - على خطى جيشهم - برنامجًا بتقنيّة مشابهة، وسمّوه «الذئب الأبيض»؛ لتقييم الفلسطينيّين القادمين للعمل في المستوطنات.

 

 

غدت الهجمات الوحشيّة في غزّة، وتقنيّات الاحتلال المختلفة في باقي الأراضي الفلسطينيّة، تأخذ سياقًا تجريبيًّا في حسابات الاستعمار، دون إيلاء أهمّيّة بالقدر ذاته إلى الأهداف الأخرى؛ لتصير المواجهات بذلك، مواسم تسويق للمنتجات الإسرائيليّة؛ فعقب عدوان إسرائيل الواسع على قطاع غزّة عام 2014، مثلًا، الّذي استخدمت فيه مختلف الوسائل القتاليّة المتطوّرة، صرّح الرئيس التنفيذيّ لشركة تصنيع الأسلحة الإسرائيليّة «Meprolight» بأنّه "بعد كلّ حملة مشابهة لما يحدث في غزّة، ترصد إسرائيل زيادة في عدد العملاء من الخارج".

هكذا حوّل الاستعمار جرائمه في فلسطين إلى معرفة، وأدوات، وسلع تسوّق على نطاق واسع؛ لتتجاوز بصمة إسرائيل الإجراميّة فلسطين إلى العالم.

 

البشاعة

في مشروعه «سلع بشعة لا تفي بحقوقكم»، يحاول الفنّان البصريّ محمّد أبو سلّ، معالجة تحوّل أدوات الاحتلال في العزل والفصل، وتقييد الحركة والقتل، وغيرها، من كونها أدوات إجراميّة، إلى أفكار وسلع قابلة للبيع والتسويق عالميًّا، عبر سلسلة أعمال بصريّة متعدّدة الوسائط، تتناول الجدار، والبوّابات الإلكترونيّة، وجهاز الفحص بالأشعّة والرادار للأفراد، وكاميرات المراقبة، والسياج الإلكترونيّ، وصولًا إلى القنابل والطائرات، وغيرها من الأدوات الّتي ابتكرتها إسرائيل وغيرها من الدول الاستعماريّة؛ بهدف تحقيق رغباتها وأهدافها.

يحاول أبو سلّ في مشروعه الّذي استغرق إنجازه مدّة ثلاث أعوام، بدعم من «الصندوق الثقافيّ الفلسطينيّ»، إظهار بشاعة هذا التحوّل: تطبيع جرائم الاستعمار في فلسطين في نظر العالم، وتحوّلها إلى شيء عاديّ، لا يستدعي الاحتجاج أو التدقيق، وتصييرها سِلَعًا نهائيّة، لها سوق وشركات وروّاد كثر حول العالم.

المشروع أيضًا كان جزءًا من مسار بحثيّ عمل عليه أبو سلّ؛ لتوثيق معايشة واقع الفلسطينيّين تحت الاستعمار، بدءًا من المنازعة في أدنى الحقوق، مثل: حرّيّة التنقّل، والشعور بأمان، وصولًا إلى القمع والقتل.

جزء آخر من المشروع، يعكس مستوى الخوف الّذي تعرّض، ولا يزال، له الفلسطينيّون، بكلّ فئاتهم تحت الاستعمار، والحروب والحصار، وسياسات إسرائيل في الترويض وملاحقة حقوقهم بالأمان، والحركة، واللعب، إلى جانب طرح نموذج ساخر من الحالة.

 

 

بحسب أبو سلّ، فإنّ تسمية المشروع جاءت من صميم الحالة، فـ "أدوات القتل والقمع، ليست سلعًا إنسانيّة! ولا تسلية في وظيفتها، ومُخْرَجاتُها لا تتوافق مع حقوق البشر، بل تعمل على قمعها، وتحقيرها. لذا؛ هي سلع لا تفي بحقوق أحد، من الضروريّ عدم التعاطي معها بصورة طبيعيّة".

 

«Blythe»

في بحثه في المشروع، رأى أبو سلّ أنّه أمام حقيقة "أنّ انتهاكات الاحتلال في فلسطين باتت تُعامَل على أنّها شيء روتينيّ، لا للعالم الخارجيّ وحده، بل بالنسبة إلينا أيضًا"، يقول إنّ هناك ضرورة "لتجاوز هذه الحالة الّتي أدخلتنا فيها العادة، وإعادة تعريف الأشياء الّتي نمرّ بها بشكل واضح؛ فكلّ الانتهاكات الّتي نعيشها ليست أمرًا طبيعيًّا، ولا من العاديّ في شيء أن نتأقلم معها، بل أن نحاول باستمرار إظهار بشاعتها".

وجد الفنّان أنّه في حاجة إلى مرسال مختلف لمشروعه، وكانت الدمية «Blythe» (بليث)، وهي دمية معروفة عالميًّا، وتُعامَل كنجمة، وهي موديل لواجهة المجلّات العالميّة وشركات الأزياء. بحسب أبو سلّ، فإنّ الأهمّيّة الّتي تحيط «Blythe»، دفعته إلى سحبها من وسط مسرح الشهرة، ومن عالمها الجميل إلى هنا، لـ "تعيش الظروف القاسية الّتي لم تعتد عليها"، كما يقول، في محاولة لتغيير الصورة الإعلاميّة النمطيّة المستهلكة، عن أدوات الاحتلال، إلى صورة جديدة أكثر لفتًا للانتباه وإحراجًا وسخرية.

يحاول أبو سلّ توظيف «Blythe» في مشروعه أداةً للدفاع عن الحقوق والأرواح، وأداةً للفضح أيضًا، وأن تعيد إلى أذهان الجميع التساؤل المهمّ: لو كان هناك رقابة إنسانيّة لما حدث ما حدث، ولو ظلّ الحال على ذاته، فإنّ مستقبلًا أكثر قتامة سيكون.

 

قراءة فنّيّة للحقوق المنتهكة

يخلص أبو سلّ في حديثه مع فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة إلى أنّ الفنّ ليس مجرّدًا، أو يستهدف جماليّة الأشياء فقط، بل أصبح أكثر من أيّ وقت مضى مادّة تتقاطع مع الحقوق. ويجد الفنّان أنّ "ثمّة حاجة ضروريّة إلى تقديم قراءات فنّيّة جديدة للحقوق المنتهكة".

عُرِضَ مشروع أبو سلّ الفنّيّ «سلع بشعة لا تفي بحقوقكم»، في معرض «التقاء» في قطاع غزّة، وقد حرص في عرض اللوحات أن يقدّم مشهدًا ساخرًا من الحالة؛ إذ كان المعرض كالمتجر، وكانت اللوحات المعروضة عيّنة لمنظومة استعماريّة، تقدّم للزبائن/ الزائرين، أدواتها وآلاتها وكلّ ما يمكن أن يتّصل بالقمع والقتل من معرفة.

 

 

محمّد أبو سلّ من مواليد البريج - قطاع غزّة عام 1976، وهو فنّان متفرّغ للإنتاج والبحث الفنّيّ. له 10 معارض شخصيّة، محلّيّة ودوليّة، بينها: «القدس، عمّان، باريس»، كما شارك في العديد من المعارض والمهرجانات الفنّيّة المحلّيّة والدوليّة. حصل أبو سلّ على منحة زمالة فنّيّة في «Camargo Foundation» بترشيح من متحف «MUCEM» في مدينة كاسي – مارسيليا – فرنسا. وحصل على منحة الإقامة الفنّيّة بـ «مدينة الفنون الدوليّة» في باريس. وحصل على «جائزة تشارلز أسبري» من لندن للفنون المعاصرة.

 


 

عمر موسى

 

 

 

صحافيّ من غزّة. خرّيج قسم الإعلام في جامعة الأزهر. يكتب في عدد من المواقع الفلسطينيّة والعربيّة.