نوافذ الأقصى... مَنْ يحمي سحر التاريخ؟

نافذة محطّمة في المسجد الأقصى نتيجة اعتداء إسرائيليّ | أ فب

 

تُعَدّ النوافذ من ركائز الفنّ المعماريّ، وعلى امتداد التاريخ العمرانيّ للحضارات حظيت باهتمام خاصّ؛ كونها مصدرًا للنور وللتهوية، وهي واجهة للمكان أيضًا، سواء للناظر من الخارج أو الداخل. أنتج هذا الاهتمام أنماطًا عديدة للنوافذ، وتعبّر هذه الأنماط عن السائد من الموادّ والمفاهيم العمرانيّة، وانعكاسًا للحياة الاجتماعيّة والطبقيّة وللمعتقدات بكلّ حقبة تاريخيّة. العمارة في الحضارة الإسلاميّة كان لها دور تاريخيّ في إحداث تحوّلات مهمّة على شكل النوافذ وبنائها؛ هذا الدور اتّسم أساسًا بدخول الفنّ والفنّانين لمجال العمران، ولا سيّما مجال زخرفة النوافذ وأطرها، وإظهارها كلوحات فنّيّة تزيّن الجدران، واعترافًا بأبعادها الجماليّة، إضافة إلى الأبعاد الهندسيّة والرياضيّة الّتي أدّت دورًا حاسمًا لتحديد دخول ضوء أشعّة الشمس لفضاء العمارة، هذه الحسابات الّتي مورست بالأساس في منشآت العبادة والحكم.

 

زخرفة الإسلام

ظهور الفنّ المتخصّص بالنوافذ المزخرفة وتطوّره، تماشى مع نزعة الابتعاد الإسلاميّة عن التصاوير والرسومات الآدميّة بأشكالها في البيوت والفضاءات العامّة، وتبنّي الجهات الحاكمة في الدولة الإسلاميّة لهذه النزعة في كثيرٍ من الفترات والمناطق. وهكذا وُجِّه الكثير من الطاقات للإبداع في فنّ رسم النوافذ، وتخطيطها، وبنائها، وزخرفتها؛ اعتمادًا على الأشكال الهندسيّة والنباتيّة، الّتي سُمِّيَتْ في الأدبيّات بزخرفة «التوريق»، إضافة إلى التفرّد بالزخارف الخطّيّة، وخاصّة الخطّ الكوفيّ والنسخ القراَنيّ.

 

نافذة منشأة من قبل "المجلس الإسلاميّ الأعلى" عام 1347 للهجرة

 

اتّخذت الشبابيك أشكالًا هندسيّة، ولا سيّما الرباعيّة والدائريّة والسداسيّة، الّتي طغت وأثّرت في سير البناء والزخرفة. وبدت الزخرفات منحنية مجدولة أو منكسرة، مستقيمة دائريّة متقاطعة، تتشابك لتشكّل نسيجًا واحدًا مبهرًا، نرى من خلالها أنماطًا هندسيّة رباعيّة دائريّة وسداسيّة، وانبثاق شكل هندسيّ فنّيّ يجذب الأنظار ويضفي جماليّة للمكان؛ فنرى مثلًا تداخل الأشكال الهندسيّة، تارة داخل الزخرفة النباتيّة، وتارة أخرى نلمح تداخل الزخرفة النباتيّة الورقيّة داخل الأشكال الهندسيّة للشكل الفنّيّ للنافذة. سواء كانت الأشكال الهندسيّة والنباتيّة منفصلة أو متشابكة، فإنّها تلتزم الضبط في الشكل، التزامًا بالنظم الهندسيّة والخطّيّة للحفاظ على الجاذبيّة البصريّة. ومن مميّزات الزخرفة الإسلاميّة الإيحاء إلى أشكال حيوانات وطيور، دون رسمها بشكل واضح ومباشر.

بالمُجْمَل فإنّ المنتج الفنّيّ هنا ليس اعتباطيًّا عبثيًّا ولا فوضويًّا، رغم خواصّه التجريديّة. ومقابل التشابه والنسق الداخليّ، ثمّة أيضًا تنوّع لافت ومتميّز.

 

معارض فنّيّة معلقّة

في نوافذ «المصلّى القبليّ»، يمكن أن نلحظ اللمسات الجبّارة والاستثنائيّة الباقية والمستمرّة، رغم الفجوات الزمنيّة بين العصور وتبدّل التقنيّات والإمكانيّات، وشبه غياب للطاقات البشريّة الحرفيّة والفنّيّة في هذا المجال؛ لمسات مبدعة تدلّ على اجتهاد منفّذي العمل الفنّيّ للإبقاء على استمراريّة مدرستهم التراثيّة والعمرانيّة، وتثبيت مرجعيّتهم الحضاريّة والثقافيّة.

نشاهد في «المصلّى القبليّ» نوافذ من الجصّ المخرّم، مؤلّفة من طبقتين متباعدتين؛ طبقة خارجيّة تدمج أشكال الجصّ المخرّم مع الزجاج الشفّاف والملوّن، وطبقة داخليّة من الأشكال الهندسيّة المختلفة مدمجة لفنّ التوريق النباتيّ، يتخلّلها الفنّ الكتابيّ، بعضها بالخطوط العربيّة بصياغات نصوص دينيّة وأسماء من الصحابة، بالإضافة إلى اسم الرسول (ص)، وتعشيق الزجاج بالألوان، وهي بذلك تتواصل مع نمط الزخرفة الهندسيّة والكتابيّة في مسجد «قبّة الصخرة».

الزائر أو المصلّي في «المسجد الأقصى»، تحديدًا «المصلّى القبليّ»، يستطيع أن يلحظ حكمة البناء الهندسيّ والزخرفة الفنّيّة في التحكّم بمدى أشعّة الشمس واللون داخل مباني ومصلّيات المسجد المختلفة...

الزائر أو المصلّي في «المسجد الأقصى»، تحديدًا «المصلّى القبليّ»، يستطيع أن يلحظ حكمة البناء الهندسيّ والزخرفة الفنّيّة في التحكّم بمدى أشعّة الشمس واللون داخل مباني ومصلّيات المسجد المختلفة، بحيث تجيز دخولًا معتدلًا يضيء المكان، دون أن يسبّب رفع درجة حرارته، وهو أيضًا يتيح بساعات المساء دخولًا طفيفًا لضوء القمر.

وفّرت الزخرفة في العمارة الإسلاميّة ونوافذها مدخلًا للفنّ والإبداع ومتعة للرائي؛ إذ تتحوّل الألوان على الشبابيك، بأشكالها العديدة، من عقود أو مشربيّات وغيرها، إلى معارض فنّيّة معلّقة، تترك لدى المصلّين والزائرين راحة نفسيّة، من خلال تجربة بصريّة دائمة؛ محدِثةً تواصلًا فنّيًّا ممتدًّا عميقًا في تاريخ الفنّ المعماريّ للحضارة الإسلاميّة، ومختلف الثقافات المشرقيّة الّتي أثّرت في مدارس الفنّ الإسلاميّ.

 

الحماية

النوافذ المنتشرة في المساحات المختلفة «للمصلّى القبليّ»، الّتي عرفت بصمات فنّيّة مختلفة، بداية بالأمويّة وصولًا إلى العثمانيّة، أصبحت في حاضرنا وليدة إبداع وجهد فنّيّ مقدسيّ، حيث يعكف فنّانون حرفيّون مقدسيّون، منذ حريق «الأقصى» العدوانيّ عام 1969، على تصميم وبناء يدويّ دقيق لكلّ تفاصيل الشبابيك وأشكالها، بما في ذلك الحفر بالجصّ وتلوين الزجاج الخاصّ. ويستغرق تصميم النافذة الواحدة بين ستّة أشهر وسنة. نذكر من الفنّانين المعروفين في المجال عدنان تفكجي وعلاء المحتسب.

ليس جديدًا أو غريبًا أن تُجَدَّد النوافذ وتُغَيَّر، بل هذا إجراء مطلوب ويتحتّم فعله، ضمن أعمال الصيانة الّتي تشمل الترميم أو التغيير، مع الحفاظ على الشكل والأصل، والإبقاء على الروح والفكرة والفلسفة للنوافذ في الظروف الاعتياديّة. لكنّ الغريب في حالتنا الفلسطينيّة أن تحيط بهذه التحف الفنّيّة هراوات وأدوات شرطيّة وقنابل، وتخرّبها. تفعل ذلك ببساطة مرعبة وبلمح البصر، دون اكتراث للقيمة العمرانيّة الاستثنائيّة ومكانتها في الإرث الإسلاميّ والإنسانيّ العالميّ.

هذا الواقع يطرح تحدّيات لتجنيب هذا الفنّ الاعتداءات المتكرّرة، إلى جانب ضمان آفاق تواصل وتمدّد هذه المدرسة الفنّيّة المقدسيّة، الّتي تُعْنى بهذه النوافذ الزخرفيّة...

هذا الواقع يطرح تحدّيات لتجنيب هذا الفنّ الاعتداءات المتكرّرة، إلى جانب ضمان آفاق تواصل وتمدّد هذه المدرسة الفنّيّة المقدسيّة، الّتي تُعْنى بهذه النوافذ الزخرفيّة؛ للحفاظ على استمراريّتها أمام موجات الحداثة الّتي قد تسبّب اندثار هذا النوع من الفنّ.

مهمّة أخرى لا تقلّ أهمّيّة، تكمن في فتح باب المعرفة وتوسيعه وإتاحته للناس؛ للتعريف بالفنون الاستثنائيّة العديدة داخل «المسجد الأقصى» بمنشآته المختلفة. هذا الباب من الإرشاد المعرفيّ ما زال شبه مقفل، وإقفاله أو تحديده يساهم في بناء هويّة معرفيّة حضاريّة ثقافيّة محدودة تجاه المكان.

 


 

فايد بدارنة

 

 

 باحث وكاتب. حاصل على البكالوريوس في علم الاجتماع والأنثربولوجيا والعلوم السياسيّة، والماجستير في مجال السياسات العامّة من الجامعة العبريّة في القدس، كما يحمل شهادة في الدراسات الثقافيّة. يبحث في مرحلة الدكتوراه المجتمع المدنيّ وبلورة الهويّة الوطنيّة.