البرتقال في الصورة الفلسطينيّة... التمثيل والدلالة

تعليب البرتقال في ورشة عمل عائليّة عام 1907

 

تظهر ’هويّة المدينة‘ في معالمها، ومكوّناتها، ونشاطاتها الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة، وفي قدرتها على استيعاب ’الآخرين‘، وتفاعلهم في شوارعها وأحيائها ومراكزها، ومناظرها الطبيعيّة، ومزارعها ... إلخ، ومن ثمّ تنشأ ما أطلق عليه هنري لوفيفر في كتابه «الحقّ في المدينة» (1968) ’فلسفة المدينة‘، الّتي تتجلّى في "العلاقة بين سكّانها، وأشجارها، وهوائها، وحتّى شمسها"[1]، وهي الفلسفة الهويّاتيّة الحاضرة في المدينة الفلسطينيّة عامّة والساحليّة خاصّة.

تُعتبر مدينة يافا من المدن النموذجيّة على ذلك؛ فيافا، المدينة الساحليّة الجميلة الّتي تشتهر ببيّارات البرتقال، عبارة عن مدينة رمزيّة تتضمّن تراثًا ثقافيًّا معماريًّا جغرافيًّا مهمًّا يوثّق البُعد التاريخيّ والسياسيّ والطبيعيّ للمدينة. فالسرديّة التاريخيّة المتعلّقة بيافا تتضمّن مشاهد المدينة الساحليّة الّتي شهدت حركة تجاريّة مثاليّة نهاية القرن التاسع عشر، والعقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين. فقد اشتهرت يافا بزراعة البرتقال والتجارة فيه وبيعه إلى دول مختلفة، ما جعل اسم المدينة مقترنًا ببرتقالها. لكن، وبعد النكبة، تحوّل البرتقال من ثمرة تجاريّة توثّق الحركة التجاريّة الّتي عاشتها المدينة، إلى ثمرة دلاليّة، رمزيّة، وإشاريّة لتمثيل ما حدث من تطهير عرقيّ للفلسطينيّين على يد العصابات الصهيونيّة، ليس في يافا فحسب، بل في فلسطين كلّها، وتأتي هذه الورقة لتفسير معالم ذلك التمثيل وتجلّياته في الصورة الفنّيّة الفلسطينيّة.

 

الصورة لاستعادة الماضي

تعني الصورة، وفق المعنى اليونانيّ للكلمة، ’المحاكاة‘، أي تقليد الأصل وتصوّره إمّا على طبيعته كما في الصور الفوتوغرافيّة، وإمّا برسمه وتقريبه إلى المتلقّي كما في اللوحات التشكيليّة. فالأولى ’أثر‘ مباشر وتصوير طبيعيّ للشيء، والثانية، أي اللوحة، فعبارة عن ’عرض تفسيريّ‘ لشيء ما[2]، إلّا أنّ كلتا الصورتين فنّ، على اعتبار أنّهما نابعتان من إدراك المصوّر أو الفنّان ومشاعره وأحاسيسه. يتحدّث و. ج. ت. ميتشل في كتابه «الأيقونولوجيا: الصورة والنصّ والأيديولوجيا» (1986)، عن الصورة بثلاثة معانٍ: الصورة الذهنيّة، والصورة اللفظيّة، والصورة المرئيّة[3]. تتميّز كلّ صورة عن الأخرى بتقنيّات تمثيلها للزمن بأنواعه؛ فالصورة الذهنيّة هي الصورة الإدراكيّة للشيء الموجود في أذهاننا، فالسيّارة شيء صورتها الذهنيّة مركبة مصنوعة من الحديد لها أربع عجلات... إلخ. في حين أنّ الصورة اللفظيّة هي الصورة المتجسّدة في "الاستعارات والألفاظ الّتي نتحدّث بها"، وهي "الصورة الشعريّة" أو "الصورة البلاغيّة" في النصّ الأدبيّ. أمّا الصورة المرئيّة، فهي اللوحات التشكيليّة والصور الفوتوغرافيّة، والمشاهد السينمائيّة والدراميّة أيضًا، وتمزج هذه الأخيرة بين الصورتين اللفظيّة والمرئيّة، على اعتبار أنّ المشهد التمثيليّ، بأنواعه، مشهد استعاريّ يوثّق المعنى من خلال تلفّظ الشخصيّات وحركاتها التمثيليّة.

إنّ التعثّر الزمنيّ الّذي لحق ببيّارات برتقال يافا، وجعلها ثمرة منكوبة مثل مصير أصحابها بعد عام 1948، جعلها أيقونة دلاليّة ترمز إلى ’الوجود‘ و’الثبات‘ تارة، وإلى ’المنفى‘ و’الحنين‘ و’استعارة الماضي‘ و’الهويّة‘ تارة أخرى، لتكون بذلك ’ذاكرة‘ الاستلهام الحقيقيّ للمبدع الفلسطينيّ الّذي أعاد تمثيلها في إبداعه وجعلها مكوّنًا مركزيًّا من مكوّنات السرديّة الفنّيّة لحكاية المدينة الفلسطينيّة الساحليّة، ولفلسطين كلّها. لذلك، فإنّ "الحضور الّذي يُشكّل قوام تمثيل الماضي يبدو أنّه حضور صورة؛ فنحن نقول بلا تمييز بأنّنا نتمثّل حدثًا ماضيًا أو أنّنا نتصوّره"[4]؛ أي نتمثّله كما كان بطريقتنا؛ بهدف الحفاظ على ذلك الماضي، وندلّل على أهمّيّته في تكوين ’وجودنا‘، ودوره في تعزيز ’ذواتنا‘.

 

 الصورة في الشعر

 

تنقسم صورة البرتقال الفنّيّة في مخيال الفلسطينيّين، استنادًا إلى ما تحدّث عنه ميتشل، إلى ثلاثة صور، وهي، أوّلًا: الصورة الذهنيّة؛ وأقصد هنا صورة البرتقال في مخيّلة الفلسطينيّ، وهي الصورة المجزّأة إلى أجزاء عدّة: البرتقال الّذي ينتمي إلى الحمضيّات، والّذي يُباع ويشترى في الأسواق، والبرتقال المقترن بمدينة يافا الّذي يشكّل سرديّة الاقتصاد الفلسطينيّ اليافاويّ قبل النكبة. ونقرأ هذه السرديّة في كتب التاريخ، وستتكوّن من تلك الصورتين الصور اللفظيّة والمرئيّة أيضًا، كما سنرى.

 

البرتقال قبل النكبة 

 

ثانيًا: الصورة اللفظيّة، وهي الصورة الاستعاريّة، البلاغيّة، الّتي مثّلت مفردة البرتقال، ونقلتها من المعنى المجرّد المتداول إلى المعنى الرمزيّ المحمّل بالدلالات الّتي تصوّر حال فلسطين. تمثّلت هذه الصورة في عدد من قصائد الشعراء الفلسطينيّين، أشهرها قصيدة «عاشق من فلسطين» (1966) لمحمود درويش، الّذي تحدّث فيها عن البرتقال بحديثه عن ميناء المدينة، متتبّعًا رحلة الفتاة المجهولة الّتي تستعدّ للسفر عبر الميناء الّذي يعدّ الجزء الأوّل لهويّة المدينة الساحليّة، ليكون ذلك المكان الفضاء الفاعل والمُنتج للتعبيرات الرمزيّة الأخرى في القصيدة، والحديث عن بيّارات البرتقال الخضراء وهي الجزء الثاني لهويّة المدينة؛ ليشكّل درويش من هاتين الهويّتين صورة موجزة للبرتقال اليافاويّ الّذي يحبّه، ويكره الميناء الّذي وقف عليه وعبّر من خلاله عن أنّ قشر هذا البرتقال ’لنا‘ نحن دون غيرنا، يقول درويش:

 

لماذا تُسحبُ البيّارة الخضراءْ

إلى سجن، إلى منفى، إلى ميناءْ

وتبقى، رغم رحلتها

ورغم روائح الأملاح والأشواق،

تبقى دائمًا خضراء؟

وأكتبُ في مفكّرتي:

أُحبُّ البرتقال. وأكره الميناءْ

وأردف في مفكّرتي:

على الميناءْ

وقفتُ. وكانت الدنيا عيون شتاءْ

وقشر البرتقال لنا. وخلفي كانت الصحراءْ[5].

 

إنّ استعارة البيّارة، وأنسنتها، صورة بلاغيّة يُراد بها الفلسطينيّ المفعم بشبابه، الّذي حُدّد مصيره بعد النكبة إمّا بالسجن وإمّا النفي، وما روائح الأملاح المجبولة بروائح الاشتياق الدالّ على البُعد إلّا تعزيز للاستعارة القبليّة الّتي تؤكّد سوداويّة الحياة بعد الطرد. لكن، ورغم ذلك كلّه تبقى تلك البيّارة نضرة، خضراء، توثّق معاني الصمود وتحمّل الصعاب. أمّا ’حبّ‘ البرتقال فدليل على أنّه أيقونة الوجود، و’كره‘ الميناء إشارة إلى أنّه فضاء الراحلين الّذين يدوسونه لمغادرة الوطن إلى الأبد ربّما، ولذلك؛ فإنّ فعلَي الحبّ والكره يدلّان على التمسّك بالأرض والنفي منها، لتتشكّل في هذه الأسطر الصورة اللفظيّة للبرتقال، باعتباره أحد مكوّنات البناء الاستعاريّ لوجود الفلسطينيّ على أرضه.

 

 الصورة في الرواية

تشكّلت الصورة اللفظيّة للبرتقال أيضًا في قصّة «أرض البرتقال الحزين» (1958) لغسّان كنفاني، وهي قصّة استدلاليّة على ثنائيّة: البرتقال/ الذاكرة. فسرد تهجير العائلة الفلسطينيّة تضمّن وقفات وصفيّة لأهمّيّة البرتقال في مخيّلة الفلسطينيّ المهاجر؛ فهو مكوّن استذكاريّ يمثّل الحنين إلى الأرض الّتي سيهجَّرون منها إلى الأبد. مَنْ يتتبّع البنى الوصفيّة لعلاقة الشخصيّات المتخيّلة بالبرتقال، يرى أنّها علاقة تلاحميّة قائمة على الصمت والسكون والتأمّل والحسرة. وقد اقترنت صورة البرتقال في هذه القصّة بفلسطين، وهو المعنى الّذي أشرت إليه سابقًا، فالعودة إلى فلسطين بالنسبة إلى بعض شخصيّات القصّة هي العودة إلى بيّارات البرتقال والعمل فيها والحفاظ عليها. تقول إحدى الشخصيّات: "ثمّ طلبت أمّك من أبيك أن يبحث عن عمل ما، أو فلنرجع إلى البرتقال... "[6]، إلّا أنّ هذا البرتقال ذبل وأصبح جافًّا يابسًا؛ لأنّ يدًا غريبة ستلمسه، والبرتقال بطبيعته يذبل إذا تغيّرت اليد الّتي تتعهّد برعايته، كما تقول إحدى الشخصيّات.

 

البرتقال في الصورة الفوتوغرافيّة

ثالثًا: الصورة المرئيّة. قد مُثّلت هذه الصورة البرتقال بثلاثة أشكال، وهي، البرتقال في الصورة الفوتوغرافيّة، والبرتقال في اللوحات التشكيليّة، والبرتقال في المشاهد الدراميّة، وفي كلّ صورة من هذه ’دلالة‘ تفسّر المعنى ’الماورائيّ‘ لهذه الثمرة الرمزيّة.

تُعرّف الصورة الفوتوغرافيّة بأنّها من عناصر الحفاظ على الذاكرة الجمعيّة للإنسان، فهي ’تمثيل واقعيّ‘ غير متخيّل، تُلتقط لتُجمّع ذكريات خاصّة أو عامّة، تؤصّل لحدث سيصبح بعد توثيقه صوريًّا، تاريخًا حيًّا وممثّلًا دلاليًّا عليه. حظي برتقال يافا بتمثيله بصور واقعيّة توثّق المشهد الاقتصاديّ والحياتيّ لمدينة يافا، حيث نرى القوارب المحمّلة بصناديق البرتقال وهي مصطفّة في الميناء استعدادًا لسفرها إلى دول العالم، وهي صورة انعكاسيّة للحركة التجاريّة النشطة الّتي عاشتها يافا قبل النكبة، كما نرى صورًا كثيرة للبرتقال الملاصق للشخصيّات الّتي تعمل فيه، وتبيعه، وكأنّ ’جسد الفلسطينيّ‘ مقترن به وبوجوده، فكلاهما يوثّق للآخر حكاية الوطن.

إنّ التقاطنا للصور في الأماكن الّتي نحبّها أو نزورها فعل فنّيّ متأصّل داخلنا، للاحتفاظ بذاكرة ذلك المكان وخلق هويّة خاصّة به في مخيّلتنا. كما أنّ فعل الالتقاط فعل إشاريّ لما نشعر به في الصور الّتي التقطها، قام به، ربّما، رحّالة أو هواة فلسطينيّون للتصوير في ذلك الزمن، كتصوير فعليّ لتمثيل الواقع والاهتمام بأشجار البرتقال وجمال بيّاراته الّتي كانت تُعتبر جزءًا من البناء الهويّاتيّ للمدينة الساحليّة الفلسطينيّة، والعنصر الجماليّ الطبيعيّ فيها. لذلك، وبعد تأمّل الصور الفوتوغرافيّة الّتي التُقطت للعمّال الّذين يقطفون ثمار البرتقال، وللأماكن الجميلة الشاسعة للبيّارات، وللميناء، وللسوق، وجدنا أنّها جميعًا عبارة عن صور تراتبيّة وصفيّة تحكي لنا من خلال وجوه الشخصيّات والأماكن حكاية مدينة بأكملها.

 

البرتقال في الفنّ التشكيليّ الفلسطينيّ

بعد النكبة، وسقوط المدن الساحليّة الكبرى في يد العصابات الصهيونيّة، تولّد الحنين عند الفنّان الفلسطينيّ لـ ’استعادة‘ ماضي تلك المدن، وتَعرُّف جماليّاتها من خلال ’تصوير‘ هويّتها المتمثّلة في معمارها وأشجارها وأناسها وشوارعها... إلخ. ويُعتبر برتقال يافا من عناصر التكوين التمثيليّ في المشهد التشكيليّ الفلسطينيّ منذ النصف الثاني من القرن العشرين حتّى يومنا هذا، ووُظّف البرتقال في ذلك المشهد باقترانه بالشخصيّة والمكان الفلسطينيّين، حيث اللباس الشعبيّ وعناصر التراث الثقافيّ الأخرى الّتي تؤطّر ’الوجود الفعليّ‘ للفلسطينيّ على تلك الأرض.

من الفنّانين الّذين اهتمّوا بتمثيل البرتقال، سليمان منصور، الّذي جعل من شجرة البرتقال وثمارها وأغصانها ’رمزًا‘ إشاريًّا إلى فلسطين، حيث ’استعاد‘ أهمّيّة تلك الشجرة في السرديّة التاريخيّة الفلسطينيّة، وبنى عليها رؤيته لتصوير الواقع الفلسطينيّ الآنيّ. وبتتبّع شكل التمثيل لهذه الشجرة، وجدت أنّ سليمان منصور مثّلها في شكلين.

 

برتقال يافا | سليمان منصور

 

أوّلًا، استذكار الماضي؛ حيث جعل منصور من شجرة البرتقال ’أيقونة‘ التعبير عن ماضي الساحل الفلسطينيّ، وتجسّد ذلك في اللوحات الّتي مثّل فيها الفنّان الفلسطينيّ ’موسم قطاف ثمار البرتقال‘، وقد تكرّر هذا المشهد التشكيليّ في غير لوحة من لوحاته، ويهدف الفنّان من ذلك إلى ’استذكار الماضي‘ وإعادة إحيائه في الذاكرة الجمعيّة الآنيّة الفلسطينيّة. تميّزت لوحات هذه المجموعة بألوانها الساطعة، وتمثيلها التقريبيّ، ورسم ملامح شخصيّاتها، الّتي ظهر عليها الجدّ والتعب والفرح في آن، واللافت أنّ كلّ اللوحات الّتي مثّلت هذا الاستذكار تضمّنت ’القرب الجسديّ‘ للشخصيّات من شجرة البرتقال، وقصديّة تمثيل اللباس الشعبيّ الفلسطينيّ، ليُجمّع منصور من ذلك كلّه صورة تركيبيّة دلاليّة لا ترمز إلى المدينة الساحليّة الفلسطينيّة فحسب، بل إلى فلسطين كلّها. ونجد هذا المعنى في لوحات رينا ناجي، الّتي مثّلت انعكاس البرتقال في تكوين ’الحياة الاجتماعيّة اليافاويّة‘.

ثانيًا، البرتقال في مفهوم سليمان منصور هو المكوّن الدفاعيّ عن تراث الأجداد، والخوذة الّتي يحتمي به أجدادنا وهم ينظرون إلى مستقبل أبنائهم، والمصير الّذي يعيشونه، ويتمثّل هذا في هذه اللوحة:

 

سليمان منصور

 

جعل منصور من اللوحة لوحة تعاقبيّة للأجيال الفلسطينيّة، فيجعل من جسد الجدّين الأوّلين صورة شفّافة تُظهر "الأرض الفلسطينيّة بزيتونها" وقبّة الصخرة على جسد الرجل، ومقتنيات التراث الفلسطينيّ على جسد المرأة، وفوقهما غصن شجرة برتقال مثمر وكأنّه خوذة حماية لرأسيهما، يحميهما من أيّ أذًى قد يلحق بهما؛ لتتعاقب الشخصيّات وتظهر امرأتان مكبّلتان في السجن، ويليهما شبّان وامرأة تسعف جريحًا، ويختم هذا المشهد بتمثيل شابّين - رجل وامرأة - يحملان العلم الفلسطينيّ في إشارة إلى ’تعاقبيّة‘ الأجيال، وحمل العلم المتوارث جيلًا بعد جيل والرسوخ في الأرض. وما اختيار البرتقال إلّا تعزيز لأهمّيّته في الفكر الفلسطينيّ، باعتباره المكوّن الفعليّ للتعبير عن وجوديّة الأنا الفلسطينيّة.

ارتبط البرتقال في مخيّلة بعض الفنّانين بالفرح والأمل والبُشرى، فنجد إسماعيل شموط قد اتّخذ من البرتقال معلمًا رئيسيًّا من معالم تكوين الفرح الفلسطينيّ، ويتجلّى ذلك في وجوه الشخصيّات المستعارة الّتي قرّب لنا وجوهها؛ ليفسّر لنا مظاهر السعادة على محيّاها، وفعل ’تقريب الشخصيّات‘ وأفعالها شائع في الفنّ العالميّ كلّه، ويهدف إلى جعلنا نحكّم رأينا في تلك الشخصيّات إن كنّا "سنحبّها أو نكرهها"، كما يقول الناقد إرنست غومبرتش[7]. أرى أنّ اقتران فعل الفرح، المتجسّد بالابتسامة أو الرقص في ظلال شجر البرتقال، يهدف إلى توطيد ثنائيّة الإنسان وأرضه، الإنسان وشجرته الّتي ترمز إلى تراثه وثقافته. لذلك، أضفى شموط على لوحاته اللباس الشعبيّ الفلسطينيّ أيضًا، حتّى يُكمل المشهد التشكيليّ برمزيّته المطلقة، المتجسّدة في تمثيل الهويّة الفلسطينيّة.

 

إسماعيل شمّوط

 

أمّا الفنّانة المقدسيّة إحسان القواسمي فمثّلت حالة الفرح تلك، ولكن بمشهد مغاير، إذ رسمت امرأة ترتدي فستان فرح، تُدير ظهرها وتسير تجاه البحر محاطة، وبشكل دائريّ، بالأسماك وأغصان شجر البرتقال وعدد من الثمار في مشهد سرياليّ تستعيد من خلاله الفنّانة قيمة المدينة الساحليّة، وأهمّيّتها في رسم معالم الفرح على الفلسطينيّين.

 

إحسان القواسمي

 

في المقابل، قرن بعض الفنّانين البرتقال بالحزن واليأس وخيبة الأمل، ومن أشهرهم الفنّان عبد العزيز إبراهيم الّذي اشتهر بلوحته العالميّة «البرتقال المرّ»، الّتي أصبحت ملصقًا رائجًا في فلسطين وغيرها. تتكوّن لوحة «البرتقال المرّ» من ثلاثة عناصر هي السلك الشائك، واليد المجروحة الممتدّة عليه، وحبّة برتقال سقط عليها دم اليد النازفة، ويتوسّطها ظلّ محاط بلون أزرق غامق غير مريح، واستحضار السواد المظلّل والدم والأسلاك الشائكة، والبرتقالة الساقطة الملطّخة بالدم، كلّها مشاهد تعبيريّة لوصف الألم الفلسطينيّ، لكن لماذا البرتقال دون غيره؟ لأنّ البرتقال، كما أشرت سابقًا، مكوّن هويّاتيّ لفلسطين كلّها، فالدم النازف عليها هو دم كلّ فلسطينيّ استشهد أو جرح. كما ظهرت السوداويّة نفسها في لوحة أخرى من لوحات عبد العزيز إبراهيم، في صورة امرأة فلسطينيّة تحتضن البرتقال وهي مغمضة العينين، في مشهد عاطفيّ يولّد إحساسًا عميقًا بالمشهد الحزين الّذي يدلّل على معنيين اثنين: حالة الفقد الّتي عاشتها المرأة والحفاظ على رمزيّتها، وما يتعلّق بأرضها ووطنها.

 

رائد قطناني

 

ثمّة مشهد قريب من السابق في لوحة الفنّان محمّد الشريف، الّذي صوّر امرأة تحمل صحنًا مليئًا بحبّات البرتقال، ولغة وجهها تشير إلى حزنها وكآبتها. الملاحظ أنّ الجامع المشترك بين لوحتَي عبد العزيز إبراهيم والشريف "تمثيل المرأة الفلسطينيّة بثوبها المُطرّز"، وهي السمة المشتركة بين الفنّانين جميعهم، وذلك يدلّل على ارتباط البرتقال بتعزيز ذلك التراث، بل إنّ فكرة استحضارهما الدائم والمتكرّر معًا إشارة إلى أنّهما من مكوّنات الهويّة الثقافيّة الفلسطينيّة.

أمّا الفنّان رائد القطناني فعزّز تلك الهويّة بجعل ثمرة البرتقال ملازمة للشخصيّات الرئيسيّة في لوحاته، بل بجعلها الأكثر بروزًا فيها من خلال سطوع لونها المميّز. ظهرت البرتقالة في لوحاته في عدّة مظاهر تشكيليّة، منها تزيين وجه امرأة فلسطينيّة عجوز، حيث وضع الفنّان البرتقال أمامها وقصد إبراز لونها على حساب اللون الأبيض الرماديّ المنتشر في اللوحة كلّها، ما أضفى على لوحته جمالًا ظاهرًا بين اللونين، ودلالة تعبيريّة على معنى البرتقال واقترانه بالشخصيّة الفلسطينيّة. كما شخّص القطناني أيضًا صورة فلسطينيّ بحّار يجرّ قاربه إلى الشاطئ، حاملًا في يده حبّة برتقال لونها بارز أيضًا في اللوحة كلّها، في قصديّة واضحة إلى أهمّيّة هذه الثمرة في مخيّلة أبناء الساحل الفلسطينيّ.

 

 


إحالات

[1] Lefebvre, Henri, El derecho a la ciudad, Cuarta edición, Barcelona: Ediciones península, 1978, P.60 

[2] سوزان سونتاج، حول الفوتوغراف، ترجمة: عبّاس المفرجي، بيروت: دار المدى للثقافة والنشر، 2013م، ص176.

[3] و.ج.ت ميتشل، الأيقونولوجيا: الصورة والنصّ والأيديولوجيا، ترجمة: عارف حذيفة (البحرين: هيئة البحرين للثقافة والآثار، 2020)، ص27.

[4] بول ريكور، الذاكرة، والتاريخ، والنسيان، ترجمة: جورج زيناتي (بيروت: دار الكتاب الجديد المتّحدة، 2009)، ص33.

[5] محمود درويش، الأعمال الكاملة، الجزء الأوّل (بيروت: دار رياض الريّس، 2005)، ص89.

[6] غسّان كنفاني، أرض البرتقال الحزين، ط4 (بيروت: مؤسّسة الأبحاث العربيّة، 1987)، ص77.

[7] إرنست غومبرتش، قصّة الفنّ، ترجمة: عارف حذيفة (البحرين: هيئة البحرين للثقافة والآثار، 2016)، ص23.

 


 

حسني مليطات

 

 

 

أكاديميّ ومترجم فلسطينيّ، حاصل على الدكتوراه من «جامعة أوتونوما» في مدريد، متخصّص في الأدب المقارن والدراسات الثقافيّة والفنّيّة، يعمل أستاذًا مساعدًا في «الجامعة العربيّة الأمريكيّة» في فلسطين.