فنّ عليّ ق… نزع الكولونياليّة

من أعمال عليّ ق المعروضة في «دارة الفنون» (2023)

 

تسعى هذه المقالة إلى توظيف منهجيّات نزع الكولونياليّة (Decolonization)، أو ’الافتكاك عن الكولونياليّة‘ في الفنون، من خلال تحليل بعض من مجمل أعمال الفنّان السوريّ المقيم في ألمانيا، عليّ ق، بما في ذلك آخر أعماله بعنوان «عرفت المنزل الخالي»، المعروض في «دارة الفنون» في العاصمة الأردنيّة عمّان.

منهجيّات نزع الكولونياليّة هي منهجيّات بحثيّة تهدف إلى تفكيك المباني المعرفيّة الّتي ولّدتها الكولونياليّة، وأشكال العنف المعرفيّ الحداثيّة، والجغرافيا السياسيّة الّتي صاحبت هيمنة المعارف الحداثيّة الغربيّة، وكيف يمكن تفكيكها وإزالة الطمس والنسيان والتشويه الحاصل من خلالها. تأسّست نظريّات نزع الكولونياليّة لغايات مقاومة مجال واسع النطاق للنماذج الغربيّة للبحث والمعرفة وتفكيكه، وما يعنيه هذا من أشكال الهيمنة المعرفيّة والعنف الإبستيميّ، وذلك من موقع السكّان الأصليّين/الأصلانيّين، أو الذوات المستعمرة. وفقًا لطرح ليندا سميث (1999)، في كتابها «Decolonizing Methodologies»، فإنّ ’نزع الاستعمار‘ يُعْنى بـ"فهْم أكثر أهمّيّة للافتراضات والدوافع والقيم الأساسيّة، الّتي تسترشد بها ممارسات البحث" وإنتاج المعارف.

 

نزع الكولونياليّة في الثقافة

بدأ هذا التيّار من البحث من خلال مساهمات لمفكّرين في أمريكا الجنوبيّة والوسطى، بالدرجة الأولى، بمَنْ فيهم والتر ميعنولو، وإنريكي دوسيل، وأنيبال كويجانو، ورامون غروسفوغيل، وليندا سميث، وغيرهم. وامتدّ تيّار المثقّفين في أجزاء مختلفة من إفريقيا، بدءًا من نهاية الحكم الاستعماريّ الرسميّ. ولعلّ مساهمة الروائيّ والمنظِّر الأدبيّ الكينيّ نغوغي وا ثيونغو، وكتابه «إنهاء استعمار العقل» (1986) من عام 1981، أشهر تلك المساهمات في البحث النازع للكولونياليّة.

في هذا الكتاب القصير، يؤكّد نغوغي أنّ "أهمّ مجال للهيمنة الاستعماريّة كان الكون العقليّ للمستعْمِر، والسيطرة من خلال الثقافة، وكيف ينظر الناس إلى أنفسهم وعلاقتهم بالعالم". إنّ المعارف والأشكال الثقافيّة الّتي أسّسها الاستعمار، والحداثة، استهدفت بالأساس إيمان الناس بلغتهم وتراثهم وبيئتهم، وجعلتهم يعتبرون خلفيّتهم الثقافيّة "أرضًا قاحلة من عدم الإنجاز"، وغياب قيم الجماليّة، ويجب تركها. ويدّعي نغوغي أنّ أشكال التعبير الثقافيّ الغربيّ، وطرق المعرفة الغربيّة، أصبحت - ولا تزال - هي المعيار، الّذي يجب أن تُقاس وتُصَنَّف على أساسه جميع التقاليد الأخرى، بما في ذلك معايير الجمال والجماليّة.

في أعمال الفنّان السوريّ، الجزائريّ المولد، الألمانيّ الإقامة، يتداخل العديد من العناصر والتقنيّات، الّتي جعلت من أعماله الفنّيّة، مبنًى تراكميًّا للعلاقة بين الشرق والغرب، وبين أوروبّا والعالم العربيّ، من خلال مجالات ثقافيّة وفكريّة متّسعة. ولعلّ هذا ما وصفه عليّ ق في حوار خاصّ، بشأن تأثير الثقافة الغربيّة فيه وفي أعماله وتقنيّاته المستخدمة، ضمن أفكار أساسيّة مثل الصدمة (Trauma)، والتاريخ، والكتابة، والحداثة، ودور الفنّان، والتجريد، وغير ذلك.

ولعلّ هذا هو الهدف الأساسيّ من هذه المقالة، الّتي تسعى إلى فهم أعمال الفنّان ونقدها وتفكيكها، من خلال عدسة نازعة للكولونياليّة، تؤسّس أطروحتها على تحليل تجربة عليّ ق الفنّيّة، وانتقالاته من مجالات ثقافيّة وفنّيّة عربيّة إلى أوروبّيّة، وموقعيّته التقاطعيّة في عالم الفنّ الحديث والتجريديّ. ومن أدوات المنهجيّة النازعة للكولونياليّة الّتي تتبعها هذه المقالة لتحليل أعمال عليّ ق، الحدّ، والجسد، واللغة، والعمارة/ المدينة، والكتابة.

 

أوّلًا: في الحدّ

في قول منسوب إلى النحويّ العربيّ الذائع الصيت سيبويه، يأتي ما نصّه: "أموت وفي نفسي شيء من حتّى". وقيل إنّ تلك المقولة منسوبة إلى الفرّاء، أحد علماء اللغة، وهو الإمام أبو زكريّا يحيى بن زياد بن عبد الله، مولى بني أسد، المعروف بالفرّاء، وهو لقبه "لأنّه كان يفري الكلام" أي: يُصلحه. لكن ما قصّتها تلك الـ ’حتّى‘؟

’حتّى‘ لها ثلاثة معانٍ؛ الأوّل أن تتكلّم إلى نهاية الشيء، أو أن تتكلّم إلى أن تصل إلى حدود الشيء وتقف، أو أن تتكلّم عن شيء هو الجزء، وتكتفي به عن الكلّ؛ أي أنّ ’حتّى‘ تفيد الحدّ من/ إلى الشيء، هي ترسم لنا أين هو حدّ الشيء، وأين نحن، وفعلنا منه، أثناء فعل الكلام.

تستبطن لنا ’حتّى‘ تلك بصنيعها اللغويّ هذا، فكرة الحدود. لكن كيف ذلك وهي تحمل في طيّاتها عبور الحدّ في فعل إدراكه؟ بمعنى أنّها تقدّم ذلك الشيء حتّى نهايته، والشيء قبل نهايته، والشيء قبل أن يكون. كيف يمكن لكلّ هذا العبور والتغيّر، أن يكون سمة للحدّ أو الحدود؟ فالحدّ يخبرنا عنه جابر بن حيّان في «كتاب الحدود»، يقول: "اعلم أنّ الغرض بالحدّ هو الإحاطة بجوهر المحدود على الحقيقة، حتّى لا يخرج منه ما هو فيه، ولا يدخل إليه ما ليس منه".

ولعلّ ’حتّى‘ هنا هي نموذجنا الشارح لمفهوم الحدود والتفكير الحدّيّ، بوصفها أدوات نازعة للكولونياليّة، وهي أيضًا حاضرة في بعض أعمال عليّ ق الفنّيّة، كما سيتبيّن معنا.

 

سلسلة «صدع» من أعمال عليّ ق المعروضة في «دارة الفنون» (2023)

 

وظّفت الحداثة (Modernism) مفهوم الحدود لبناء ثنائيّاتها الرأسيّة: عقل/ قلب، جسد/ روح، أبيض/ أسود، عقل/ جنون، مستعمِر/ مستعمَر، جميل/ قبيح، داخل/ خارج، عام/ خاصّ، وغير ذلك من ثنائيّات معرفيّة وإدراكيّة، ساهمت في تشكيل تجاربنا الفكريّة والمعرفيّة والجماليّة، بل حتّى الشخصيّة الجسديّة؛ أي أنّ الحدود لها وظيفة "تكوين العالم"، كما يلاحظ إيتيان باليبار، في «حدود العالم، حدود السياسة». بعبارة أخرى، فإنّ الحدود - وبأشكالها الأدائيّة - تحدّد أين ينتهي عالم، وأين يبدأ آخر، وبالتالي أين تتحدّد أمّة، وأين تبدأ أخرى.

بإسقاط تجربة عليّ ق على أعماله، وهو المولود في الجزائر، السوريّ الأصل، الّذي درس الفنون بين بيروت وعمّان، ومن ثَمّ انتقل إلى أوروبّا؛ ألمانيا تحديدًا، يمكننا فهم الحدود بوصفها شكلًا تفاوضيًّا مع الحيّز والإقليم والوجود بالنسبة إلى عليّ؛ فللحدود خاصّيّة مساميّة اختياريّة: إذ يمكن عبورها جسديًّا بجوازات سفر والتصاريح والحركة، وكذلك رمزيًّا من خلال الخطاب والتأويل والتمثيل.

يمكننا تتبّع الحدود في أعمال عليّ ق؛ من خلال استخدامه لتقنيّة الحرق على الورق. وللورق رمزيّة تاريخيّة كبيرة تمتدّ على طول تاريخه، بدأت بالعلاقة بين الورق والتمثيل، أو انتقال الشفاهيّ الصوتيّ الاجتماعيّ أو الفرديّ إلى وسيط، وهو الورق، يمكنه أن يحتفظ به إلى الأبد، من خلال التمثيل على جسد الورقة. وهنا بدأ الورق يلعب لعبة المكان، فكان يكفي لكلمة أو عبارة أو فكرة أو عاطفة، أو غير ذلك، أن تُكْتَب أو تُمَثَّل على الورق؛ لتأخذ شرعيّة التمثيل حجمًا يوازي الفكرة نفسها، فتستحوذ الورقة على الفكرة. ويمكننا التربّص لهذه الفرضيّة من خلال التأمّل في تاريخ حرق الكتب: فلماذا تُحْرَق الكتب، بينما يمكننا أن نكتفي بقتل كاتبها؟ تتكثّف في الورقة والكتابة سلطة خامّ وجبت السيطرة عليها وتدويرها؛ فكانت الدولة. وبالتالي، ارتبطت الكتابة على الورق بالدولة - لنا أن نشير إلى تأثير اختراع الورق في الصين في تحوّلات الدولة، أو الإمبراطوريّة في حينه - بما هي الأساس الفعليّ لها، من حيث فكرة تحويل الإقليم إلى وصف نصّيّ وكتابيّ ومرئيّ.

يقول هيغل: "لا كتابة لا تاريخ، لا دولة لا تاريخ". والورق باعتباره سطحًا ذا بُعدين اثنين، عمل ما عملته الخرائط من استلاب المكان من الشفاهيّ المتعدّد الأبعاد في المجاز والصوت، والتجسيم المتعدّد الأبعاد أيضًا في البناء والتمثيل، إلى بُعدين اثنين أفقيّين للخيال، والتجربة المكانيّة والجسديّة. ومن الجدير بالذكر أنّ الخرائط على الورق هي شاهد على هذا الأمر، من حيث إنّها أداة هيمنة وسلطة.

 

سلسلة «صدع» من أعمال عليّ ق المعروضة في «دارة الفنون» (2023)

 

وفي توضيح للعلاقة بين الورق والفنون البصريّة، يُذْكَر أنّ آرثر أبهام بوب سأل شيخ البنّائين الأصفهانيّين، وأستاذهم، عن التفصيلات المتعلّقة ببناء عقد من الآجر، فبدا الشيخ الأستاذ مرتبكًا متلعثمًا، فأعطيته ورقة وقلم رصاص، فحمل الشيخ الأستاذ الورقة على طول ذراعه. ثمّ ما لبثت دلائل اليأس التامّ أن ظهرت على وجهه... لم يكن أمّيًّا فحسب، بل كان يجهل أيضًا الكيفيّة الّتي يرسم بها مخطّطًا لشكل ثلاثيّ الأبعاد على سطح ذي بُعدين اثنين. وأخيرًا، نحّى الشيخ الأستاذ القلم الرصاص جانبًا، ثمّ طوى الورقة بطريقة معقّدة لإنشاء مجسّم للعقد.

أي أنّ عليًّا بتصنيعه للورق، واستخدامه، وتحديدًا بقسوته وحياديّته تلك - ونعني الورق - الّتي عالجها بالحرق، إنّما يخلق من خلال الحرق حدًّا تأويليًّا بين سطحيّ الورقة؛ ليَظهر صدع أو شقّ في المساحة الورقيّة المطمئنّة لسطوتها وقوّتها التاريخيّة والفنّيّة والمادّيّة. إلّا أنّ الحرق على الورق كأداة، إنّما يأتي بفعل تالٍ على الرسم، فالفنّان التشكيليّ أيضًا تتلبّسه روح شيخ البنّائين الأصفهانيّين بشأن الورق؛ ففي الفنّ التشكيليّ على الورق يُسْتعاد تعدّد الأبعاد مقابل ثنائيّتها في الورق.

الحدود بما هي مفهوم واستعارة وأداة وخطاب، ليست أمرًا مفهومًا ضمنيًّا، بل هي على درجة كبيرة من التعقيد؛ فالحدّ في كثير من النواحي له مكوّن حقيقيّ مادّيّ، وآخر استعاريّ متخيَّل؛ الأوّل يكون التفاوض معه بالجسد المادّيّ، والثاني بالجسد الرمزيّ، وكلاهما يمرّ من اللغة بما هي منظومة فاعليّة مادّيّة - جسديّة، ورمزيّة - استعاريّة.

الحدود هي أيضًا موقع عمل الدولة، أو السلطة، أو المعنى، والحدود ليست ثابتة؛ فهي تتحرّك تاريخيًّا، بعد الحروب أو المعاهدات الدبلوماسيّة. ويلاحظ باليبار أنّه لم تعُد الحدود "قابلة للتوطين بشكل لا لبس فيه". إنّ الحدّ في ما يطرحه ويمثّله عليّ في أعماله إنّما هو حيّز يقوم بذاته، ويعمل على تعريف الطرفين حوله وفصلهما.

 

سلسلة «صدع» من أعمال عليّ ق المعروضة في «دارة الفنون» (2023)

 

تجلب الحدود معها فكرة المناطق الحدّيّة، وكذلك فكرة "المناظر الحدوديّة – Liminal Landscape"، هذه هي المنطقة المحيطة بالحدود والصراعات المختلفة حولها، مثل الحدود بين الدول، الّتي تُعَدّ مصدرًا مثمرًا للتفكير في الأراضي الحدوديّة، والحدود، بوصفها مواقع للتفكير.

يُعْتبَر النظر من ’الحدّ‘ موقعًا أساسيًّا لتفكيك أشكال الفكر المهيمنة، في نظريّات نزع الكولونياليّة، وهو ما يجادل به والتر ميغنولو باسم «التفكير الحدّيّ - Border Thinking»؛ شكلًا من أشكال التفكير المعطّل والمقاوم لأشكال الفكر المهيمنة وأنماطه، مستمدًّا من مفهوم فوكو للمعارف الخاضعة (Subjugated Knowledges)، وعمل علماء مثل دارسي ريبيرو وإدوارد غليسانت وعبد الكبير الخطيبي وغيرهم، بشأن موضوعة أشكال المعرفة ما بعد الاستعماريّة والحداثيّة. يوظّف التفكير الحدّيّ ’مفاهيم ثنائيّة التفرّع‘ (Dichotomous Concepts)، ويستخدم التفكير الحدوديّ جوانب الفكر المهيمن وغير المهيمن من أجل التغلّب على كليهما. وهو يعترف بالتغيّرات العميقة الّتي أحدثتها العولمة والاستعمار على المجتمعات، لكنّه يرفض الخضوع لمنطق الهيمنة باعتباره الشكل الوحيد للعلاقة الفكريّة والمعرفيّة بين الطرفين.

إنّ ما يقدّمه عليّ ق في أعماله عامّة بشأن الحدود، من خلال تقنيّة الحرق والورق، هو ما قدّمه الشاطبيّ بشأن كلمة ’حتّى‘، حين قال إنّ "الكلمات لا عمل لها بل هو اتّساع في الكلام، وقد نسبوا العمل إليها [ويعني "حتّى"] اتّساعًا".

 

الجسد والألم

في الحواريّة الّتي صاحبت افتتاح معرض عليّ ق في «دارة الفنون»، سُئِل عن الصدمة (Trauma)، وأجاب أنّ أعماله لا تشير بالدرجة الأولى إلى الصدمة بمعنى (Trauma)، مع وعيه أنّ مبنى مفهوم الصدمة في الثقافات يختلف. وبالتالي، فإنّ التعبير عنه يختلف، وبالذات بين الثقافتين العربيّة والغربيّة، حيث حملت الأخيرة، كما يقول عليّ، إرث صدمة حربين عالميّتين، وهو واعٍ تمامًا لتحوّلات مفهوم الصدمة – بهذا المعنى - في الغرب، وتحوّلاته وانتقالاته بين علم النفس والفلسفة والفكر والتاريخ، إلّا أنّه أيضًا ذاكرة لشعوب ذاك الجزء من العالم ومخياله.

غير أنّ الناظر إلى أعمال عليّ ق، وبالذات في تجربة مباشرة وحيّة تقع على الجلد، لا يمكنه أن يتعامى عن حجم الصدمة في أعماله، وهنا يندمج معنًى جديد في الصدمة (Trauma)، وهي الصدمة بمعنى (Chock)، خاصّة لدى تأمّل تقنيّة الحرق وتداعياتها، بكلّ ما ترمز إليه في المخيال والذاكرة الإنسانيّة من ثقل.

 لذا، نقترح ’براديغم - نموذج‘ آخر لفهم الصدمة على تشكيلاتها، في أعمال عليّ ق، وهو: الألم، وهو ’براديغم‘ مركّب ولا يزال غضًّا، مع تعدّد مظاهر الألم في عصرنا.

 يقول جان جاك لوسركل في كتابه «عنف اللغة» بأنّ "ثمّة رابطة طبيعيّة تسلسليّة بين القراءة والكتابة والفعل والتدمير"؛ أي أنّ قراءة نصّ ما، والبصريّ نصّ، والحرق على الورق لغة هذا النصّ إنّما تستلزم تدميرًا ما ليُكْتَب من خلال اللغة، "والتدمير المذكور هو في الوقت ذاته مصدر ألم ومصدر معافاة، إنّه علاج مؤلم، كما هي اللغة نفسها، الّتي هي نظيرته، فاللغة أيضًا تفعل وتدمّر، للأفضل وللأسوأ". أي أنّ كلّ أدوات الترميز والتجريد وتقنيّاتهما الفنّيّة، بقدر ما تحدث في النصّ البصريّ، فهي تحدث أيضًا في أدواتها نفسها؛ فالعنف الفنّيّ هنا ينشأ بالخلط بين ما هو ’تجريديّ‘ وما هو ’مادّيّ‘، في النار والورق. لا عجب، إذن، في أن يتأثّر عليّ بقصيدة «صندوق الألم»، للشاعر السوريّ جولان حاجي، ويربطها على مستوى التجريد والإدراك بعدد من أعماله الفنّيّة.

يُعْتبَر "الألم" عنصرًا مؤسّسًا في تشكيل تجاربنا الذاتيّة في العالم، وذلك من خلال مركزيّة إدراكيّة، لا انفصال فيها، بين الماديّ – الجسد، والمحسوس – الألم. وكذلك باعتبار الألم تجربة وجوديّة ترسم حدود الأنا والآخر، بما في ذلك من منظومات تعبيريّة تبني المعاني، وفي أساسها اللغة، تجعل منه – الألم - حدثًا اجتماعيًّا، مشتقًّا من اجتماعيّة اللغة، فنحن نتّفق على ألفاظ الألم وتعابيره، لكنّنا لا نتّفق على مضمون تلك التعابير وحمولاتها ومقدار ما تعكسه من ذاتيّة تجربة الألم. ثمّ إنّ الألم حادث ثقافيّ بقدر ما هو أيضًا فرديّ فهو جماعيّ، فمن خلال الألم كحالة لاذاتيّة (Objectlessness) ؛ أي أنّ الألم لا يُعْرَف إلّا بذاته فقط، إلّا أنّ الألم يحقّق للذوات المتألمة تجسيدًا لها (Self-Objectification)، تجعل من كلّ تجربة الألم - وليس الألم في ذاته - فريدة ووحيدة في ذاتيّة المتألّم، وهي جزء أساسيّ من تكوينه الاجتماعيّ.

إنّ إشارة عليّ ق إلى الحرق أثناء العمل على الأعمال الفنّيّة، باعتباره هو العمل الفنّيّ ذاته، إنّما يضيء على فكرة أنّ الحرق كيان لاذاتيّ (Objectlessness)، وأنّ التجربة الفنّيّة في ذاتها هي الّتي تمنح العمل فرادته وتميّزه المتحقّق ذاتيًّا (Self – Objectification). الأمر ينطبق تمامًا على فكرة الألم الجسديّ، ولهذا السبب؛ رأى كثيرون من المتلقّين لأعمال عليّ عن الحرق درجة من الألم والصدمة، لم يُرد أن يقرّ بها هو إلّا من خلال العدسة الثقافيّة بين غرب وشرق.

إنّ عليًّا بتعامله مع الحرق والورق، إنّما يفاوض ويؤوّل تاريخ الفنّ في منظوره الغربيّ، فاستبداله للقماش المشدود بالورق، إنّما هو استبدال منهجيّ لجسد تاريخ الفنّ، ووسيط انتقاله إلى العالم، وما صاحب هذا الانتقال من تاريخ كولونياليّ وطبقيّ وجندريّ، قدّم قراءة خطّيّة لتطوّر الفنون ومقولاتها الجماليّة. فقد عمل عليّ على خلخلة كامل تلك المنظومة من خلال الحرق والشقّ والصدع؛ ليمتحن استيعاب تاريخ الفنّ كمنهجيّة ومقولة ومجال لتابع لديه الحقّ في أن يتكلّم وأن يقول، بما يمكنه أن يتعدّى ويتجاوز دور الوسيط.

وعليه؛ يمكننا أن نتجرّأ بالقول إنّ الحدود الّتي قدّمتها أعمال عليّ من خلال الحرق، إنّما هي فكرة الحدود في المنظومة الحداثيّة والاستعماريّة؛ تتّسع وتتغيّر بكلامنا عنها - وهو ما يراه لوسركل بالعنف - أي أنّنا بكلّ ما ’نتكلّمه‘ عنّا وعن أجسادنا وآلامنا وصدماتنا في هذا الجزء من العالم، فإنّ حدودها وحدودنا تتحرّك اتّساعًا أو ضيقًا، في أذهاننا وواقعنا وأجسادنا ومخيالنا. ولكنّنا أقدر على فهم صدماتنا؛ فالحدود الّتي لم تستطع العولمة القضاء عليها، باتت تتحكّم في أجسادنا، وأجسادنا هي أمكنتنا. والمكان حسب الكنديّ هو "نهايات الجسد؛ هو التقاء أفقيِّ المحيط والمحاط به"، لذا؛ يغدو التساؤل ضروريًّا: أين تبدأ أجسادنا؟ وأين تنتهي؟ وأين يبدأ الحدّ؟ وأين ينتهِي؟

 

العمارة والمدينة

في عمله الفنّيّ الخاصّ بمعرض «دارة الفنون»، وهو بعنوان «عرفت المنزل الخالي"»، قدّم عليّ ق مقولته الفنّيّة بشأن عدد من العناصر الفنّيّة والمعماريّة والتاريخيّة والفكريّة، بل حتّى الفلسفيّة. فالعمل المستوحى من «قصير عمرة»، وهو الحمّام الأمويّ المهجور في صحراء الأردنّ الشرقيّة، الّذي بُنِي في القرن السابع أو الثامن؛ ليكون مزارًا وبيت متعة للخليفة الأمويّ، ومحطّة استقبال لضيوفه، كان الثيمة الأساسيّة لعمل ق التركيبيّ.

 

من صالة عرض «دارة الفنون» (2023)

 

في عمل سابق له بعنوان «قصر المشتى»، عُرِضَ في «متحف البيرغامون» في برلين، يستدعي ق الغائب ضمن كثافة مسرحة الحاضر، الكثيف والعمرانيّ، بكلّ ثقله التاريخيّ. (يُنْظَر الصورتان 5، 6) إنّما هو بذلك يلعب على المفارقة بين الحداثة وما بعد الحداثة، أو بتفصيل أدقّ إنّما يفكّك العلاقة بين السطوح والأعماق في ما بعد الحداثة. لفهم ما يفعله عليّ هنا، يلزمنا استدعاء أيٍّ من جداول المقارنة بين الحداثة وما بعدها، كتلك الّتي طرحها ديفيد هارفي أو إيهاب حسن أو غيرهما. حيث تقف الكناية أداة ما بعد حداثيّة بديلًا عن الاستعارة الحداثيّة، ويتحوّل الغياب مركزيًّا مقابل الحضور في الحداثة، والمسافات تغيب لصالح القرب والتشارك.

والقرب هنا يستدعي مقولات مثل المسار، وهو ما يلفت انتباهنا إلى حركة الذهاب والإياب المتواصلة بين الذاتيّ والموضوعيّ، في علاقة تواصليّة بأشكال التعبير والوجود، كما هو الحال في نظرة عليّ من موقعه عربيًّا إلى قصر المشتى، ورحلته من الشرق إلى الغرب. التأويل هنا والرؤية ينبنيانِ على المفارقة المفاهيميّة بين الحداثة وما بعدها، من خلال المفارقة بين الـ(Hypotaxis) ، وهو أن ترتبط المعاني في اللغة في ما بينها في السياق وبتأثير منه، كما في الأدب الحداثيّ، وال (Parataxis)، بما هو عمليّة مرادفة بين المعاني والألفاظ لا تقوم بدفعٍ من السياق، إنّما بالعلاقة بالنصّ والمعنى ككلّ، كما هو الحال في الأدب ما بعد الحداثيّ. وهذه المفارقة إنّما هي لضبط القلق المتضمّن في ما بعد الحداثة، حتّى لو كان غياب المراكز صفة غالبة في هذه الحال.

 

من صالة عرض «دارة الفنون» (2023)

 

فالتركيز ما بعد الحداثيّ على تجاوريّة السطوح أو ’كولاجها‘ يبدو نفيًا للأعماق، وهو ما يبدو في العلاقة بين قصر المشتى وتركيب عليّ أمامه في «البيرغامون». إلّا أنّ استحضار الغائب في تلك العلاقة هو ما يخفّف من تذرّر ما بعد الحداثة، وتسطيحها للظواهر العمرانيّة والمعماريّة.

في «عرفت المنزل الخالي»، يدفع عليّ ق بالتجريد، وهي المقولة الّتي تُوَاجَه بنقد حادّ في العالم العربيّ، لدواعٍ وأسباب عدّة ترتبط بالمركزيّات الثقافيّة، والتيّارات الحداثيّة، والسياسات الفنّيّة، وأخيرًا مقولات الطبقة والعرق واللون والموقع، إلى موقع مختلف، ولعلّه موقع نقديّ على مستوى المقولة والتقنيّة.

فإذا كانت عمارة ما بعد الحداثة توظّف تجاور السطوح المعماريّة، لصالح تجاور أفقيّ للتاريخيّات، فإنّ «عرفت المنزل الخالي» إنّما يؤسّس لنقد تاريخيّ معماريّ لمقولات تاريخيّة متعدّدة ومتداخلة، فهو يوظّف تقليدًا أدبيًّا في الشعر العربيّ وهو الأطلال، وكذلك يتتبّع فلسفة الأرقام في الثقافة والفكر الإسلاميّين، والنصّ القرآنيّ من خلال الرقم 19 وتمثّلاته، ويعكس ذلك على العمل الفنّيّ التركيبيّ الحيّزيّ. الأمر يمتدّ إلى مقاربة مخيالات استشراقيّة بشأن الثقافة العربيّة وتفكيكها، عن الإيروتيكيّ وموقع المتعة الجسديّة من الثقافة العامّة والخاصّة.

 

من صالة عرض «دارة الفنون» (2023)

 

إنّ مهمّة نزع كولونياليّة التاريخ تقوم على افتراض أساسيّ؛ أنّ التاريخ ليس كيانًا رأسيًّا واحدًا محدّدًا ومنغلقًا، كذلك لا يوجد ماضٍ واحد فقط، بل ماضٍ متشابك، له غير مساحة تأويل واحدة، وأنّ ما نسمّيه بالواقع إنّما هو واقع بصريّ، يمكن تأويله من خلال تفكيك تلك الديناميّات الحداثيّة والاستعماريّة، الّتي أدّت إلى مراكمة ميلانخوليا تاريخيّة، لا يمكن تفكيكها دون الاعتماد على الفنون القائمة على البحث والاستقصاء، والمساحات الفنّيّة الثقافيّة الاجتماعيّة.  

 

في سياسات الرؤية

في مقالة حول حركة الفنون السوداء في بريطانيا، في الثمانينات من القرن الماضي، قدّم المُنظّر الثقافيّ والسوسيولوجيّ ستيوارت هول مفهوم ’التجميع‘ (Assembly)، الّذي سنعمل على توظيفه جزئيًّا في مقاربتنا النازعة للكولونياليّة للفنون البصريّة، باعتبار أنّنا عربًا وذوات مستعمرة مصادر للمعرفة، من خلال تلك المقاربات.

 يقول هول: "كيف يمكن أن نبدأ بـ ’تجميع‘ ذواتنا موضوعًا للمعرفة النقديّة؟ إنّنا لا نطمح إلى تفسير حاسم... ما أحاول أن أفعله هو رسم خريطة للفنون السوداء... جزءًا من لحظة ثقافيّة سياسيّة أوسع، متتبّعًا بعض الدوافع الّتي دخلت في صنعها، واقتراح بعض الترابطات بينها. أنا ’أجمع‘ هذه العناصر، ليست وحدة، بل بكلّ تشتّتها التناقضيّ. بتبنّي المقاربة الأنسابيّة (Relational – Cultural Theory)، يبدو العمل الفنّيّ نفسه، ليس في اكتماله موضوعًا جماليًّا، بل عنصرًا تكوينيًّا في نسيج العالم الأوسع للأفكار والحركات والأحداث".

بناء على هذا الطرح؛ فإنّ ’التجميع‘ يرفض البحث عن "تفسير حاسم"، بل إنّه، وبالاعتماد على مقاربة ثقافيّة، يطمح إلى تحديد العوامل السياقيّة المتّصلة، أو حتّى المتضادّة، وتجميعها وسبر أغوارها، الّتي تمكّننا من فهم ظواهر عدّة تحت عنوان واحد، حتّى لو بدت على غير ارتباط مباشر. وهو ما يتقاطع نوعيًّا مع ما يطرحه المُنظّر الماركسيّ المعروف أنطونيو غرامشي بتسمية أخرى، وهي ’الاقترانات‘ (Conjuncture)، وهو اندماج قوًى متناقضة تتماسك في ما بينها بما يكفي لتكوين تشكيلٍ ما محدّد.

غير أنّ هول يشير إلى أنّ "القوى الفاعلة في الاقتران ليس لها منشأ واحد، أو اتّجاه أو سلّم زمنيّ، بل إنّها تعرف بتمفصلاتها (Articulations) لا بتسلسلها الزمنيّ (Chronology)، أي أنّ اللحظات الاقترانيّة تدخل إلى المشهد عندما تتلاقى عوامل مستقلّة من نواحٍ عدّة، بحيث تدفعنا إلى التفكير فيه بوصفه شيئًا متكوّنًا جديدًا". يمكننا هنا، وبتفعيل هذه المقاربة فهم موقع أعمال عليّ ق من فنون التجريد الفنّيّ وتحيّزاتها، فأطروحاته البصريّة إنّما - وإن توسّمت التجريد والتشخيص ثنائيّة، إنّما تحدّد موقعًا تابعيًّا (Subalternity) في المنظومة الاستعماريّة والعلاقة ما بين شرق وغرب، ومركزيّات ثقافيّة - تعطي الشكل التركيبيّ الفنّيّ الثقافيّ شكلًا وموقعًا، والأهمّ وحدة تخيّليّة لا يمتلكها، بل تتحدّد من خلال شكل المقاربة طبقات العمل المتداخلة والمتقاطعة، وأحيانًا المتناقضة. 

إنّ مقاربة هول المطروحة أعلاه هنا – باقتضاب - تدفع إلى المزيد من الوثوق التحليليّ بتعقيد الظواهر الاجتماعيّة والثقافيّة التاريخيّة. إلّا أنّها تشير إلى اللاتماسك النسبيّ بجانب التعقيد، باعتبارهما سمتين أساسيّتين ومهمّتين للتعامل الفكريّ والنقديّ مع تلك الظواهر، من خلال فهم الحركات والحقب الثقافيّة، وليس العمل ومقولاته المباشرة، إن كان ثمّة عمل ذو مقولة مباشرة.

 


 

عبد الله البيّاري

 

 

طبيب وأكاديميّ وباحث مستقلّ، مهتمّ بالدراسات المكانيّة والحيّزيّة ودراسات الجغرافيا الثقافيّة. محرّر أكاديميّ زائر في عدّة دوريّات أكاديميّة محكّمة، ويعمل مستشارًا ثقافيًّا لـ «مؤسّسة خالد شومان – دارة الفنون».